الهجرة أمل وعمل (مهاجرون وأنصار)
خطبة الجمعة 8/11/2013م
د. محمد سعيد حوى
وتحل بنا ذكرى الهجرة العظيمة
وينقضي عام هجري ، وها هو عام هجري جديد يحل بنا
وهاهنا وقفات:
- لنا أن نقف مع العام الهجري المنقضي، أهو عام؟ أم سنة؟
هو سنة أخرى من الشدة والكوارث والدماء التي سفكت من المسلمين، إن في فلسطين؛ في القدس أو في غزة، أو في بلاد إسلامية أخرى (في مصر وسوريا والعراق).
فلن ينس المسلمون مجزرة رابعة والتهضة والحرس الجمهوري ولا مجازر الكيماوي والحاويات ومحطات الوقود في سوريا، وغيرها من الآلام.
- لكن المسلم يواجه ذلك بالإيمان والعمل والأمل، وإذ كانت الهجرة محطة الانطلاقة لإيجاد المجتمع المسلم، ومن ثم الدولة المسلمة، ومن ثم الأمة المسلمة، ومن ثم الحضارة الإسلامية؛ بعد أن كان المسلمون مجرد أفراد وكانت الشدائد تحيط بهم في من كل حدب وصوب، وكانوا لا يستطيعون أن يعلنوا عباداتهم وشعائرهم، ومع ما مر بهم قبل ذلك من حصار شديد، وما كان من أحوال للنبي صلى الله عليه وسلم سبقت الهجرة؛ كرحلته إلى الطائف، وما تحمله صلى الله عليه وسلم.
- من رحم هذه الآلام كلها كان الأمل؛ فكانت الهجرة؛ الهجرة مصدر الأمل ومنهج العمل؛ فإذ تكونت بالهجرة الدولة انطلق المسلمون في كل الآفاق: جهاداً وتضحية وعبادة ودعوة، من هنا يجب أن ننتبه إن الهجرة ما كانت يوماً فراراً ولا خوفاً ولا ضعفاً، بل هي منهج حياة لإعلاء كلمة الله.
ولقد فصلت الآيات القرآنية مسيرة الأمة فكانت الهجرة واسطة العقد في ذلك وعليها بنيت كل الثمرات﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ،الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 41-42]
﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النحل: 110]
﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [الحج: 58-59]
﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [النساء: 100]
- ومهما أردنا أن نستعرض دروساً في الهجرة فسنقف على الكثير الكثير، فهل تريد أن نقف على:
- منهج الإسلام في الأخذ بالأسباب مع التخطيط والتدبير في ظل كمال التوكل على الله سبحانه وتعالى، ففي الهجرة اجتمع عالم الاسباب والمعجزة في آن معاً.
- أم تريد أن نتكلم عن شخصية الأمة المتميزة من خلال تاريخها، ولماذا اختار عمر الهجرة مبدأ التأريخ الإسلامي.
- أم تريد أن نتحدث كيف أن الهجرة ثمرة الصبر والتضحيات والعبودية الخالصة لله لتحقيق الحق والتوحيد والحرية والكرامة في ظل مدرسة التزكية الأصفى.
- أم نتحدث عن الهجرة وأنها مدرسة الحب لله ورسوله، ومدرسة الفداء، ومدرسة الأخلاق، ومدرسة القيادة.
- أم نتحدث عن الهجرة طريق النصر، وطريق القدس.
- أم نتحدث عن المقدمات التي من خلالها تم التأسيس للهجرة، فلقد سبقت الهجرة ببيعتين:
- أما البيعة الأولى: بيعة العقبة الأولى فكان مضمونها ما رواه عبادة بن الصامت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ) صحيح البخاري، 18.
- ولو تأملنا في هذا النص فإنه منهج بناء الإنسان المتكامل؛ فالأساس الأول في ذلك:التوحيد.
والأساس الثاني: الأساس الأخلاقي.
والأساس الثالث: الأساس التشريعي في ظل قيادة ونظام ومجتمع.
ولولا وجود هذه البيعة ما تمت هجرة، وما تمت بيعة العقبة الثانية التي أوجدت الإسلام السياسي الشامل ومضمونها ما رواه عبادة بن الصامت، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ) صحيح البخاري، 7199 .
- أما نتكلم عن بناء الدولة وأسسها في ظل الهجرة، من النواحي التعبدية والدستورية والإنسانية والصحية والاقتصادية، وخاصة قضية الإخاء والمسجد، فنحن أحوج ما نكون إلى هذه المعاني اليوم، كما ترون فثمة آفاق عظيمة في ظلال الهجرة.
- لكن دعوني ألفت النظر إلى أمر مهم له مسيس الصلة بواقعنا اليوم وهو:
إنه لا يمكن أن تكون هجرة إلا إذا كان هنالك أنصار، وطالما تحدثنا عن الهجرة لكنه قد يفوتنا أن نتحدث عن الأنصار ودورهم وفضلهم وواجباتهم، فأي مجتمع مسلم يتكون دائماً من المهاجر والأنصار، فلئن فاتك أيها المسلم أن تكون مهاجراً بالمعنى الدقيق الكامل؛ فلا يجوز بحال أن يفوتك معنى أن تكون أنصارياً، ودعونا نقف مع هذه الحقائق في ظل القرآن الكريم، عندما يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72]
فالمسلم إما مؤمن مهاجر مجاهد، وإما مؤمن أنصاري مجاهد، يربط بينهما ولاء عميق قائم على الحب والود والنصرة والتضحية.
ومن خلال هذا الولاء العميق والتكامل بين المهاجرين والأنصار تتجلى حقيقة الإيمان الكامل ، لذا قال بعد ذلك سبحانه ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 74]
ونقرأ في سورة الحشر ﴿ لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 8-9]
ولو عدنا إلى السورة ذاتها فقد بيّنت أصنافاً أربعة: مهاجرين، أنصار، من يأتي بعدهم على منهجهم محباً لهم مستغفراً لهم﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]
فإن لم تكن واحداً من هؤلاء ستكون لا محالة في الصنف الرابع الذي نددت به الآيات وحذرت منه ومن مآله وصفاته:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوَهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ [الحشر: 11-12]
وهنا لفت نظر خطير أن المنافقين ينصر بعضهم بعضاً وينصرون الكافرين مع كونهم في ذلك أجبن من أن يواجهوا المؤمنين، فكيف لا يكون المؤمن نصره وحبه وولاؤه مصروفاً للمؤمنين،﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73] لذلك نواجه اليوم دعوات تحاول أن تمزق صفوف المؤمنين وتفرق بينهم، وتسمي المهاجرين لاجئين وتعفي عن المصطلحات القرآنية وتحاول أن تشعر الآخرين وكأن ثمة من جاء يحاصص الآخر في لقمة عيشه أو اقتصاده أو أرضه، مع أننا لو نظرنا نظرة أعمق إيمانياً وإنسانياً واجتماعياً بل واقتصادياً ثم نظرنا مرة أخرى فلاحظنا كيف أن هذا المهاجر قد نكب في ماله وأهله وعرضه ودياره، وخلّف وراءه الدمار والدماء، ولولا ذلك ما كان ليقبل على نفسه أن يكون سبباً في إيقاع حرج أو ألم أو ضغط أو منافسة لآخر، فهنا إذاً نستشعر أولاً فضل الله علينا بالأمن والأمان، ونستشعر واجب شكر النعم، ونستشعر الواجبات التي تترتب على الأنصاري تجاه أخيه المهاجر امتثالاً لأوامر الله سبحانه، كما أن المهاجر يحرص أن يجسد أخلاق الإسلام العظيم في العفة والتعاون والتخفيف عن الآخرين، لذلك كانت هذه الآية أبلغ ما يكون في وصف هذا المجتمع المتكامل:﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]
وقوله تعالى في وصف هذا التعفف من قبل المهاجر:﴿ لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273].
سمعنا أروع الأمثلة التي ضربها المهاجرون والانصار في التضحية والفداء والإيثار والبذل (عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ، تَزَوَّجْتَهَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لاَ حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الغُدُوَّ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَزَوَّجْتَ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «وَمَنْ؟» ، قَالَ: امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: «كَمْ سُقْتَ؟» ، قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ - أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ -، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ») صحيح البخاري، 2048.
والحق يقال إننا نسمع اليوم أيضاً نماذج راقية من البذل والاحتضان والعطاء في بلدان إسلامية وهم يحتضنون إخوانهم في مأساتهم الكبرى في سوريا أو غيرها، فلا شك أن هذا يجسد من جديد معاني مجتمع المهاجرين والأنصار.
الخطبة الثانية:
من قبل هاجر من هاجر نتيجة السياسات الفرعونية القائمة على الإستكبار والإستبداد والظلم والخداع والنفاق والسحر ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ ﴾ [غافر: 26]
والاستخفاف بالآخرين (﴿ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴾ [الشعراء: 54]
فإن الأمة تواجه اليوم في بعض بلدانها السياسات ذاتها، ولكن المؤمن يواجه ذلك كله بالأمل والعمل كما كانت الهجرة كذلك، وهو مؤمن بقوله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]
فأين يفر هؤلاء الظلمة في أحكامهم الظالمة الجائرة وقد قال تعالى:
﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 81]
لكن ذلك كله وإذ نستعرض دروس الهجرة يؤكد على وجوب ثبات المؤمن وثقته بالله واستعداده للتضحية وتحليه بالصبر مع العمل والاعداد والتخطيط والتدبير ﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾ [الحج: 15]
ولذلك لئلا تيأس في ظل الظروف القاسية ولا تظن أن النصر بك، وأن الله محتاج إليك، بل أنت المفتقر إلى الله جاء قوله تعالى: ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]
والمعنى الذي أريد الإشارة إليه أن نصر الله قادم قادم، لكنك بين خيارين: خيار أن تحمل شرف العمل لهذا الدين ولأمة الإسلام أو تكون من الخاسرين
﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]