هل شرعت خطب الجمعة لمعالجة قضايا وأحوال الأمة الآنية والملحة أم لتحاشيها ؟؟؟
إن الله عز وجل أمر عباده المؤمنين في محكم التنزيل بالسعي إلى ذكره إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ، وذكره سبحانه وتعالى إنما هو عبارة عن عرض أحوالهم وقضاياهم الآنية والملحة على الكتاب والسنة لتصحيح ما اعوج منها وتقويمه ، وليس ذكره مجرد تسجيل الحضور في المساجد .
ولقد كانت خطب الجمعة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن خلفائه الراشدين تعالج أحوال وقضايا الأمة الآنية والملحة كما سجل ذلك التاريخ ، وكانت الأمة تهتدي بها إلى ما أوجبه الله عز وجل عليها في تلك الأحوال والقضايا من تصرفات ومواقف وأفعال وأقوال .
وما حادت خطب الجمعة عن الهدف الذي سطره لها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا بعد تراخي الزمن عن زمن النبوة وزمن الخلافة الراشدة ،وما تلاهما من أزمة كانت الأمة فيها ما تزال بخير ملتزمة بهدي النبوة و هدي الخلافة الراشدة .
ومع تحول خدمة الإسلام إلى استخدامه من طرف ولاة أمور الأمة في فترات تاريخية ،حادت خطب الجمعة عن هدفها ، وصارت تستخدم الدين ولا تخدمه .
ومع الجزم بأن كل موضوع قد يطرق في خطب الجمعة لن يخلو من فائدة ، ولو اكتفى الخطباء بتلاوة بعض الآيات من الذكر الحكيم أو بسرد بعض أحاديث سيد المرسلين لانتفع الناس بتذكيرهم بها إلا أن الفائدة تكون أكبر لو أنهم تابعوا معالجة أحوالهم وقضاياهم الملحة بعرضها على الكتاب والسنة لتوجيههم إلى ما يجب عليهم وما يلزمهم في التعامل معها لتستقيم حياتهم على هدي الله عز وجل ،وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم .
أما تجاهل أحوال وقضايا الأمة ،والانصراف عن تناولها في خطب الجمعة إلى ما ليس من الأولويات الملحة التي تستوجب التقديم ،فهو تعطيل لدور هذه الخطب، الشيء الذي يجعل الناس يفقدون الثقة في المنابر ، ويكون حضورهم في المساجد لمجرد تجنب إثم التخلف عن الجمع ليس غير . وبسبب عدم معالجة قضاياهم وأحوالهم في خطب الجمعة لم يعد الناس يبكرون إلى المساجد كما رغّب في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصار معظمهم يحضر في آخر ساعة، وهي ساعة أجر من يقدم بيضة عوض أجر من يقدم الدجاجة والشاة والبقرة والبدنة بل أغلبهم لا يدرك حتى أجر قشرة البيضة ، وقد دفعهم إلى عدم التبكير إلى المساجد روتين الخطب التي تعاد عليهم لسنوات وتكون مواضيعها في واد ، وأحوالهم وقضاياهم في واد آخر .
جميل ومفيد أن يخطب خطيب على سبيل المثال لنصح الناس عن إمساك ألسنتهم عن السوء ، وقولهم الخير أو الصمت كما أمر بذلك الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم مع تحذيرهم من حصائد الألسنة التي تكب الناس على وجوههم في نار جهنم والعياذ بالله ، ومن الكلمة المسخطة لله تعالى التي تهوي بصاحبها سبعين خريفا في جهنم ، ولكن لا يجب أن ينتهي النصح عند هذا الحد دون الإشارة إلى ما في استعمال الألسنة من خير كثير إذا ما أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر ونصحت لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم خصوصا إذا عز المعروف في حياة الناس ، وفشا فيهم المنكر ، وساءت أحوالهم ببعدهم عن هدي الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم . أما حث الناس على الصمت في مثل هذه الأحوال السيئة، فإنه سيحولهم إلى شياطين خرس لا ينكرون ما يجب أن ينكر من منكرات. وأول من يجب عليهم تنكب السكوت حيث لا يحسن هم خطباء الجمعة الذين لا يجب أن يكون حرصهم على اعتلاء المنابر خوفا على أجر الخطابة المادي الذي هو أبخس أجر على الإطلاق ، فيحيدون بسبب ذلك عن هدف خطب الجمعة ، ولا يتناولون فيها ما يحتاجه الناس فيما يواجهونه من أحوال لا بد أن تضبط بالكتاب والسنة ، ولا يستثنى منها حال بل يكون الملح منها والآني هو المقدم قبل غيره ، وحتى حين تتساوى الأحوال في الأهمية والإلحاح يكون التقديم للأهم والأكثر إلحاحا مما تدعو إليه الضرورة .
وكيف يمكن أن يقنع خطيب يأمر الناس بالتزام الصمت وهم يرون المنكر بأمهات عيونهم وهو يتنكب معالجته في خطبه ؟ ألا يخطر بباله أن الناس يتساءلون في نفوسهم أو فيما بينهم عن سكوته الذي لا يحسن عن معالجة ما تدعو إليه الحاجة والضرورة ؟ وهل يكون سكوته عن ذلك حكمة ؟ وأي خير يكون فيه ؟ أوليس السكوت على ما لا يحسن السكوت عليه مما يغضب الله عز وجل أيضا ، ويهوي هو الآخر بصاحبه سبعين خريفا في جهنم أو أبعد من ذلك بكثير أوكما تهوي الكلمة من سخط الله بصاحبها إلى نفس الدرك لأن من السكوت أيضا ما يسخطه سبحانه وتعالى ؟
وإذا كانت الدعوات ترتفع باستمرار للمطالبة بحرية التعبير في مجال العمل الإعلامي، فمنابر الجمعة أولى من غيرها بهذه الحرية . وإذا كانت الأصوات ترتفع للمطالبة باستقلالية القضاء ، فمنابر الجمعة أولى منه بهذه الاستقلالية .
وفي الأخير نؤكد أن خطب الجمعة لن تستعيد دورها في توجيه الأمة إلى هدي ربها سبحانه وتعالى ، وهدي رسولها صلى الله عليه وسلم ما لم تعد إلى سابق عهدها في معالجة أحوالها وقضاياها على ضوء الكتاب والسنة ،لا يخشى الخطباء في الله لوم لائم ، ولا يحابون ، ولا يدارون ، ولا يسكتون حيث لا يحسن السكوت ، ولا يدعون الناس إلى ذلك ، ولا يشجعونهم عليه ، وخير لهم أن يسكتوا ـ بضم الياء ـ من أن يسكتوا ـ بفتح الياء .
وسوم: العدد 913