مفهوم التوكّل في الإسلام
مفهوم التوكّل في الإسلام
12 / 4 / 1985
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :
فقد تكون الحوادث والوقائع خير معوانٍ على توضيح المفاهيم والأفكار ، فبعض الأفكار والمفاهيم قد تدق وتغمض ، وبعض الأفكار والمفاهيم تتداخل حدودها عند الذين لا يحسنون دقة التمييز والفصل بين هذه الأفكار والمفاهيم ، فمن أجل ذلك يسوء الفهم ، ومن أجل ذلك تتشوّش الرؤية ، وتبعاً لذلك تضيع الفائدة .
وهذا الذي قلناه توّاً أتمنى لو ظل حاضراً في أذهان الإخوة دائماً ، والسبب في ذلك أن هذه الظاهرة ـ ظاهرة تداخل الأفكار واشتراك حدودها فيما يظهر ـ مقصورةٌ على أفكار الإسلام ومفاهيمه ، لا تجد هذه الخيوط الرفيعة والخطوط الدقيقة التي تفصل بين الأفكار والمفاهيم إلا في الإسلام ، والسبب في ذلك أن كل أفكار الإسلام من عقائد إلى تشريعات إلى مناقب وأخلاقيات إلى ما سوى ذلك ينبثق عن قاعدةٍ واحدة هي التي توجّه وهي التي تحدد وهي قاعدة وحدة الألوهية ووحدة النبوة ووحدة الكتاب ووحدة الشريعة ووحدة الجماعة . وفيما نحن بصدده اليوم قد يكون من المفيد جداً ونظراً للالتباس الخطير الذي يقع في أذهان الكثيرين أو قُلْ وقع في أذهان الكثيرين حول مفهومٍ من أهم وأدق وأخطر مفاهيم الإسلام وهو مفهوم التوكل ، قد يكون من المفيد أن نرقى إلى محاولة تفهّم هذا المفهوم عن طريق الحدث وعن طريق الواقعة .
دعونا نرجع القهقرى مع التاريخ ، فالنبي الكريم عليه السلام جهر بدعوته في مكة ، ولقي في سبيل الله ما لقي ، هو والقلة المؤمنة التي التفت من حوله ، ثم اضُطر إلى الهجرة ، فالظاهر أن الله جلّ وعلا أراد أن تُرسى لبنات البناء في المدينة ، وأن تُفتح مكة فتحاً جزاء ما أخرجت نبيها صلى الله عليه وسلم . وبالرغم من أن النبي الكريم صلوات الله عليه وآله وسلم لم يشهر على المشركين حرباً بعد أن هجر مدينتهم ، وإنما أراد أن يمدّ ساحة الدعوة بين القبائل ، لكن المشركين لم يدعوه ، بل طاردوه وطاردوا أصحابه ، وكانت سلسلة الوقائع والمعارك التي حصلت خلال السنوات العشر من مقام النبي الكريم في المدينة والتي تعرفونها ويعرفها كل أحد .
المهم أن نعلم أن الله نصر عبده وأعز جنده في أول وقعةٍ من الوقائع التي قامت بين المسلمين والمشركين وهي وقعة بدر ، إذ قتل الله بأيدي المسلمين رؤوس الشرك ، وأرغم معاطسهم ورمامهم في القليب قليب بدر . فكان من ذلك حزازات سكنت قلوب المشركين ورغبةً عارمةً في الثأر تعتمل بل قل تحرق أحشاءهم ، واتّعد المسلمون والمشركون إلى معركةٍ قابلة وكانت معركة أحد . ويكفي لكي تعلموا شدة حقد المشركين على المسلمين ، وهذا قانون سارٍ في القديم وسارٍ في الحديث وسارٍ طالما وُجد على ظهر الأرض إيمانٌ وشرك ، إذ لا مهادنة بين الإيمان والشرك ، كما لا يجتمع الليل والنهار ، وإنما هو الصراع المحتوم ، والأرض ينبغي أن تكون لواحدٍ من الفريقين فقط ولا تتسع للفريقين جميعاً . يكفي لكي تعلموا شدة الغيظ والحقد أن قريشاً رصدت كل أموالها الموظفة في التجارة من أجل شراء السلاح والأعتدة والخيل والإبل وجميع وسائل القتال ، من أجل أن تلقى محمد صلى الله عليه وسلم لتقضي عليه القضاء الأخير ولتشفي صدورها مما لحقها من الوتر في معركة بدر . والتقى الناس في معركة أحد ، وما بنا أن نتحدث عن المعركة في قليل ولا كثير ، ولكنا نقول : إن أسباباً خارجية تعود إلى المسلمين أنفسهم ، تتعلق بالضبط الواجبي أثناء سير المعركة قلبت موازينها وأوقعت الكسرة في صفوف المسلمين ، وقُتل من قُتل وجُرح من جُرح ، وكان فيمن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم . انصرف المشركون وتهيّأ المسلمون إلى الانصراف إلى المدينة ، كلٌ يلعق جراحه ، والحرب هي الحرب ، تصيب المنتصر كما تصيب المنهزم ، ألم الجراحات واقع في الطرفين ، إلا أن قادماً قدم قبل أن يغادر النبي الكريم أرض المعركة فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تجيّش جيوشها وتجمع جموعها وقد أرسلت إلى حلفائها من القبائل وإلى من بقي من القرشيين لكي يلحقوا بها كي تهاجم المسلمين في المدينة لتبيد خضراءهم أي لتقضي عليهم تماماً ، لأنهم حينما غادروا أرض المعركة بدأوا يتلاومون ، أصبناهم بالجراح وأثخنا فيهم ولكنا لم نقضِ عليهم ، وما فائدة الجراحات إذا كان محمد حياً وإذا كان أبو بكرٍ حياً وإذا كان عمر حياً وإذا كان علي حياً وإذا كان صناديد المسلمين ما يزالون أحياء ؟ إذاً فهي النية المبيتة من قريش أن تكرّ على المسـلمين في مدينتهم كي تقضي عليهم قضاءً مبرماً ، ما هو الموقف الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة ؟ لنذكر أن ساحة المعركة يستلقي عليها أكثر من سبعين شهيداً من خيرة رجالات المسلمين على رأسهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، ونذكر أن المسلمين فشت فيهم الجراحات ، والنبي الكريم نفسه لم يعد يستطيع أن يقف ، وإنما كان أصحابه يأخذون بضبعيه أي بساعديه وإبطيه لكي يوقفوه على قدميه من ألم الجراحات ، والمسلمون كذلك كانوا .
ومع ذلك فقد أمر النبي صلى الله عليه وسـلم أمراً لا مثنوية فيه ولا رخصة ، أولاً يتكون من بندين ، البند الأول : ملاحقة العدو حتى يولي الأدبار ، والبند الثاني : أن لا يحضر معهم هذه الملاحقة أحد لم يشهد معهم غزوة أحد ، هي حق وشرف للذين شاركوا في غزوة أحد ، أي إنسان ممنوع أن يشارك المسلمين في هذه الملاحقة . وفعلاً لاحقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما بهم من ألم الجراحات ، حتى إن الجريحين يكون أحدهما أبلغ جراحةً من صاحبه لا يستطيع المشي يحمله على ظهره الجريح الذي يقدر على المشي ، وهكذا حتى ولّى المشركون الأدبار وعادوا إلى مكة ، حينئذٍ قفل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
أنتم تعلمون أيها الإخوة أن معركة أحد من المحطات الغنية في تاريخ المسلمين ، وتعلمون أنها هي وأختها بدر أنزل الله فيهما قرآناً كثيراً ، فسورة الأنفال تحكي تفاصيل غزوة بدر ، والمائة وعشرون آية الأولى من آل عمران وما بعدها تحكي وقائع وتفاصيل ودروس غزوة أحد . ونحن نريد من هذه الواقعة التي رأينا كيف حصلت وتحت أي ظروف من الشـدة والقسوة والتعب والجراحات .. نريد أن نلتقط الخيط من واقع القرآن الكريم الذي عقّب به على الغزوة ، لنرى ماذا يعني التوكل على الله تبارك وتعالى ؟ إن الله جلّ وعلا يُشير إلى هذه الحادثة في معرض كلامه عن الدروس المستفادة من غزوة أحد ، فيقول جلّت قدرته من سورة آل عمران ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً ) يعني هذا القول ( وقالوا حسبنا الله ) أي يكفينا الله ( ونعم الوكيل ) ( حسبنا الله ) أي يكفينا الله ، لم يقل القرآن : حسبنا أننا عدد كثير ، ولم يقل القرآن : حسبنا أن سلاحنا وفير ، ولم يقل القرآن : حسبنا أن لنا أصدقاء وأن لنا حلفاء وأن معنا أمريكا وأن معنا روسيا ، لم يقل القرآن شيئاً من ذلك ، وإنما قال ( حسبنا الله ) أي يكفينا الله ( حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل ) هذه هي نتيجة التوكل ( فانقلبوا ) أي عادوا ( بنعمةٍ من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله ) أين كان رضوان الله جلّ وعلا في هذه الواقعة ؟ هو في التحمل على الجراحات وإنفاذ أمر الله وأمر رسوله في ملاحقة العدو ، ما خطر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يبحث عن توازنٍ للقوى ، ما خطر له أن يرفع مستوى قواته عدداً وعدة حتى يصل إلى التوازن الاستراتيجي ، ما خطر له شيء من ذلك كما يخطر لجبناء اليوم ولخبثاء اليوم ، وإنما خطر له أن يمضي بأمر الله عامداً غير متردد ، وأن ينفذه على آخره على شدة الأذى وعلى كثرة الجراحات . فرضوان الله هو هذا ، هو إنفاذ أمر الله الذي جاء به وصدع به النبي الكريم واستجاب له المؤمنون على ما بهم من جرح وعلى ما بهم من قرح .
( فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله ) أن المسألة كلها تدور على موضوعة التوكل ، وأن التوكل في مفاهيم الإسلام الصافية ليس تنبلة كتنابل السلطان الذين يستلقون على ظهورهم ويفتحون أفواههم وليست لدى أحدهم همة ليرفع اللقمة ويضعها في فمه ، وإنما ينتظر من يضع له اللقمة في فمه ، هؤلاء تنابلة السلطان الذين هم نحن ولا فخر ، نحن أبناء هذا الجيل التافه الضعيف المهزوم ولا فخر ، نحن تنابلة السلطان ، لم يكن التوكل شيئاً من هذا القبيل ، وإنما التوكل عزمة يعزمها الإنسان ويمضي بها غير متردد عامداً إلى الهدف الذي رسمه لنفسه ، أو قل رسمه الله تبارك وتعالى له .
ما هو المقصود من التوكل أيها الإخوة ؟ تقول : وكّلت فلاناً عن نفسي ، أي أنبته ليقوم مقامي في كل ما وكلته به ، حينما تقول : توكلت على الله . فمعنى ذلك أنك أولاً : برأتَ من حولك وقوتك إلى حول الله تعالى وقوته . وثانياً : أنك جعلت الله تبارك وتعالى هو النائب عنك والذي يقوم مقامك في إنفاذ العمل الذي تريد . إن أعداءنا فتحوا أعينهم علينا واهتموا بنا في أوقات ضعفنا وفشلنا وهزيمتنا ، حين كنا أقوياء كنا نشغلهم بأنفسهم ، كنا نجعلهم دائماً يهتمون بالبلاء الذي ينصب منا عليهم ، فهم ليسوا متفرغين للتفكير فينا . أما حينما فشلنا وتقاطعنا وتدابرنا وضعفنا وهُنّا على الله وهُنّا على أنفسنا وعلى الناس ، بدأ الأعداء يهتمون بنا وبدأوا يوجهون إلينا تهمة التوكل ، أننا قومٌ توكليون ، وكأنهم فهموا من التوكل أن الإنسان المسلم أسقط النظر إلى الأسباب ، لا ينظر إلى الأسباب ولا يهيء للأسباب لأي عملٍ من الأعمال . ومن المؤسف أن هذا الاهتمام كما يظهر للذين يدرسون تاريخ هذه الأمة وتاريخ علاقتها مع أعدائها سلماً وحرباً ، المؤسف أن هذه السهام وُجهت إلينا وانصبت علينا متى ؟ حينما شاعت في مجتمعات المسلمين هذه الموجات المَرضية التي تمثلت في فرق الصوفية المهزومين الذين لم يعرفوا حقائق التقوى ولم يعرفوا حقائق الإيمان كما أُنزل على محمدٍ وأصحابه والتابعين لهم ، بل لم يعرفوا حتى تشريح عقليات ونفسيات مشايخهم بالذات ، فمشايخهم كانوا أناساً أماثل طيبين متقين ، لكن الخلف لذلك السلف كان جيلاً رخواً وضعيفاً ومنهاراً وتعبان ، كانوا متوكلين على النمط الذي وُجد في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، جاء قوم من اليمن إلى الحج ، وتعرفون أن الله جلّ وعلا حينما ذكر آيات الحج قال : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب ) فالحج سفر ، والسفر بحاجة إلى زاد وبحاجة إلى رواحل وبحاجة إلى نفقة ، فجاء قومٌ من اليمن يمشون على أقدامهم لا يحملون شيئاً من الزاد ، فلما سلّموا على عمر ، قال لهم : من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكلون . قال : لا ، بل أنتم المتأكّلون ، أي أنكم اعتمدتم على زاد الآخرين لكي تأكلوا ، ولو أنكم توكلتم على الله حق التكال لأخذتم بالأسباب ولتزودتم لسفركم هذا ، فأنتم متأكّلون لا متوكلون .
