وحدة المجتمع الإسلامي
8 / 3 / 1985
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :
فالله جل وعلا يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم محدداً ومبيّناً له السمة الأساسية له ولرسالته صلى الله عليه وسلم ، فيقول عن الرسالة ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) ويقول عن النبي المرسل عليه أفضل الصلاة والسلام ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وفي معرض بيان هذا الوصف وهذه الخصيصة يذكر النبي عليه الصلاة والسلام نفسه واصفاً إياها فيقول : إنما أنا رحمة مهداة . والحقيقة أن هذه النقطة هي الفيصل بين رسالات الله تبارك وتعالى وبين أفكار الناس ، فالناس تفكيراتهم وتقديراتهم ونظمهم وأُطرهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دائماً مشوبة ومختلطة بالهوى والغرض ، ووصفها الأساسي أنها تشكو من علة النقص وعدم الشمول والكمال ، ولا عيب في هذا عند الذين يُنزلون أنفسهم منازلها ولا يتعدّون بها طورها ولا يرفعونها فوق الذي لها ، فالنقص ملازم لطبيعة البشر ، ولو جاز أن يكمل الإنسان لتحوّل إلى إله ، لأن الكمال المطلق لا يكون إلا للذات الإلهية تباركت وتقدست .
على النقيض من ذلك رسالات الله ، هي الكمال كله والخير كله والعدل كله والرحمة كلها ، لأن رسالات السماء لا تختلط لا بالهوى ولا بالغرض ولا بطلب المنفعة ولا بالاحتياط للمضرة ، فالله جل وعلا ليس محتاجاً إلى الخلق لأنه غني بذاته ، والله غني عن العالمين ، ولا يُظن أن تصل إليه أذية من مخلوقاته فهو جل وعلا أكبر وأجل وأعز من ذلك ، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمونلا ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) لا يصل إلى الله جل وعلا إلا تقوى العباد وصالح أعمالهم ولا شيء غير ذلك . من هنا كانت رسالات السماء غاية العدل وغاية الكمال وغاية الرحمة ، لأن الإنسان أولاً وآخراً هو المقصود بها وليس أي شيء آخر .
لهذا فأية مراجعة ولو يسيرة لتوجيهات الإسلام ، وحين نقول توجيهات الإسلام فنحن نعني بالتأكيد وبالضرورة كل الرسالات الإلهية ، ولا يجوز أن ننخدع ببعض المظاهر التي تسـمي نفسها رسالات سماوية كاليهودية أو النصرانية ، لأن هذه رسالات حُرّفت وغُيّرت وبُدّلت ودخلتها أغراض الناس فمسخت الكثير منها ووُضعت فيها أوشاباً ومعايب ونواقص باديةً للعيان ، واضحةً كل الوضوح ، والذي يُصفّي من حيث النتيجة في كل شيء في رسالات السماء هو هذا الإسلام ، لأنه الدين الذي ختم الرسالات ، والدين الذي قال الله عنه أنه مهيمنٌ على الكتاب ، فما صدقه الإسلام من اليهودية أو النصرانية أو غيرهما فهو صادق ، وما ردّه الإسلام من اليهودية أو النصرانية أو غيرهما فهو مردود ، لأن القول الفصل والحكم الجامع المانع في هذا الباب هو للرسالة التي لم يدخلها تحريف ولم يدخلها تغيير ولم يدخلها تبديل ، وهذه الرسالة حصراً هي الإسلام ..
فرسالات السماء جميعاً حين نريد أن نأخذ مرآتها ونأخذ التعبير عنها يجب أن ننظر إلى الإسلام ، فأية مراجعة ـ ولو بسيطة في الحدود الدنيا ـ للتوجيهات وللتشريعات وللحدود وللمباحات وللممنوعات التي جاء بها الإسلام تُبيّن أن هذا الدين بالفعل رحمة الله المهداة إلى الناس ، لأنه النظام الوحيد والتشريع الوحيد والمنظومة الفكرية الوحيدة التي تضمن للناس استقرارهم وراحتهم وهدوئهم وأمنهم في بلادهم ، والطمأنينة اللازمة بعد تحصيل الضرورات التي تسمح للناس بأن يعيشوا براحة وبطمأنينة .
في الفترات التاريخية التي ساد فيها الإسلام وكانت له الكلمة النهائية عاشت الإنسانية حياةً رخية آمنة هادئة مطمئنة ، لا ظلم لا بغي لا فسوق لا فجور لا عدوان .. في الفترات التي تراجعت فيها موجة الإسلام وانفسح المجال ضيقاً أو واسعاً للدعوات الأخرى لكي تسود ولكي تمسك بمفاتيح المجتمعات شاعت الفوضى وعم الاضطراب واستعلن الظلم والجور وعاش الناس في أمرٍ مريج ، يفتقدون الراحة ويلتمسون الطمأنينة ولا يجدونهما ، ولا يعرفون السبيل إليهما .. للذي قلناه نؤكد ونشدد على أنه بقطع النظر عن واجب هذه الأمة ومسؤولياتها ، وبقطع النظر أيضاً عن المصلحة التي تتحقق لهذه الأمة من جراء استمساكها بعرى دينها اسـتمساكاً وثيقاً ومتيناً وصحيحاً ومخلصاً يبلغ حدود التضحية والشهادة ، بقطع النظر عن هذا كله فإن الدعوة إلى الإسلام وإن الحضّ على الاستمساك بعراه الوثيقة أمر يتصل أوثق اتصال بالمصلحة البشرية النهائية ، فالإنسان أينما كان مسلماً أو غير مسلم ابن اليوم أو ابن الأمس أو ابن الغد لا يمكن أن يتفيء ظلال الراحة أو الطمأنينة إلا تحت خيمة الإسلام ، ولعلي لست محتاجاً إلى إقامة الدليل على ذلك ، فلئن كنا في غير هذه العقود الأخيرة من السنين نجد أنفسنا ربما محتاجين إلى التماس الشواهد من بطون التاريخ ، فنحن في هذه العقود الأخيرة من السنين ، على الساحة العربية وعلى الساحة الإسلامية وعلى الساحة العالمية ، نملك ألف دليلٍ ودليل على عظم النكبة التي ترتّبت على إبعاد الإسلام عن مسرح الحياة ، وبذلك لا نستطيع بتاتاً ومن منظور المصلحة الإنسانية النهائية أن نقول عن الذين يتبنّون حرب الإسلام والمسلمين إلا أنهم أبالسة ، لا نستطيع أن نقول غير ذلك ، أبالسة بكل ما تحمل الإبلسيّة من معنى معادٍ للجوهر الإنساني في الإنسان ، إننا ونحن نعيش على كل المستويات وفي كل أرجاء الدنيا حالة القلق والاضطراب ، والتهديد بالدمار ، وحالة غياب العدل وشيوع الظلم ، وظهور وبروز ظاهرة اللصوص وقطاع الطرق الذين يصادرون حريات الناس وكرامات الناس وأقوات الناس وحق الناس في أن يعيشوا في ديارهم آمنين مطمئنين في يومهم وغدهم وعلى أنفسهم وأبنائهم وذراريهم ، إننا في هذه اللحظات وفي هذه المراحل نجد أن الدعوة إلى قيم الإسلام ومبادئ الإسلام هي مفاتيح المستقبل ، وهي الحل الذي يمكن أن يقدم لمستقبلٍ هو أحسن وأكثر راحة وأكثر طمأنينة ، وهـذه المفاتيح لا توجود في يد أحد إلا في هذه الأمة .
للأسباب التي شرحناها أيها الإخوة ومن غير حاجةٍ إلى الإطالة ، أعيد إلى أذهانكم السبب الذي يدعونا إلى استعراض خصائص هذه الأمة ، وإبرازها ، وإلى التنبيه على ضرورة رعايتها والحفاظ عليها ، وهو ـ أي هذا السبب ـ لكي نُبرِز للمسلمين أولاً محاسن دينهم ومعالي الأمور التي جاء بها قرآنهم وكريم الشمائل التي تمثلت في شخص نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ، فاستحق بذلك أن يكون الأمثولة العظيمة وأن يكون القدوة المثلى وأن يقول الله فيه المؤمنين ( لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) لكي نبرز هذا حتى يدرك المسلمون أي جريمةٍ ارتكبوا حينما غضّوا الطرف على التقصير وتهاونوا بمظاهر الفسق والتحلل غير مدركين أن أول الفساد خطوة ، ولكنها الخطوة التي تبدأ بواحدة لتنتهي إلى الدمار الشامل . نبرز هذا لندعو المسلمين إلى مواجهة مسؤولياتهم عن أنفسهم وعن أمتهم وعن المصير البشري ، لأن المصير البشري غايتنا النهائية التي بررت أن يُعنى الله جلّ وعلا بخلقه هذه العناية فيوالي لهم الرسل واحداً بعد آخر ، كلما تفاقم الفساد وكلما استعلن الشر ، استنقذ الله البشرية برسول وبكتاب . ذلك بأن الله جلت حكمته يريد للناس أن يعيشوا في هذه الأرض بحالة من الراحة والطمأنينة تسمح لمواهبهم أن تنطلق بكل حرية ، ولكن باستقامة تامة .
من هنا ندلف إلى التنبيه إلى خصيصةٍ من خصائص هذه الأمة وهي خصيصة أساسية ، لعل الحديث عنها في هذا الزمن الممزق والمُمزِّق يكون غريباً ووضعه على الأسماع شاذة ، وهي أن هذا الإسلام دين الوحدة البشرية الشاملة الجامعة ، وهو كلام كما ترون يدخل في باب البديهيات ، ولكن المسالك التي سلكها الإسلام لتثبيت هذا الوصف وجعله واقعاً معاشاً تحتاج إلى فضل تأمل وإلى شيءٍ من النظر ، وحينما نعرّج على هذه النقطة فأنا أحب أن أؤكد أن الإنسانية لم تكن في كل تاريخها الطويل محتاجةً إلى استذكار واستحياء هذا المعنى التوحيدي كما هي محتاجة إليه اليوم ، لأننا نسمع الوحدة والانسجام والتآلف والمحبة كلاماً يقال ، أما على صعيد العمل وعلى صعيد الواقع فلا شيء من هذا على الإطلاق ، بل العكس هو الموجود ، على الصعيد الدولي صراع لا يريد أن ينتهي ، وكلما آذن بالانتهاء قام الأبالسة الذين قلنا عنهم بإذكاء نيران الصراع حتى يتركوا الإنسانية ويجعلوها بخبال دائم ، لأنهم لا يمكن أن يعيشوا إلا كالخفافيش في الظلام ، ولا يمكن أن يتحركوا إلى في الماء العكر ، ولا يمكن لخواطرهم أن تهدأ ولا لبالهم أن يستريح إلا بعد أن يرقصوا على أشلاء الناس ، لأنهم في الأصل طينةٌ مجبولة بالشر معادية للإنسان من حيث هو إنسان . هذا الذي نجده على مسرح الواقع ، ودعك من الكلام الذي يقال ، هذا كلامٌ لا معنى له ، الاتحاد السوفييتي أحد القطبين الكبيرين في العالم يدعو إلى السلام العامي والشامل ، وفي ظني أن الصبية الصغار حتى قبل أن يدخلوا في المكاتب والمدارس اكتشفوا هذا الخلط واكتشفوا هذه الخديعة، فالمبدأ الذي يرفع شعار الصراع لا يمكن أن يكون داعية إلى سلامٍ ومحبة ، والمبدأ الذي يقسم الناس قسماً هو صاحب المصلحة في الحياة وقسماً آخر لا مصلحة له في الحياة ، هذا مبدأ مفرّق ومبدأ ممزّق . وننتقل إلى القطب الثاني من الصراع من دول العالم العظمى ، ننتقل إلى المعسكر الغربي ، ممارسات يومية بل آنية ، للتفريق وللتمييز ، كأن الناس خُلقوا من طينةٍ ليست واحدة ، وإنما هي نماذج متعددة ، وكأن الأرحام ، أرحام الأمهات تدفع إلى الدنيا سادةً وعبيداً على عكس الناموس البشري وهو أن الأرحام تدفع الناس جميعاً أناساً أسوياء متساوين متكافئين في الحقوق ووالواجبات ، وفي كل مكان تجد هذا النغم النشاز سائداً في وسائل الإعلام وفي أجهزة الصحافة وفي الكتاب وفي المنتديات وعلى كل الأصعدة ، حتى ساء ظن الناس بالناس ، وحتى فُقدت معاني الأخوة ومعاني المحبة ومعاني الرحمة ، وحتى أصبحتَ تتعجب وتتساءل : هل نعيش في عالمٍ من البشر أم نعيش في عالمٍ من الوحوش ؟
في الواقع أن عصرنا هذا هو العصر النموذجي المثالي الذي يحتاج إلى التذكير بمبدأ الوحدة الذي جاء به القرآن وجاء به الإسلام ورفعه النبي صلى الله عليه وسلم شـعاراً دائماً وثابتاً وممارسةً يومية يعيشها الإنسان المسلم باستمرار .
من ثوابت القرآن يا إخوة ، وكلنا نقرأ القرآن ، ولكن أقلّنا يفكر ويدرك مرادات القرآن ، من ثوالت هذا القرآن نظر إلى الناس على مستويين ، ولكنه في المستويين لم يهمل مسألة الوحدة المطلوبة على الصعيد البشري ، لا شك أن الناس مؤمنون وكافرون ، وبالنسبة إلى المؤمنين كان الخطاب القرآني واضحاً وقاطعاً ومؤكداً قال ( إنما المؤمنون إخوة ) التعبير بالأخوة هنا ، والأخوّة حينما تُطلق يتبادر منها المعنى القريب وهو ما يكون بين الأشقاء المولودين من أبٍ واحد وأمٍ واحدة ، هذا هو التعبير القريب المتبادر لمعنى الأخوّة ، وبغير حاجة إلى أن نذكر شيئاً من توجيهات القرآن أو توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم حول حقوق الأخوّة وواجبات الأخوّة .
ننتقل إلى المستوى الثاني الذي نظر القرآن والإسلام منه إلى الناس عامة ، فالناس مؤمنهم وكافرهم ، تقيّهم وشقيهم لا يخرجون عن كونهم ناساً ، فيهم نفس المواهب ونفس الإمكانات الموجودة لدى كل الناس ، ويستطيعون أن يدركوا الخطاب الإلهي الذي يستهدف خيرهم ومصلحتهم ويحضّهم على تحصيل الخير والمصلحة . حينما نادى الناسَ ، لم ينادِهم ـ طبعاً ـ بمعنى الإخوّة ، لأن الإخوّة معنى مترتّب على الإيمان ، وهنا نحن نخاطب البشرية جميعاً ، فيها المؤمنون وفيها غير المؤمنين ، لذلك جاء الخطاب الإلهي كالتالي ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى ) لم ينفذ مباشرةً إلى التذكير بمعنى الأخوّة القريب ، ولكنه لم يهمل هذا المعنى ، حينما يذكّر الناس بأنهم جميعاً مخلوقون من ذكرٍ وأنثى فهم في المحصلة الأخيرة مهما تباعدت الأعراف وتباينت ومهما تباعد الجدود من حيث المحصلة الأخيرة هم إخوة ، طالما أنهم مخلوقون من ذكر وأنثى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) لا لتقتلوا ولا لتنازعوا ولا لتتحاربوا ( لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فهذا هو الأساس الذي بسطه الإسلام لتحقيق ولتثبيت وللتأكيد هذا المعنى الذي هو معنى الأخوّة الجامعة بين البشر .
لكن كيف نصل إلى تحقيق هذا المعنى من خلال الممارسة ؟ أول خطوة في ذلك هو إزالة الانقسام الداخلي في الذات الإنسانية ، الإنسان الموزع المشتت الممزق لا يصلح لشيء ، لا لنفسه ولا لغيره . كان ذلك بإلغاء الشرك وبإلغاء الوثنية وبإلغاء تعدد الآلهة ، وجاء في القرآن المثل المضروب لهذا والمعبّر عن عواقب الشرك وعن حسنات التوحيد ، قال تعالى ( وضرب الله مثلاً عبداً أو رجلاً فيه شركاء متشاكسون ، ورجلاً سَلَماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله رب العالمين ) ولا بد من توحيد هذا المثل ، الله جلّ وعلا يعرض نموذجاً للإنسان المشرك والمعدد للآلهة ، وليس شرطاً أن تكون الآلهة أوثاناً ، فقد تكون الآلهة أوهاماً وأهواءً ، وقد تكون بشراً مثلنا . وضرب مثلاً للإنسان الموحد المؤمن المتقي ، المشرك يعتقد أن الكون محكوم بآلهة متعددة وليس هناك إله واحد ، ربما تجد لدى بعض الشعوب من يعتقد أن الآلهة مجموعة لها رئيس هو الإله الكبير ، ثم مستويات أخرى من الآلهة الوسيطة ، لكنها كلها آلهة . هذا الإنسان الذي يعتقد عقيدةً من هذا النوع ، أي إله يرضي لا يدري ، ولذلك تجده كالريشة في مهب الريح ، إنسان ممزق ، لا يعرف يرضي من ؟ هذا المعنى أو هذا النموذج عرضه القرآن بمثل الرجل ، وانظروا دقة التعبير القرآني على ما يريد إبرازه من معنى، لم يقل : رجل فيه شركاء وحسب ، فقد يكون الشـركاء في الشيء متفاهمين منسـجمين متفقين على خطةٍ معينة لاسـتخدام هـذا الرجل ، لكن القرآن قال فيه ( شركاء متشاكسون ) أي كل واحدٍ يريد شيئاً غير الذي يريد الآخر ، كيف يمكن لهذا الرجل أن يؤدي أية خدمة ؟ إذا كنت أنا أريد هذا ويريد الشيخ الآخر عكس ما أريد ، في هذه الحالة لم نعطّل فقط هذا الرجل ، وإنما أيضاً مزقناه بين رغبات الأسياد المتباينة والمتضاعدة ، هذا هو حال الإنسان المشرك ، وهو بهذه المثابة إنسان ليس فقط لا يصلح لشيء ولكنه مخرَّب ومدمَّر .
والمثل الثاني : ورجل سلَم لرجل . ليس عليه إلا سيد لواحد ، إذا أمره أطاع وإذا قال له اقعد قعد ، فهو غير معرّض للتمزق ، هذا حال المقبل الموحد ، وهذا حال المشرك الكافر . لهذا السبب كانت نظرة الإسلام بالنسبة إلى الإشراك أيها الإخوة ، سواء كان إشراكاً بمعنى الخضوع لآلهة متعددة ، أو إشراكاً بمعنى الرياء وخضوعاً للأهواء الذي هو أخفى من دبيب النمل ، كانت نظرة الإسلام لهذا الإشراك نظرةً مقيتة ، لم يحتقر الإسلام شيئاً كما احتقر الشرك ، ولم يعلن الحرب على شيءٍ كما أعلن الحرب على الشرك ، لأن الشرك مسخٌ للطبيعة البشرية ، وإذا أشرك الإنسان أي لونٍ من ألوان الإشراك كفّ أن يكون الإنسان معطياً وإنساناً بانياً . فحينما يأتي الإسلام بشعاره الأول وممارسته الأولى على صعيد الشعور والفكر والحالة النفسية ليقول : إن الشرك باطل وإن الكون كله صدر عن إرادة الله الكبير المتعال ، وأنه لا توجد قوةٌ في هذا الكون تستحق الطاعة والخضوع إلا الله تباركت أسماؤه وتقدست أوصافه ، فإنما يحرر الإنسان من عوامل التمزق ومن عوامل التثبيط والتخريب ، فهذه واحدة .
وأما الثانية فهي وحدة القيادة ، ووحدة القيادة مأساة في هذه الأيام ، لأننا نسمع في الصباح والمساء وفيما بين ذلك حتى بُخشت آذاننا أن فلاناً القائد الملهم ، ويأتيك مسخٌ آخر ليكون قائداً آخر ، ومسخٌ ثالث ليكون قائداً ثالثاً ، ويقف الإنسان متحيّراً ، أين القيادة الصحيحة ؟ للخلاص من هذا الإدعاء الفارغ وهذا الدجل الرخيص وهذه الأساليب التي لا ترمي إلا إلى استعباد البشر حررالإسلام القيادة وحصرها بشخص النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا قائد إلا محمد ولا زعيم إلا محمد ، وأي إنسانٍ يأتي بعد ذلك فإنه لا يرقى إلى مستوى هباءة تقع على حذاء محمد صلى الله عليه وسلم ، وأي كلام غير هذا فإنما هو تجديف وكفرُ بالله العظيم ، فهمتم ؟ فحينما يتحرر معنى الرب فيكون واحداً ، ويتحرر معنى الزعيم والقائد فيكون واحداً ، إليه المرجع وبيده وحده حق تفسير ما أراد الله في محكم كتابه ..
ننتقل إلى المرحلة الثالثة وهي النظام والمفاهيم والمثل والأخلاقيات التي تسمح للناس أن يتعاونوا ويتضامنوا ويتحابوا . في ظل تشريعات ونظم وأهداف ومنظومات خلقية متباينة ومتضاربة لا يمكن أن تزكو عوامل المحبة ولا يمكن أن تجد أرضيةً صالحة لنمو بذور الأخوة التي أرادها الإسلام ، ولا يمكن أن تجد هذا المعنى الكريم والكبير إلا في تشريعات الإسلام ، ومن غير حاجةٍ أيضاً إلى ضرب المثل نقف عند آية واحدة نستحضرها في الذهن ، لنكتشف الطبيعة الأساسية للتشريعات الإسلامية ، قانونية وأخلاقية واقتصادية وما أشبه ذلك ، نجد الله جلّ وعلا يلخص أوامر الإسلام كالآتي ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) هذا هو الوصف الذي وصف الله جلّ وعلا به هذا التشريع الإسلامي العظيم . فإذا كان التشريع منذ وُجد وإلى الآن ـ طبعاً هو غير قابلٍ للعبث والمس ـ تشريعاً يضمن العدل إلى جانب الرحمة ، ويضمن العفاف ، ويضمن الحياة الشريفة النظيفة ، ويضمن التضامن المعبر عنه بإيتاء ذي القربى ، فهو التشريع الذي لا يطمع الإنسان إلى أنظر وإلى أعدل منه على الإطلاق ، وهو التشريع أيضاً الذي يصلح ليستنقذ كل مجتمع وفي كل زمان وفي كل مكان من عوامل التدهور والانحطاط ومن عوامل الفرقة والتمزق . فهذا هو التشـريع الذي وُضع لكي يكون ناظماً للسلوك الناس محققاً لهم الوحدة الجامعة ، والتشريع الذي ينبغي أن يحكم الناس قاطبةً . فإذا فرغنا من هذه النقطة الثالثة انتقلنا إلى النقطة الرابعة والأخيرة .
طبعاً التشريع مفاهيم ، والمعنى التوحيدي مفهوم ، ومعنى القيادة كذلك مفهوم ، بمعنى أنها مُثل وأفكار ، هذه المُثل والأفكار ، هذه المفاهيم ، لا يمكن أن تتحيز على الواقع ، لا يمكن أن تتحقق بالفعل إلا إذا وُجد الوعاء البشري الذي يحمل هذه المفاهيم وهذه الأفكار وهذه المثل ، الوعاء البشري هو الذي تتحرك من خلاله وتتجسد من خلاله هذه المفاهيم التي ذكرناها جميعاً . حينما يكون هذا الوعاء البشري الذي هو المجتمع الإنساني مفتتاً وممزقاً لا شك أن كل المُثل التي ذكرناها من قبل تتعطل وتكف عن العطاء وتكف عن الفعل ، ولذلك كانت عناية الإسلام مشددة للغاية ، لا نجد لها نظيراً في أي تشريع ولا في أي مكان ولا في أي زمان ، على ضرورة التمسك بوحدة الجماعة المؤمنة ، لأن وحدة الجماعة المؤمنة هي التي تضمن راحة الناس وأمن الناس ، حينما يكون الناس محبين بعضهم لبعض ، متكافلين ، يسند قويهم ضعيفهم وغنيهم فقيرهم وعالمهم جاهلهم ، يكون الناس قد عاشوا بآمان وعاشوا بطمأنينة وعاشوا براحة ، بل قل إن جنة الله انتقلت من السماء إلى الأرض ، قل ذلك ولا حرج عليك ، أما حينما يكون العكس فالحياة جحيم ، حينما يعيش الناس وسط عوامل البغضاء والفرقة واالتمزق والانشقاق والحرب والصراع فإن الحياة تتحول إلى جحيم لا يطاق ، ويتمنى الإنسـان أن يخلص من الحياة بأسرع ما يمكن لأن هذا الجحيم غير قابل للاحتمال ، لهذا كانت عناية الإسلام راسخة وشديدة بضرورة تحقيق معاني الأخوة والوئام والانسجام والمحبة بين الناس ، كل تشريعات الإسلام أيها الإخوة من صلاة إلى صيام إلى حج إلى زكاة إلى غير ذلك ينصب في هذا الحوض ، كله يهدف ويرمي إلى تحقيق معاني الأخوة ، إلـى جعل الناس أمة واحدة ، كتلة واحدة ، لو ضربتَ بها العدو أقعدته وهزمته ، ولو ضربتَ به الفقر قضيت عليه ، ولو ضربتَ عليه عوامل الخوف أزلتها ، هذا المعنى كل تشريعات الإسلام تنصب حوله . خذوا مثلاً مجلسكم هنا ، كونكم الآن تصلون الجمعة أليست هذه صلاة مكونة من قيام وركوع وسجود وقعود وقراءة ودعاء ، صلاتك في البيت أليست فيها نفس العناصر ؟ نعم ، لكن وجودك هنا له معناه وله غايته التي يجب أن يهدف إليه ، حينما نعلم أن صلاة الجمعة في الأصل يجب ألا تُصلى إلى في مسجد واحد في المدينة الواحدة ، لاحظوا ، في المدينة الواحدة لا تُصلى الجمعة إلى في مسجدٍ واحد إلا إذا وُجد عذر يحول دون استماع الناس في مسجد واحد والصلاة في مسجد واحد ، طبعاً نحن لا نأخذ من الحالة حاضرة شاهداً وحجة على الإسلام ، الآن لا صلاة الجمعة فقط كل ألوان العبادة كل مظاهر العبادات أصبحت مع الأسف الشديد مجالات للبروز وللظهور وللإرادة غير وجه الله تبارك وتعالى ، الأصل أن الناس يصلون الجمعة في مكانٍ واحد ، وعلى ذلك مضى عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، في المدينة كانت هناك عدة مساجد ، لكن الناس يصلون بها الصلوات الخمس ، أو يمصلي بها المستطرق ، أما الجمعة ففي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى ذلك مضى عمل الخلافة الراشدة حتى استبحرت المدن وكبرت فوُجدت الحالة إلى تعدد المساجد .
حينما نرجع لننظر إلى هذه الواقعة التشريعية الإسلامية والتي تعيشونها الآن ، فما هو المقصود منها ؟ المقصود منها أيها الإخوة أن يجتمع الناس في الأسبوع مرةً واحدة في مكان واحد ، يصلون صلاةً واحدة على هيئةٍ واحدة ، ويسمعون توجيهاً واحداً من رجل واحد ، ويخرجون بعد ذلك موحدين الأجسام كتف إلى كتف ورجل إلى رجل ويد إلى يد ، يخرجون موحيدي الأجسام ويسمعون توجيهاً واحداً ، يخرجون منه موحدين العقل ، ويسمعون موعظةً واحدة يخرجون منها موحدي الأحاسيس ، أي معنى كبير وأي أثرٍ عميق يتركه تشريع من هذا اللون على صعيد الممارسة وعلى صعيد الواقع ؟ نحن في الواقع نسيء استخدام العبادات التي شرعها الله لنا ، لا نستخدمها على الوجه المطلوب ، وإنما نستخدمها من قفا المعدة أو نستخدمها لأغراض تتصل بشخصنا ، ولا تتصل بالله ولا تتصل لمصلحة البشرية .
فالجماعة التي أنشأها الإسلام وربّاها محمد صلى الله عليه وسلم ، كانت تشعر بهذا المعنى الموحّد ، هذا المعنى المقرّب ، شعوراً واضحاً وعيمقاً ، وأضرب لكم مثلاً واحداً ، بلال تعرفونه ، رجلاً أسود حبشي ، كانت صناعته في الجاهلية الغناء ، يغني ليطرب فتيان مكة ويدخل السرور إلى نفوسهم ، فلما جاء الإسلام آمن بالله ورسوله ، وكانت مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلال هذا الأسود في مجتمع يشعر بالعزة والعصبية لا قيمة لها ، حينما جاء الإسلام أسقط هذه الفوارق ، الأسود والأبيض والأحمر كلهم أبناء آدم وأبناء حواء ، وما دام الرب واحداً والتشريع واحداً فالناس أيضاً واحداً . ذات يوم قال له أبو ذر في ملاحاة بينهما : يا ابن السوداء . وإذا النبي صلى الله عليه وسلم يناديه من خلفه : يا أبا ذر طفّ الصاع ، يعني امتلأ الصاع وسال منه الماء ، يعني زوّدتها ، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى . وكما قلنا من قبل ( إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون ) ليس عيباً أن تظهر نوازع العصبية في لحظة ، هذا مشروع لأنه متصل بالطبيعة البشرية ، لكن العيب هو التمادي ، الخطر هو التمادي ، حينما سمع أبو ذر كلام النبي صلى الله عليه وسلم شعر بأنه ارتكب جرماً عظيماً وقارف ذنباً كبيراً ، فوضع خده على الأرض وأقسم على بلال أن يضع رجله على خده الآخر ، لكي يحقق إسقاط معنى التمايز في المجتمع ، ولكي يحقق عملياً أنه لا فضل له وهو العربي ، لا فضل له على بلال هذا الحبشي الذي لا يُدرى من أين هو ، كذلك نشأ مجتمع الاسلام وكذلك عاش المسلمون ، إخوة في الله متحابين متآلفين منسجمين ، وحين جبهوا الدنيا جبهوها بجبهة متماسكة ، فأحدثوا ما أحدثوا في مسار التاريخ ، وحينما انحلت عراهم وانحلت الروابط كانت الكارثة التي نعيشها الآن والتي يعرفها الصغير والكبير .
إذا نحن الآن أيها الإخوة ذكّرنا بمعنى الإخوة فأعتقد أننا نذكر بها أولاً لأنفسنا ومصلحتنا ولمصلحة أمتنا التي توجّه إليها السهام من كل جانب ، نحن لا يمكن وغير متصور أن نتغلب على أعدائنا بمجتمع ممزق ، لا بد أن نتوحد ونتآلف ونتعاون على البر والتقوى ، ونذكّر بذلك من أجل مصلحة المجتمع البشري ، فالإنسانية التي تعيش حالة الرعب والخوف الدائم مما يخبّئه المستقبل من مفاجآت لا طب لها ولا علاج لها إلا هذه الشعائر والتوجيهات الكريمة التي جاء بها القرآن وفصّلها محمد صلى الله عليه وسلم .
أسال الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم والمسلمين العزيمة الكاملة لكي نقف بصدق وأمانة وشرف مع مبادئ ديننا ومع توجيهات نبينا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.