درس ما بعد غزوة أُحد
درس ما بعد غزوة أُحد
10 / 10 / 1974
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد :
تحدثنا عن أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المسلمون ، بعد هذا استقبلت الآيات الكريمة أحداث غزوة أحد ، فقال الله تعالى يخاطب المؤمنين ويثبتهم ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شـهداء والله لا يحب الظالمين ) ويقول ( ولقد كنتم تمنّون الموت من قبل أن تلقوه فلقد رأيتموه وأنتم تنظرون ، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ، وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) أعتقد أنكم أدركتم أن هذا المقطع الذي تلوناه الآن ليس غريباً على المقطع الذي شرحناه بالأمس ، فمع أن هذا المقطع يستقبل أحداث الغزوة بعد التمهيد الذي مضى في الآيات السابقة إلا أن طريقة القرآن تخاصي الأحداث ، ليست طريقة السرد والحكاية ، وإنما هي طريقة إيراد الواقعة مضافاً إليها أهم الدروس التي تستفاد منها .
فأنتم تعلمون أن المسلمين زُلزلوا يوم أحد زلزالاً شديداً ، فبعد أن أراهم الله في عدوهم وعدوه ما يحبون ، وبعد أن حلّت الهزيمة في صفوف المشركين ولم يبقَ دون أخذهم قليل ولا كثير ، انقلبت الآية فإذا المسلمون يتعرضون لهجمةٍ مفاجئة وحركة التفافٍ مباغتة تقوم بها خيالة قريش ، بعد أن أخلا الرماة الذين ثبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقعهم ، بعد أن أخلوا مواقعهم ، فتأخذهم المفاجأة ويقع الاضطراب في صفوفهم ويولي مدبراً مَن يولي منهم ويستيئس من يستيئس ، ويشيع بين المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل . في وسـط هذا الهول يُصاب المسلمون بكل هذه العواطف المتضاربة المتباينة ، ناس ألقوا بأيديهم ، وناس فرّوا منهزمين ، وقلةٌ ثبتت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تنضح بالنبل خيل المشركين وترد بالسيوف فرسانهم ، وعدد كبير من خيرة المؤمنين المسلمين سقطوا شهداء في ساحة المعركة حول أُحد ، والمسلمون يتلفتون ولا ريب ويتساءلون عن سر هذه المفاجأة ، أليس هذا رسول الله ؟ أليسوا هم بالمسلمين ؟ أليس أن الله ينصر جنده ويعز دينه فما بالهم تحل بهم الهزيمة بعد أن أراهم الله في عدوهم ما يحبون ؟ فالله جلّ وعلا لم يترك المؤمنين لهذه التصورات ، فربما إغتال إيمانهم لو أتيح لها أن تستمر ، لا بد أن يأتي درس السماء لتثوب النفوس إلى قرارها وليعود ما عزب من الإيمان إلى النفوس وليستيقن الذين آمنوا وليعلموا أن وعد الله حق ، فيقول الله جل وعلا لهم ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) واضح أن الله جلّ وعلا يطلب في هذه الآية من المؤمنين أن يتفكروا ، فهم خلائق في الأرض ، ليسوا أول من سكنها ، ولا أول من يعمرها ، سكنتها قبلهم أقوام جرى عليها من أمر الله ما جرى ، وما أصابها فبإذن الله ، وما أصابها فوفقاً لسنن الله جلّ وعلا ، وهذه السنن مكشوفة يُحسِن الإفادة منها الذين يعقلون ويتدبرون .
من هذه السنن ما ألمحت إليه الآيات التي شرحناها بالأمس ، فبمقتضى سنن الله جلّ وعلا أن الله ينصر رسله والذين آمنوا ، قال الله تعالى ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) وقال أيضاً ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون وأن جندنا لهم الغالبون ) ولكن الله جلّ وعلا كفل النصر وضمن التأييد للذين يُخلصون له قلوبهم ويُصفّون له سرائرهم ويمحضونه الثقة والإيمان ، فإذا اهتزت في النفوس هذه الأمور فإن وعد الله جلّ وعلا سوف لا يشمل هؤلاء الناس .
في الآيات التي مضت أمس تبيّن لنا أنه لا بد للفرد المسلم وللجماعة المسلمة من أن تتحقق لها أوصاف معينة حتى إذا ما دخلت سوح النضال ومعارك القتال تداركها الله جلّ وعلا بالتأييد وبالنصر ، وهذا من سنن الله جلّ وعلا ، وغني عن البيان أن المسلمين في أُحد دخل صفهم شيء يتنافى مع سنن الله جلّ وعلا في الناس ، فمن أجل ذلك لم يكونوا مستحقين للنصر الكامل الذي رغبوا فيه وأرادوه . الله جلّ وعلا صدقهم وعده ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بِإذنه ) والحس هو القتل ( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفى الله عنكم والله ذو فضلٍ على المؤمنين ) وإذاً فنصر الله جلّ وعلا تنزّل على المؤمنين في أوائل المعركة لِمَا علم الله جلّ وعلا من ثبات الصف المسلم وطهارته ونقائه ، حتى إذا فشل بعض المسلمين ، يعني ضعف وذل وجهل ، وتنازع الذين كانوا على فم الجبل الرماة الذين يحرسون ظهور المؤمنين ، وعصوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد أمرهم صلوات الله عليه أن لا يبرحوا أماكنهم إن كان النصر لهم أو حلّت الهزيمة بهم عليهم أن يبقوا فـي أماكنهم . حين تسرّب الخوف إلى النفوس ووُجد العصيان لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم صرف الله المؤمنين عن الكافرين بعد أن أراهم ما يحبون وبعد أن قتلوا منهم نفراً كبيراً ، لماذا صرفهم ؟ ليبتلي المسلمين ، لا بد بعد كل الذي حصل مما يخالف أمر الرسـول عليه السلام ومما يجافي توجيهات الرب جلّ وعلا ، لا بد من الابتلاء والمحنة والتمحيص ، وحقاً وقع الابتلاء ، حصل القرح وحصل الجرح وظهرت شائعات بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُتل .. ورأى المسلمون خيارهم يسقطون صرعى في ساحة المعركة ، ورأوا بقيتهم تقعد بهم الجراح عن مواصلة الجهاد ، وزُلزل المؤمنون زلزالاً شديداً . الله جلّ وعلا يعرف محنتهم ويعرف نتائج هذه المحنة ، بقيت في النفوس مخبآت ، لا بد أن تظهر لأن الله أراد للمؤمنين أن يشربوا الكأس حتى الثمالة وأن يأخذوا العظة حتى آخر درسٍ فيه . في وسط هذه الزلزال العنيف والمحنة القاسية الرهيبة برزت في بعض النفوس عواطف ونوازع دنيوية ، قال الله جلّ وعلا كما سمعتم الآن ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) حينما ظهرت بوادر النصر وإن لم يتكلم الناس وُجد في بعض النفوس ميل إلى ترك الواجب والإكباب على الغنيمة والسلب والمال ، وهذا لا يرضي الله جلّ وعلا ، كما وُجد في الصف المسلم ناس أخلصوا لله قلوبهم وصدقوا التوجه إليه ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) ورحم الله عبدالله بن مسعود لقد كان يقول : ما كنا نظن أن أحداً من أصحاب النبي في أُحد كان تخطر له الدنيا ببال حتى قال الله ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) هذا صف مؤمن خرج لا لغنيمة ولا لغاية قريبة ، لكنه خرج ينصر الله وينصر رسوله وينصر هذه الدعوة وهذا الإسلام ، فما ينبغي أن تكون فيه عواطف غير ذلك ، ومع ذلك فالله جلّ وعلا كان يمكن أن يستر هذا الصف المؤمن وأن لا يمحصه هذا التمحيص ، ولكن على أي حساب ؟ على حساب المستقبل ، حتى ما اختلجت النفوس ولم تتحلَ به الألسنة أظهر الله جلّ وعلا خبيئه ولم يبقه غير معلوم ( منكم من يريد الدنيا ) مجرد خواطر جالت في بعض النفوس لم يتحدث بها أحد ، وأين مجال الحديث والوقت وقت حربٍ وضرب وطعان وقتال ، ومع ذلك فالله جلّ وعلا أبرز هذه النوازع على أنها من جملة الأسباب التي أدت إلى الهزيمة التي حلّت بالمؤمنين بهم .