أعداؤنا حينما اهتموا بنا كانت عامة المجتمعات الإسلامية مجتمعات متأكّلة وليست متوكلة ، فلذلك رُؤي عليها الذل والخنوع والهوان والضعف والانهزام ، وقال عنها أعداؤها هذا المقال ، مع أن التوكل في حقيقته بعيد عن هذه الأجواء بعداً تاماً . رأينا نتائج التوكل في الواقعة التي ذكرتها لكم في الحرب ، كيف تفسر أن يقف شخص واحد مقابل عشرة أشخاص أو عشرين شخصاً ما لم يكن هذا الشخص متوكلاً على الله أي جعل الله جلّ وعلا هو دريئته وقوته وهو يده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ؟ لا يمكن ، كيف تفسر أن يخرج الإنسان من ماله جملةً واحدة ما لم يكن متوكلاً على الله ؟ كيف تفسر هذا ؟ إن المجتمعات الإسلامية الأولى لم تكن بهذا الشكل الذي شاع وساعدت فرق التصوف المهزومة على إشاعته بين الناس .. لم تكن تنظر إلى التوكل بهذا الشكل . سأقول لكم ، الإنسان أيها الإخوة في العادة يهتم بماذا ؟ يهتم لحياته ويهتم لرزقه ولرزق عياله ويهتم أيضاً للأمن الذي يجب أن يتوفر للإنسان في بلده ، هذه هي الأشياء الثلاثة التي تدخل ضمن دائرة اهتمام الإنسان . نرجع إلى أساسيات الإسلام إلى العقائد ، ألم تعلموا ويعلم كل مسلم أن الإنسان لا يملك لنفسه تأخير ساعة أو نفَس ولا تقديم ساعة أو نفَس ؟ فالأجل بيد الله تبارك وتعالى ، كل الناس لا يملكون لك نفَساً زائداً ولا يستطيعون أن يحجبوا عنك نفَسـاً واحداً ، رزقك الذي تأكله رغداً أو غير رغد ، حلالاً أو غير حلال ، هذا الرزق من الذي سخره لك ؟ ومن الذي أوصله إليك أو أوصلك إليه ؟ الله . والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول : لو توكلتم على الله حق الاتكال لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً ـ أي تخرج مع الصباح وهي جائعة ـ وتروح ـ أي ترجع مساءً ـ بطاناًً ، أي هي شبعانة . أمنك في بلدك مرتبط بماذا ؟ بتقوى الله جلّ وعلا ، إن أنت آمنتَ بالله وكففت أذاك لساناً ويداً عن الناس ، وشغلتَ نفسك بعيبك عن عيوب الخلق وانصرفت إلى ما هو مهم بالنسبة إليك فأنت بالتأكيد آمنٌ في سربك آمنٌ في بلدك ، وأي معنى للخوف ؟ وأي معنى للتفكير الطويل بما ينبغي أن يكون أو بما كان أو بما أشبه ذلك ؟ لا معنى لذلك على الإطلاق .
ما الذي يُطلب أن يحققه التوكل ؟ التوكل ، مفهوم ، فكرة ، خلق ، خصيصة من خصائص الشخصية المسلمة ، لكن لماذا شدد الإسلام عليه وجعله مرتبطاً بالإيمان فقال ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) أي اشترط التوكل لتمام الإيمان ، لماذا ؟ في الواقع نحن أيها الإخوة إذا رجعنا إلى الكلام الذي قلناه من قبل لعل البعض يذكرونه فسوف نتذكر أن الإنسان خُلق لغاية ، وهي غاية لا كالغايات ، غاية لا تقف عند حدود الزمان ولا حدود المكان ، وإنما هي غاية شاملة وممتدة مع الزمان ، أي أنها تستغرق لا حياة الإنسان وحسب وإنما أجيالاً وأجيالاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، هذه الغاية لا تقوم على مخاطبة الشهوات ، في الواقع المذاهب الحديثة سواءٌ كانت شيوعية ورأس مالية وما أشبه ذلك خاطبت الإنسان بشـهوة البطن وشهوة الفرج وشهوة الزعامة وشهوة السلطان ، لكن الشيء الملفت للنظر أن الإسلام لم يجىء ليدغدغ الشهوات وإنما جاء على الضد من شهوات الإنسان ، أنت تشتهي الراحة ، والإسلام أراد أن تتعب وتكدح ( يا أيها الإنسان إنك كادح كدحاً فملاقيه ) الإسلام أراد لك أن تكفّ عن المحارم ونفسـك تشتهي المحارم ، وأن مطالب بأن تقدح نفسك وأن تلجم هواك ، الإسلام أراد لك أن تتخفف من الدنيا وبيّن لك أن الدنيا مرمّة كالمزبلة يأكل منها الحمار ويأكل من الكلب وأنت تريد أن تكون جموعاً لموعاً ، فكل أوامر الإسلام جاءت على الضد من شهوات الأنفس ، فالغاية التي رسمها الإسلام لا يعرفها أبناء هذا الزمان ولم يعرفها أحد قبل الإسلام ولم يعرفها أحد خارج نطاق الإسلام . حينما تكون الأهداف والغايات متمشيةً على الضد من أهواء النفوس وعلى الضد مما ترغب النفوس فهي بحاجةٍ إلى الهمم العالية وإلى الرجال الأقوياء وإلى النفوس المتفرغة لأداء المهمة التي أرادها الله جلّ وعلا .
هذه الناحية ضرورية جداً لكي نعرف إشعاعات مفاهيم الإسلام والخصائص التي غرسها في هذه الأمة ، خبّروني كيف يمكن أن يُنتج ـ ولو شيئاً قليلاً في حقل الإسلام ـ مَن كان موزعاً ومشتت النفس ومدلدل الخاطر وهمومهم متفرقة في كل واد ، هذا الإنسان معطل لا يصلح لقليل ولا لكثير ولا يصلح لأداء مهام من النوع التي شرحنا أو ألمعنا إليها مجرد إلماع إلا الذي تجمعت قوى نفسه لتنصب في حوضٍ واحد هو المؤدي إلى الله .
فالتوكل على الله يفرغ الإنسان من همّ الحياة ، لأن الأجل بيد الله ، ويفرغ الإنسان من هم المعيشة ، والنبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم يقول : نَفَسَ في روعي الروح الأمين ـ يعني جبريل ـ أنه لن تموت نفس حتى تستوفي قسطها من الرزق فاتقوا الله وأجملوا في الطلب . تحركوا واطلبوا الرزق من وجوهه ولكن بأدب وبركانة وبرصانة ، ما كُتب لكم سيأتيكم ، فإذا طلبتموهم فلا تطلبوه من الحل والحرم في آنٍ واحد ، لا ، وإنما من وجوه الحلال واطلبوه برصانة الرجال ، عدم الركض وعدم التعب فيما لا يجدي ، ما هو لكم سيأتيكم قطعاً .
وإذا رجعنا إلى تجربة النبوة فنحن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سُئل يعطي الوادي من المال ، وكان لا يدّخر في بيته قوتاًً للغد وكان ينزل عليه الضيف فلا يجد في بيته كسرة خبزٍ يطعمها للضيف وإنها لعشرة أبيات ، عشر نساء ، حتى إنه لينادي : مَن يأخذ ضيف رسول الله ، فيتقدم أحد الأصحاب فيأخذ ضيف رسول الله ، لأن الحبيب الأعظم رسول الله لا يملك ما يطعم به هذا الضيف ، مع أنه لو أراد لاحتاز أبواب الدنيا كلها ، ومع ذلك هو ينفق في وجوه المضرات وفي وجوه الخيرات لأنه واثق بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ( وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه وهو خير الرازقين ) أليس كذلك تقرأون في القرآن ؟ قراءة فقط أم التنفيذ فهذا شيءٌ مشكل .
يروون عن عائشة رضي الله عنها أن معاوية بعث إليها بمال ، ويقال إن عدة المال ثمانين ألف درهم أو مائة ألف درهم ، وكانت صائمة ، فلما جاءها المال جللته بثوب وبدأت تمد يدها تحت الثوب وتنادي مولاتها : هذه لآل فلان وهذه لأيتام فلان وهذه لفلان وهذه لفلان حتى أنفدت المال قبل الفطور . قالت لها مولاتها خادمتها : يا أم المؤمنين إنك صائمة فلو تركت لنا درهماً نشتري لك به لحماً تفطرين عليه . قالت : لا تعنفيني لو ذكرتني لفعلت . نسيت نفسها ونسيت أن صائمة ونسيت أنها جائعة وأنفقت هذا المال الكثير ، لأن حقائق التوكل متمثلة في قلبها وفي ضميرها رضي الله عنها . وكذلك كان كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك ، تسمعون بعبد الرحمن بن عوف أليس كذلك ؟ أغنى أغنياء الصحابة ، حين مات كُسرت بالفؤوس كتل الذهب التي خلّفها ومع ذلك لم يترك في ببني تيم ـ وهو تميمي ـ فقيراً إلا أغناه ولم يترك عزباً إلا زوّجه ولم يترك مديناً إلا قضى دينه ولم يترك حقاً يرضي الله جلّ وعلا إلا أتاه ، وكان يطعم أهله وضيوفه أطيب الطعام ، ولكن كيف كان يعيش ؟ كان يخلو بنفسه ويأمر بطعامه ، وطعامه خبز شعير يابس وزيت وإذا لم يوجد الزيت فماء وملح ، يأكل وهو يبكي ويقول : نخشى أن تكون عُجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ، لقد رأيت فلاناً وفلاناً ماتوا لم يأكلون من هذه الدنيا شيئاً ، فنخشى ألا نلحق بهم .
فمن ناحية المال ترون أثر التوكل سخاءً وبذلاً لا نحتاج معه لا إلى الاشتراكية ومدارسها ومفاهيمها ولا إلى الشيوعية بعنفها وعنفوانها ولا إلى إرهاق الإنسان من أجل أن نضعه في طريقٍ لا يرضي الله ولا يرضي الإنسانية المهذبة الكريمة ، عامل التوكل وحده حلّ الإشكال .
فإذا نظرنا في جوانب المسألة ، جوانب مسألة التوكل ، ورأينا الإنسان فارغ الهم بالنسبة لحياته ، فارغ الهم بالنسبة لمعيشته ، يأتي إلى الناس الشيء الذي يحب أن يأتيه الناس إليه ، أي يعيش معهم بأخوّة وبمودة وباستقامة وبشرف وطيبة وبخفض جناح وتواضع ، فهو آمنٌ على حياته وآمنٌ على ماله ورزقه وآمنٌ على كرامته وعلى معيشته في بلده ووطنه .. حين ذلك ماذا يكون ؟ يكون أقوى الناس ويكون أعز الناس ، لا أريد أن يكون الكلام من عندي ، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سرّه أن يكون أعز الناس فليتقِ الله . أي لا يفعل شيئاً يغضب الله جلّ وعلا ، حينئذٍ سيكون أعز الناس ، لماذا ؟ لأنه سيكون بعين الله وسيكون الله هو المتكفّل وهو الحامي له ، والله جلّ وعلا يقول في الحديث القدسي : وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ـ يعني هذه ثمرة التقوى ـ كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه . فالذي يتقي الله يكون أعز الناس ، لأن حماية الله مبسوطة عليه ، من سرّه أن يكون أعز الناس فليتقِّ الله ، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله . رأيتم أن القوة نتيجة وثمرة من ثمرات التوكل على الله ، وفي زمننا العضوض هذا عن أي شيءٍ نبحث أيها الإخوة ؟ كم من المرات وعشرات المرات ومئات المرات قلت لكم إنني أبحث عن الرجل ، أبحث عن الرجال ، مللنا من رؤية أشباه الرجال ، مللنا من رؤية من هم أضعف من النساء ، نحن الآن نبحث عن الرجال . ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، إذا كنتَ ـ ويحك ـ لا تخاف على عمرك ولا تخاف على رزقك ففيمَ تذل وفيمَ تخضع وفيمَ تخنع ، لماذا ؟ من أي شيءٍ تخاف ؟ والله جلّ وعلا في عليائه يبسط حمايته عليك ، من سره أن يكون أعز الناس فليتقِ الله ، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يدي الله أوثق منه مما في يده . يجب عليه أن يثق بمواعيد الله حين يقول ( وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه ) فعليه أن يثق بالخلف كأنه بين يديه بل أشد من ذلك ، إذاً أنا لم أقل لكم شيئاً من عندي ، قلت على لسان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، إن التوكل على الله ليس مسكنة وليس ذلة وليس خوفاً وليس مهانة ولا ضعفاً ، إنما هو قوة وعزة بمعانيه التي شرحناها يُنتج أمة لا نظير ولا مثيل في الأمم .
ونحن الآن بحثُنا عن هذه الأمة ، هذه الأمة التي تتوكل على الله فتخوض المعارك وهي واثقة أنه لا فرق بين أن تقع على الموت أو يقع الموت عليها ، نحن بحاجة إلى أمة تهون عليها الدنيا حتى تنفقها في مرضاة الله من أولها إلى آخرها ولا يهتز لها شعرة واحدة في بدنها ، نحن بحاجةٍ إلى أمة تشعر بأنها من القوة بحيث تكون مؤهلةً ومرشحةً لقيادة العالم لتحقيق أمر الله جلّ وعلا الذي هو نصرة الإسلام . وفي هذا الزمن الذي تشتتنا فيه وتمزقنا وضعفنا ، علينا أن نذكر أنه إذا خضنا ألف معركة ومعركة تحت ألف راية وراية ، ولا أقول خلف ألف زعيمٍ وزعيم ، لأن الزعماء لا يباشرون المعارك وإنما هم قاعدون في القصور ، بينما كان محمد بن عبد الله يباشر المعارك بنفسه ويقول عنه سيد الشجعان علي رضي الله عنه : كنا إذا اشتد البأس واحمرت الحدق نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحد أقرب إلى العدو منه . لا نقول نخوضها تحت خلف ألف زعيمٍ وزعيم ولكن نقول نخوضها أمـام ألف زعيمٍ وزعيم ، لم نحصل على نتيجة ، تأكدوا من ذلك ، دعوكم من الكذب الذي يثقب الآذان ، دعوكم من هذا ، لم نحصل على نتيجة حتى نعرف معنى التوكل على الله ، حتى نتيقن تماماً أننا أداة بيد الله جل وعلا يحقق بنا غرضه يحقق بنا مراده يحقق بنا رسالته . وهذا لن يكون أيها الإخوة إلا باكتسابنا كل الخصائص ، مجموع الخصائص الإسلامية التي غرسها القرآن في نفوس المسلمين ، وتعهدها بالسقاية والرعاية في نفوس المؤمنين محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، فذلك عزيز علينا وبعيد ؟ لا أتصور هذا ، إن العلم والإيمان مكانهما هنا ، من ابتغاهما وجدهما ، المسؤولية عليك وأنت المطالب بأن تتحرك في هذا الاتجاه ، أن يكون الإنسان رجلاً كامل الرجولة شيء يتعلق بالعزم ويتلعق بالإرادة ، وليس شيئاً يحقن على شكل الحقن التي يعطيها الأطباء أبداً ، شيء يتعلق بالعزم والإرادة وبالمعالجة وبالممارسة اليومية التي تنتج شيئاً فشيئاً رجالاً هم على مستوى قضياهم ، فإذا أردنا أن نكون كذلك فلنقدم من أنفسنا مجهوداً يتكافأ ويتوازى مع عظم المهمة المطلوبة منا ، وما ذلك على الله بعزيز ، أنتم على أي حال أبناء الإسلام وخلفاء محمد وتلامذة القرآن ، والخير كله فيكم ، اجعلوا ثقتكم بالله عالية ، واطلبوا ما عنده ، ودعوكم أيها الإخوة من كل خطرات النفس التي تشوش على الإنسان صفاءه وتوزّع إمكانياته وإرادته ، واتجوا إلى الله واستمسكوا بحبله ، إن هذا القرآن إن هذا الإسلام حبل ممدود بين السماء والأرض ، طرفه الأدنى بأيديكم وطرفه الأعلى في الفردوس الأعلى عند الله جلّ وعلا ، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم والمسلمين من ورثة جنة النعيم وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .