أزمة العالم أزمةٌ أخلاقية
خطبة الجمعة 16 / 1 /2015
25 / ربيع الأول / 1436هـ
أ.د. محمد سعيد حوى
مدخل:
أمام استعلان الشر واستكباره واصرار المجرمين على الإساءة لرسولنا r؛ يزداد المسلمون حباً وقرباً من رسول الله r ويزدادون تفاعلاً مع قضية الانتصار له r.
وإن قضية الانتصار لرسول الله r تكمن في نقطتين رئستين:
الأولى: امتلاك القوة.
الثانية: الأخلاق.
قال تعالى: (وأعدوا لهم ..) فعندما تمتلك الأمة المؤمنة القوة مع كونها تلتزم بالمنهج الأخلاقي العظيم فإنها لا تستخدم هذه القوة إلا في مكانها الصحيح، وتمنع الأخرين من أن يستخدموا قوتهم في اعتداءٍ على الأمة أو تجاوزٍ أو انتهاكٍ للحرمات والمقدسات.
وبين أيدينا الآيات الكثيرة التي تعظّم قضية الأخلاق فيه r، قال تعالى ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]
إنه بمقدار ما يكون التراحم والعطف واللين والعفو والشورى بين المؤمنين وقيادتهم يكون ذلك أدعى إلى القوة واحترام الأمم لنا.
وقد نكون في حالةٍ لانتمتلك فيها القوة فيبقى الجانب الأخلاقي في مواجهة كل شيء وتعرية أخلاق الأخرين بالحق ولذلك في مثل هذه الأجواء نزلت ﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ، وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ، بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القلم:1- 7]
وكأن الآيات تبين جانباً من اعتداء المجرمين المشركين على شخص النبي r حتى وصفوه بالجنون فكان رد الله عليهم إن لك في ذلك مزيداً من الأجر والرفعة ثم إنه يواجه كل ذلك بأخلاقه العظيمة ثم سيرون النتيجة وينكشف الحق وينكشف كلٌ على حقيقته.
والواقع اليوم لو أردنا أن نبحث في أزمة الإنسانية اليوم ككل؛ لوجدنا أن أزمتنا أخلاقية بالدرجة الأولى ...
كيف ذلك؟
1- فهل يعقل أن ترى شعوباً تُقتَّل بعشرات الألوف ثم لا أحد ينظر إلى قضيتهم؟ بينما يقتل أفراد من أمم أخرى (مع إدانتنا لقلتل الأبرياء والمدنيين) فينتصر العالم لهم؟!
2- هل يعقل أن ترى جموعاً تموت جوعاً أو برداً أو صقيعاً؟ بينما هنالك من يُبذر مليارت في الملاهي والفجور والترف؟!
3- هل يعقل أن تجد قاتل هو نتن ياهو و يداه ملطختان بالدماء، وهو شر ارهابي على وجه الأرض الآن؛ أن تجده مشاركاً في إدانة إرهابٍ ما، كيف يمكن للعقل أن يقبل ذلك؟؟!
إذن أين الأخلاق؟؟!!
4- عندما تصرف مليارت على التسليح والقتل بينما الفقر يتعمق في كثير من الدول، أين الأخلاق ؟؟؟!
5- هل يعقل أن تجد بعض من ينتسب إلى العلم الشرعي ثم يرضى على نفسه أن يُبيح الخمر أو صوراً من الربا؟!
6- هل يعقل أن تجد بعض من ينتسب إلى العلم الشرعي ثم يفتي بقتل المدنيين أو يقول اضرب بالمليان؟
7- هل يعقل أن تجد من ينافق لمسؤول أياً كان فيصفه أنه كموسى أو عيسى أو هارون؟
8- فضلاً عن إيذاء الجيران وعامة الناس، أو أكل حقوق الأخرين، أو أكل حقوق العاملين، أو احتقار أحدٍ ما، أو سوء التعامل داخل الأسرة، أو الغيبة، أو النميمة، أو شهادة الزور، أو الرشوة، أو عدم اتقان العمل، أو عدم احترام مشاعر الأخرين.
إذن مشكلتنا الأساسية في الأخلاق
لا شك أن الأخلاق مرتبطة بالتزكية؛ تزكية النفس وتطهيرها وتحقيقها بالعبودية لله وذلك مرتبطٌ بحقيقة الإيمان بالله ولذلك عندما افتُقد كمال الإيمان أو حقيقته فافتُقدت التزكية ومن ثمَّ تعمقت المشكلة الأخلاقية في حياتنا.
فلا نستغرب عندها كيف يحدثنا النبي r أعظم حديث عن الأخلاق مبيناً مكانته وأهميته وخطورته وأثره:
فحُسنُ الخلق كمال الإيمان:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنِسَائِهِمْ»الترمذي /حسن صحيح
وبالتالي كلما كَمُل إيمان الإنسان حَسُنَ خلقه، فإذا وجدت من ليس بذي خلقٍ حسن فليس بذي إيمان والعكس صحيح.
ولذلك كان حسن الخلق علامة الخيرية:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا» البخاري
ولذلك كان حسن الخلق هو البر:
عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» مسلم
وحسن الخلق طريق الجنة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ: «تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ» ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: «الفَمُ وَالفَرْجُ» : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. الترمذي
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» سنن أبي داود، حسن.
وفي حسن الخلق عِظَمُ الأجر:
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ» سنن أبي داود، مسند أحمد /صحيح.
ولذلك عَدَلَ حسن الخلق المقامات العلى وأعظم العبادة:
عَنْ عَائِشَةَ رَحِمَهَا اللَّهُ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» سنن أبي داود/ صحيح.
لذا فليحذر أولئك الذين يدّعون صياماً وقياماً وأخلاقهم سيئة.
وحسن الخلق طريق الحب و القرب من رسول الله r:
عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «المُتَكَبِّرُونَ» سنن الترمذي /صحيح.