هذا جانب من سنن الله مضت سنة الله في الأولين أنه ينصر المخلصين ، متى أرادوا الدنيا وركنوا إليها واستحبوها على الآخرة سحب الله جلّ وعلا منهم يده ووكلهم إلى أنفسهم ، ودائم أيها الإخوة المؤمنون هم عصابة قليلة ، لو كان الأمر أمر عدد إلى عدد لأكلهم الكافرون أكلاً ، ولو كان الأمر أمر سيفٍ إلى سيف لوجدت إيزاء كل سيفٍ مثله آلاف السيوف الكافرة ، فالنصر يأتيهم من الله لا من قوتهم ولا من عددهم ولا من المدد الذي يأتي . ما دام الأمر كذلك فلا بد أن يصدق المؤمنون اتكالهم على الله واتجاههم إلى الله جلّ وعلا ، ولا بد أن تصغى قلوبهم فلا يدخلها شيء من أمر الدنيا ، لأن أمر الدنيا ما كان دخلها فسـدت ، فهذه سنة الله فحلّت بهم فحلت الكسرة بالقوة .
ثمة جانب آخر من هذه السنة التي لفت الله جلّ وعلا عباده المؤمنين إليها ، لو تصورنا أن الله جلّ وعلا ينصر عباده في كل موقع لكان حقاً أن نتصور إمكانية تسرب الغرور إلى المسلم ، ومع الزمن ربما يظن المؤمنون أنهم ينتصرون بحولهم وبقوتهم لا بحول الله وبقوته . منذ أسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيف الله الذي سله على المشركين ، وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكرٍ رضي الله عنه وفي زمن عمر رضي الله عنه ما جرّب خالد الهزيمة في موقعةٍ من المواقع ، كلما خاض معركةً كان النصر إلى جانبه ، ونظر عمر رضي الله عنه وإذ الأمر خطير ، تحدث بعض الناس أن خالداً لا يُغلب ، وهذا خطر ، في موازين الإيمان هذا خطر ، الذي لا يُغلب هو الله فقط ، وأما سائر الناس فيُغلبون ويغلبون ، ورأى عمر رضي الله عنه بثاقب بصيرته أن استمرار هذا الشيء يُشكل خطرين : الأول غرور ربما يسكن نفس خالد ، والثاني ظنٌ لا ينسجم مع الحق ربما يستقر في نفوس المؤمنين . وفي عز المعركة وإبان اشتدادها في معركة اليرموك أرسل بلالاً إلى الجيش وقال له : إذا وصلتَ فأمير الجيش أبو عبيدة وتعال إلى خالد وكتّفه بعمامتك واعزله عن القيادة . ونفّذ بلالٌ أمر الخليفة الراشد ، طبعاً نحن نتحدث عن جيشٍ مسلم في أمة مسلمة لا يفكر القائد المعزول في انقلاب ولا ولا ولا ، هذا بين ناسٍ هم ناس ، فعل بلالٌ ما أمر الخليفة به في المدينة ، بين المدينة وبين موقعة الحرب شهر يذهب فيه ذاهب وشهر يجيء ، وحين عُزل خالد ، سأل بلالاً وهو مكتّف : ما الأمر ؟ قال : إن أمير المؤمنين لم يعزلك من ريبة ، لم يجد عليك شيئاًولا هزيمة ولا جبن ولكنه أراد أن تعلم ويعلم المسلمون أن النصر من عند الله لا من عندك ، تصوّرتم إلى أي مدى تبلغ البصيرة بأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ؟ وآخر كان عمر منسجهماً مع منهج الله جلّ وعلا .
من أجل ذلك كان مظهر سنة الله في هذا الجانب أن يداول الأيام بيننا ، قال ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) لم تدم السيادةُ لأمة أبد الدهر ، ولم يدم لها العز ولم يدم لها الغنى ولم يدم لها النصر ، نصرٌ وهزيمة ، عزٌ وذل ، غنى وفقر .. هكذا سنة الله في الناس . لكن هذه السنة ليست شيئاً عشوائياً ، سنة الله مؤسسة على طاعته ، الفئة التي تطيع الله وتتبع أوامره وتذكر الله جلّ وعلا تكون لها السيادة والعزة والغناء ، والإنسان بما هو إنسان ينسى مع الزمن النصر الذي حصل قبل مائة سنة ، ننساه نحن أبناء هذا الزمان ، وننسى تلك الحرارة التي كانت تشد الناس إلى عبادة الله جلّ وعلا ، فإذا خلفت الخلوف وجاءت الأجيال الجديدة فترت الهمم ، وقالوا ( قد مسّ أباءنا السراء والضراء ) أما هم فهم يرون أن الأمور طبيعية وما هم فيه من عصيانٍ وفجور شيء لا غبار عليه ، هنا تتخلف السنة ويخرج هؤلاء الذين نُسـوا بالأمس إلى حالة الذلة والانهيار والهزيمة .. هكذا تتداول سنة الله بين الناس وتتداول الأيام بين الناس .
فالله جلّ وعلا يلفت نظر المؤمنين إلى هذه الواقعة ( قد خلت من قبلكم سنن ) أنتم لستم الوحيدين الذين جرت عليهم سنن الله ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) مع الهزيمة التي حلّت ومع كون الهزيمة ملتزمة مع سنة الله جلّ وعلا بتقصيركم وبما قدّمت أيديكم وبإرادة بعضكم للدنيا وبعصيان بعضكم لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم .. مع ذلك ومع ظهور المشـركين عليكم في هذه اللحظة وإصابتهم إياكم بالجراح وبالقتل ، مع ذلك لا تيأسـوا ، انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، مضت قبلكم أمم ، قوم نوح وقوم لوط وقوم صالح وأقوام أخرى كثيرة ، المؤتفكات ، أمم لا تعد ولا تحصى لا يعلمها إلا الله ، جاءتهم الرسل بالبينات ( فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) كذبوا وعصوا وعتوا على ربهم جلّ وعلا فأخذهم الله أخذةً رابية ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ) والله جلّ وعلا يقتص على المؤمنين في القرآن نبأ هؤلاء الأقوام ويبيّن مصائرهم ومئالهم ، وفي سورة العنكبوت يقص قصص عددٍ من هؤلاء الأقوام ، ثم يعقب جلّ وعلا فيقول ( فكلاً أخذنا بذنبه ) أخذ الله جلّ وعلا بالأقوام وتدبيره بهم ليس إرادة التشفي والانتقام فالله جلّ وعلا لا يصيبه من تعذيب عباده شيء ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً ) ولكنهم بذنوبهم يأخذهم ، بسبب هذه الذنوب ( فكلاً أخذنا بذنبه ) فمنهم من أخذته الصيحة ومنهم من أرسلنا عليه عاصفاً ومنه من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ( وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ماذا يفيد المسلمون من التمثيل بهذه السنة التي يراها الناس أمام عيونهم ، هم ـ يعني قريش والعرب ، يمرون في تجاراتهم إلى الشام ويمرون في تجاراتهم إلى اليمن ، ببقايا قرى ومساكن كان تعمرها أقوام دمر الله عليها ( فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم وكنا نحن الوارثين ) يراها المسلمون حينما يمرون عليها مصبحين وفي الليل ، لمن كانت هذه المساكن ؟ كانت لأقوامٍ أشد قوة وأكثر جمعاً وأكثر جنداً ، ومع ذلك فلا قوتهم ولا ما كانوا يجمعون ولا جندهم ، كل أولئك ما أغنى عنهم شيئاً لما جاء أمر ربك ، فكذلك يلفت الله نظر المؤمنين إلى عاقبة المكذبين مع هذا الظهور التي ظهرته قريش عليكم في ساحة المعركة : لا يداخلنكم الوهن ولا تضعفوا ولا تجبنوا ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) .
وأما زهو الكفر وسيطرته وظهوره بهذه المظاهر المنتفخة فلا شيء ، ويجب أن لا يغرنكم حقيقة ما أنتم عليه من طريقٍ إلى الله واضح مستقيم ، فإن الله جلّ وعلا يمهل للظالمين فإذا أخذهم لم يفلتهم . والنبي عليه الصلاة والسـلام يقول : إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته . تراه يعيش أياماً وليالي وشهوراً وسنين عدداً في العز والخدم والحشم إذا قال سُمع لقوله وإذا أمر نُفذ ، فإذا جاء أمر ربك نزع الله جلّ وعلا كل هذه النعم السوابغ في طرفة عين ، ليجعل ذلك حسرةً في قلوب الكافرين ، فالله جلّ وعلا يريد لعباده أن يكونوا وهم في ساعة النصر على بصيرة من الله ، وهم في الساعة الهزيمة والكسرة على بصيرة من الله جلّ وعلا ، فإذا داخلهم الوهن في هذه الحقيقة فقد شذوا عن سنة الله التي مضت في الذين خلوا من قبل واستحقوا عقاب الله وتمثيل الله في المكذبين ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) هذا إلى أي شيء يشير ؟ قد يكون المراد بهذا ما قص الله جلّ وعلا من نبأٍ سابق ، يعني الآيات التي مرت ، وهذا معقول ، وقد يكون المراد بهذا القرآن كله ، والحق أن القرآن هدى وموعظة للمتقين ، فالقرآن الكريم أنزله الله جلّ وعلا ليجيب على كل سؤال وليحل كل إشكال يطرأ في ساحةٍ المؤمنين ( هذا بيان للناس ) لم يتركهم الله جلّ وعلا رحمة منه ولطفاً بالمؤمنين ، لم يتركهم لكي يجتهدوا ويتصوروا من أجل حل مشاكلهم ، بل بيّن لهم بالمثل ، وبيّن لهم بالعبرة وبين لهم بالتجربة ما يتقون كي يصلوا إلى مرضاة الله جلّ وعلا ( هذا بيان للناس وهـدى وموعظة للمتقين ) ما المراد بالهدى والموعظة ؟ أو بالأحرى ما فائدة الهدى والموعظة حينما تتلى في وسط المعركة حلّت فيها الهزيمة بجماعة المسلمين ؟ فائدتها واضحة ، الإنسان الذي يعرف أنه على حق وليس على باطل إن جرح أو أصيب أو قُتل فذلك لن يزعزع من ثقته شيئاً ، وهو سيمضي في الطريق ، تصوّر أنك تقود معركة ، أنت تعرف أنه في هذا النهر مسافة تبلغ مترين أو ثلاثة أمتار تغمرك ، فأنت قادرٌ على أن تمشي هذه المسافة باطمئنان ، لأنك تعلم أنك ستخرج إلى الأرض الصلبة التي تصل بعدها إلى بر الأمان . كذلك الإنسان الذي يثق بوعد الله ويثق بطريق الله الذي يسير فيه ، مهما اسودت الأيام من حوله ، ومهما تكاثر الأعداء من حوله ، فإن ذلك لن يزعزع ثقته بالنصر ولا بالعاقبة السليمة ، لأنها وعد الله ولأنها سنة الله جلّ وعلا التي لا تتخلف والتي مضت في الأولين وهي سـتمضي في الآخرين .
كذلك يكشف الله ( هذا بيان للناس وهدى وموعظةً للمتقين ، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) لاحظوا هذه التعزية ، ليست تعزية بشر لبشر ، ولكنها تعزية الخالق جلّ وعلا ، في وسط الجراح والكلوم ، وفي ظل الهزيمة يقول لهم ( أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) هذا كلام يُقال للمؤمنين ، وأينما التفت المسلم يرى أخاً للإسلام مقتولاً ومجندلاً على الأرض ، وحيثما نظر المسلم إلى نبيه رأى الدماء تسيل من وجهه ومن جسده الشريف ، ومع ذلك فالله جلّ وعلا يقول ( وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) يأمرهم جلّ وعلا ألا يهينوا ، والوهن هو الضعف ( ولا تهنوا ولا تحزنوا ) للذي أصابكم من الجراح ومن القتل فأنتم الأعلون ، فالله جلّ وعلا سيعلي دينه وسوف يعز جنده وسوف ينصر عباده المتقين ( إن كنتم مؤمنين ) لأي شرط ؟ بشرط الإيمان ( ولا تهنوا ) الوهن هو الضعف الذي يتسرب إلى النفوس شيئاً فشيئاً ، مع الأيام ومع الزمن تنحسر دائرة الإيمان وتضاءل ويبدأ الإنسان يتعايش مع الدنيا ويستوحش من الله جلّ وعلا ، هنا يبدأ الوهن يتسرب إلى النفوس . والنبي صلى الله عليه وسلم تنبأ بحالات من هذا القبيل ، قال للمؤمنين ذات يوم : كيف بكم إذا كنتم في زمانٍ يُغدى عليكم فيه بالطعام ويُراح ؟ أأنتم خير يومئذٍ أم الآن ؟ قالوا : يا رسول نحن يومئذٍ خير . نُكفى الحاجة ونُكفى المؤونة ونتفرغ للعبادة . قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : بل أنتم اليوم خير منكم حينئذٍ . الرجولة معدن ، هذا المعدن كما يلحق الصدى بسائر المعادن يلحق الصدى بالرجولة أيضاً ، لا بد للرجولة من تجارب تمحصها وتكشف عنها الصدأ ، هذا التمحيص لا يكون إلا من خلال الصراع ، من خلال المعارك مع أعداء الله جلّ وعلا ، تربية الرجولة تكون هنا ، الذين تصوروا من الأصحاب أنهم إذا غُدي عليهم في الصباح بجفنة مملوءةً سريداً ولحماً ، وعِيد عليهم في المساء مثلها ظنوا أنهم سيكونون خيراً منهم في تلك الأحوال التي كانوا فيها في غمرة الصراع مع الرسول عليه الصلاة والسلام . قالوا : نحن يومئذٍ خير. قال : لا ، بل أنتم اليوم خير . ظنوا أن الراحة والخمول والدعة وعدم التصدي للواجبات والتكاليف والتفرغ للعبادة في المساجد هو الخير ، مع أن الخير هو الصراع المستمر مع أعداء الله جلّ وعلا ، هذا الصراع هو الذي يحفظ الأمة أن لا تلين ولا تضعف ولا تهن ، إذا انقطع الصراع وجاءت حالات السلم ، وفترات السلم التي يبكي عليها الضعاف والمهازيل والبغاث من الناس فإن الأمة سوف تبدأ بالصدأ ، سوف تصدأ النفوس وتتعفن الرجال ويصبحون كما ترون اليوم ، هم رجالاً بالاسم ، ولكنك إذا نظرتَ إلى شعورهم وإلى وجوههم وإلى لباسهم لا تكاد تفرقهم عن النساء ، أهؤلاء رجال يزج بهم في المعارك في وجه أعداء شرسين وسلاح فاتك ماضٍ ؟ لا ، هذا كذب هذا لا يكون ، مع ذلك فهذه ملاحظة لكي تعرفوا لماذا لا ينتصر المسلمون في هذه الأيام ؟ لا ينتصرون ولن ينتصروا حتى يخشوشنوا ، وحتى يستنبطوا معدن الرجولة من تحت هذا الركام الذي تراكم عليه خلال مئات السنين .
النبي عليه الصلاة السلام تنبه لهذه الحالات ، فقال : يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها . كيف يقدم المدعون إلى الطعام كذلك الأمم من حولكم سوف تتداعى ويحض بعضها بعضاً على نهشـكم وسلبكم وإذلالكم ، كما يتداعى الأكلة إلى القصعة . قيل : أومن قلة نحن يا رسول الله ؟ قال : لا ، إنكم يومئذٍ لكثير . نحن الآن ثمانمائة مليون مسلم في العالم ، ولكنكم غثاء كغثاء السـيل ، الورق الذي ينزل في الماء وقت الفيضان ، غثاء كغثاء السيل ، وليقذفن الله الوهن في قلوبكم ، الوهن والضعف والجبن والخمول ، وحقاً في غزو التتار حينما غزا التتار بلاد العالم الإسلامي كان الجندي التتري يأتي إلى شارعٍ من شوارع بغداد فيصف مائة ومائتين وثلاثمائة من المسلمين ، ليس عنده سلاح ، يصفهم صفاً واحداً ويقول لهم : ابقوا واقفين هنا حتى أذهب وآتي بالسـيف . ويذهب ويأتي بالسيف ويجدهم على الصف الذي وضعهم فيه ويقتلهم جميعاً . أعجزوا عنه ؟ واحدٌ يستطيع أن يلوي عنقه ويكسره . ومع ذلك فهو الوهن والضعف الذي دخل في القلوب . وليقذفن الله الوهن في قلوبكم وليسلطن عليكم عدوكم حتى يستنقذوا بعض ما في أيديكم . وها أن ترون ، كيف ترون ؟ بلادنا في الشرق وفي الغرب وفي الشمال وفي الجنوب كلها مقسمة مناطق نفوذ أو مستعمرات لأعداء الله جلّ وعلا ، من الملاحدة ومن الصليبيين ومن اليهود .. أليس حقاً أن يحصل هذا ؟ منذ متى نحن لم نخض معارك الرجولة والشرف ؟ منذ أزمانٍ طويلة ما خضناها ، فإذا كنا نخوضها فنحن نخوضها تمجيداً للسلاطين والخلفاء والأمراء والزعماء ، فنرى الدماء تسيل أنهاراً ويصفق الناس للزعيم ..
........ انقطع الشريط ........
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .