عظمة التشريع بين الامتثال والانفلات
خطبة الجمعة 28/6/2013م
(الحجاب نموذجاً)
د. محمد سعيد حوى
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [الأحزاب: 59]
تأتي هذه الآية الكريمة في سورة الأحزاب ثمرة من ثمار التحقق بالصدق مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتطهر مما يخالف ذلك أثراً عن التعرف على الله ورسوله، وفي سياق تطهر المؤمنين من أن يقعوا في إيذاء في حق الله ورسوله والمؤمنين، وتحذير الآخرين من ذلك.
تفتح لنا الآية آفاقاً من النظر:
1- لماذا يحاربون الإسلام في عقائده وتشريعاته وقيمه؟
2- ماذا عن مقاصد التشريع في الإسلام؟
3- ماذا عن الحجاب؟
أولاً: لماذا يحاربون الإسلام؟
ثمة قضايا يتخذ بعض من ينتسب إلى الإسلام فضلاً عن أعدائه مواقفاً سلبياً شديداً؛ وبسببها تجدهم يقفون من الإسلام كله هذا الموقف المعادي، ومنها:
1- قضايا الحجاب، والتبرج، والاختلاط، ومسائل تتعلق بالمرأة كالشهادة والتعدد.
2- تحريم الربا.
3- العقوبات.
4- الولاء والبراء.
5- القيم والهوية. وهذه يتفرع عنها أمور، كالفن، والسياحة، وأحكام الخمر.
ستجدهم يقولون نحن لا نحارب الإسلام؛ بل نحارب التكفيريين، والإرهابيين، والمتزمتين، والمتشددين، والمستغلين، والظلاميين، والاحتكاريين، وفي الواقع عندما ننزل إلى آفاق البحث الحقيقي نجدها مجرد شعارات تُرفع، وليس لها هدف حقيقي إلا اقصاء الإسلام عن واقع الحياة، ومحاربة المصلحين,
ولا نستغرب فقد قال المنافقون من قبل : ﴿ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ﴾ [البقرة: 13]
فرد الله عليهم ﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13]
وقال قوم نوح كما بيّن سبحانه: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ [هود: 27]
يصرون أن يكون صراعاً عقدياً فكرياً قبل أن يكون سياسياً، ونقول يقبل الإسلاميون أن يكون الصراع سياسياً تنافسياً؛ أي فهم مستعدون لكل آليات تداول السلطة، ولا نفرض على الناس شيئاً، ولا نصادر إرادة الناس، ومن حق كل إنسان أن يعرض فكره وعقيدته على الآخر، وليس للآخر أن يقصيه، أو أن يحاربه بسبب عقيدته أو فكره، فالله تعالى يقول: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، ويقول: ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ، إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 22-26]، ويقول: ﴿ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، لكنهم يصرون أن يجعلوه صراعاً عقدياً فكرياً، ثم يتخذون موقفاً عدائياً من دعاة الإسلام وأهله، ويصرون على إقصائه.
ولو أنهم فقهوا حقائق الإسلام في هذه الجوانب وغيرها؛ ما كان لهم لينفروا منها، أو يتخوفوا منها، فما هي إلا إصلاح وصلاح، ومن غير إكراه، وفي الإسلام وأحكامه ما يسع الجميع، على اختلاف تنوعاتهم، إلا من كان مجرماً حقاً.
إذاً عندما نتحدث عن تطبيق الإسلام وأحكامه فلا نتحدث عن استغلال دين ولا إقصاء لآخر، ولا فرض رؤية، ولا إكراهاً في حجاب، ولا تقطيع لأيدي، ولا رجم لأحد، ولا منع لفن نظيف.
بل نتحدث عن:
- يد نظيفة، أمينة عفيفة.
- عدالة وحقوق.
- حرية وأمن وكرامة.
- شورى لا استبداد فيها.
- وقانون ومحاسبة لا تمييز فيه.
- قيم ربانية؛ حق لنا وواجب علينا.
- أن يكون قرآننا مصدر تشريعاتنا.
- ولا يتعارض كل ذلك مع حفظ كل الحقوق للمكونات الأخرى في كل مجتمع.
ثانياً: وإذا نظرنا إلى مقاصد التشريع في الإسلام:
نجد أنه من إكرام الله للإنسان لم يشرع تشريعاً إلا بيّن لنا حكمته ومقاصده، ليجعل العقل والقلب يتفكّر ويتدبّر ويتفاعل.
خذ مثلاً عندما يتحدث عن أحكام النظر والحجاب في سورة النور مرة يقول: ﴿ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ [النور: 30]
ومرة يقول: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]
وعندما يحدثنا عن أحكام الصوم تجده يقول (لعلكم تتقون)
وعندما يحدثنا عن الزكاة : ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]
وعندما يحدثنا عن أحكام شهادة النساء ﴿ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282]
وعندما يحدثنا عن تعدد النساء يقول: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3]
وعندما يحدثنا عن الطلاق يقول سبحانه: ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾ [الطلاق: 1]
بل وعندما يحدثنا عن اعتزال النساء في المحيض يقول: ﴿ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]
وهكذا لن تجد تشريعاً إلا مقروناً بعظمته وعظمة مقاصده مخاطباً عقلك وقلبك.
ثالثاً: وإذا جئنا إلى قضية الحجاب:
فمما يلفت نظرك:
ما اشتملت عليه الآية الكريمة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [الأحزاب: 59]، من تعظيم لهذا الأمر وبيان مقاصده ومن مظاهر التعظيم لهذا الأمر الإلهي:
1- البدء بالنداء (يا أيها النبي)؛ فخاطبنا من خلاله عليه الصلاة والسلام.
2- ربط الحكم ابتداء بأزواجه وبناته وفيه اشعار لكل نساء الأمة أنهن القدوات العظام، وأن هذا الأمر العظيم أول ما توجه إلى هؤلاء النسوة الطاهرات العفيفات الكريمات، فالأمر إذاً ليس متعلقاً بتشكيك لأحد، بل هو غاية الطهر والعفة والاقتداء بأهل الطهر والعف، ولو فقهت المرأة معنى أن تقرن هنا بأزواجه وبناته صلى الله عليه وسلم في هذا الحكم، وحقيقة التكريم فيه، لما رضيت عنه بديلاً.
3- وذكّر نساءنا بالإيمان إذ قال: (ونساء المؤمنين) إشعاراً أن هذ الحكم الإلهي إنما يستجيب له أهل الإيمان، وكذلك عندما جاء الحديث عن الحجاب في سورة النور، قال (قل للمؤمنات) وعليه فالمؤمنة التي تستجيب لأمر الله في الصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج فإنه هو سبحانه الذي أمر بتلك الأوامر فقد أمر بالحجاب أيضاً ومن شأن المؤمنة أن تعبر عن برهان إيمانها وصدقها بأن تستجيب لأمر الله في كل ذلك.
4- ومن مظاهر تعظيم هذا الحكم بيان حكمته: (ذلك أدنى أن يعرفن) أي يُعرفن بالعفة والحشمة والطاهرة والابتعاد عن الرذائل، فلا يمكن لإنسان أن يتعرض لهن بسوء.
5- جاء ذلك كله في سياق آيات تحدث عن الصدق مع الله ورسوله والتطهر من الوقوع في الايذاء في حق الله أو رسوله أو المؤمنين، وفي سياق ضرب المثل الأرقى بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيهن ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ [الأحزاب: 33]
كلمات حول الحجاب:
1- لو كانت ممرضة تعمل في مشفى ألا تلتزم بقواعد لباس المشفى، فلماذا لا تلتزم المرأة بأمر ربها؟
2- تجد أتباع الديانات السابقة كالراهبات يلتزمنا حجاباً، دل ذلك أمن الحجاب في كل الشرائع، لكن الإسلام لا يفرق بين من يسلك سلك رجال الدين أو غيره.
3- عندما تتأمل في الحجاب تجد فيه معاني الإنسانية والرقي، فكل ما ارتقى الإنسان مال نحو الستر.بينما تجد مخلوقات أخرى تتسافد في الشوارع.
4- الحجاب تقدم وارتقاء، فلو نظرت في الإنسان البدائي تجده أقرب إلى العري ﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33].
5- وكلما ابتعد الإنسان عن إثارة الغرائز كان أقدر على التحصيل العلمي والتفكير العقلي.والحجاب يساعد على ذلك.
6- الحجاب مصدر ثقة بين الأزواج وادّعى إلى الاستقرار وهدوء النفس، والطمأنينة، وعدم اثارة الغرائز من غير ضوابط.
7- هو ثقافة وهوية ورمز وسلوك وانضباط.
8- وهو حقيقة إيمانية في النهاية كما قلنا، مهما اختلق الإنسان مبررات ومعاذير.
فإن قالوا هو قيد على الحرية، جاء الجواب ألم تجد هذا الإنسان يقيد الإنسان في أمور كثيرة (تحديد الأسعار، تحديد السرعة، منع التدخين في أماكن، منع المخدرات) ومع ذلك فحال المؤمنة إذا شعرت لحظة أنه ربما سبب لها الحجاب نوع مضايقة استذكرت قوله تعالى: ﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَراًّ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81]
فكما كُلف المؤمنون بالجهاد مثلاً مع ما فيه من مشقة فإنه يحتملون ذلك لما يرتب على الجهاد من ثمرات عظيمة.
وأخيراً: فالله تعالى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وكذلك شأن الحجاب.
الخطبة الثانية:
حذّرنا سبحانه من مقاصد أعدائنا فينا، فقال: ﴿ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الممتحنة: 2]
وأيضاً ﴿ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 47]
أقول هذا سياق ما نلاحظ أن أنظمة ودول ترتكب أفظع الجرائم في حق الإنسانية حتى يقتل عشرات الآلاف، ثم تحدث حوادث معزولة مرفوضة مدانة مستنكرة من أفراد مجهولين كقتل الفتى في حلب أو حادثة قتل الشيعي المصري المزعوم فلا يسلط الإعلام إلا على ذلك، ثم يتهم بذلك إسلاميون أو سلفيون، مع أن القضية قد تكون مفتعلة أو من جهات متآمرة أو من ردات فعل فردية، مع العلم أن هذا المتشيع المقتول في مصر قد استفز المسلمين كثيراً في شتم الصحابة والسيدة عائشة، ومرة أخرى إذ نؤكد رفض أعمال القتل تجاه من يخالفنا الرأي من دون محاكمة نؤكد ضرورة أن هذه الأفعال مفبركة أو مقصودة لإحداث الفتن وتشويه الإسلام والمسلمين، ولا بد أن نكون على وعي من حيث رفض التشويه ورفض الاتهامات بالباطل مع كوننا لا نرضى عن هذه الأعمال، ونحذر ماذا وراءها.
أسأل الله أن يبلغنا وإياكم شهر رمضان على خير وأن يعيننا على التخطيط من الآن كيف نستثمر هذه الأوقات المباركة أعظم استثمار نتعرض فيها لنفحات الله سبحانه، ونزكي أنفسنا ونرقق مشاعرنا، ونلم شعثنا، وننور قلوبنا، ونوحد صفوفنا، ونلتقي في مساجدنا ونعمرها، ونحيي ليالينا في طاعة الله، ونجاهد أنفسنا، ونسمو بأرواحنا، وجوارحنا فنغضي عن المعاصي والآثام، اتقاء وارتقاء ونقاء.