تفسير سورة عبس (1)
تفسير سورة عبس
الجمعة 7 ربيع الأول 1397 / 25 شباط 1977
( 1 من 3 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فمع السورة الثالثة والعشرين في سياق نزول القرآن الكريم ، نستقبل درساً بالغ الأهمية عظيم الدلالة على ميزات هذه الحركة الإسلامية المباركة ، ولقد كانت لنا مع السور الماضية وقفات ، عرفنا منها الشيء الكثير ، ويقيناً إن أصول هذا الدرس الذي نستقبله اليوم تستكمل تلك القضايا المنثورة التي عرضنا لها من قبل ، ولكنها اليوم ومع هذه السورة بالذات تأتينا على شكل مكثف ، إنها سورة ( عبس ) في الجزء الثلاثين ، وهي الثالثة والعشرون من حيث الترتيب فهي تعود إلى المرحلة الباكرة جداً ، التي بدأ فيها رسول صلى الله عليه وسلم يقود مسيرة الدعوة الكريمة ، ووجه العبرة بل وجه العجب أن هذا الدرس كأنه مفصول عن ظروف الزمان والمكان ، لأنه يتجاهل كل أولئك ، ليرتفع بالنبي صلى الله عليه وسلم ومعه المؤمنون بالدعوة بجذبة عنيفة تخترق بهم حجب الأرض لتلحقهم بعالم الملائكة .
وإن الناظر في ثنايا هذه السورة لن يعجب هذا اليوم حين يلاحظ أن الإسلام ينسل إلى النفوس هيناً ليناً طرياً وإنه يحتل منها أعمق الأعماق وأنه يقودها من أقوى المقادات .
ذلك لأن هذا الإسلام بتعليماته وبتوجيهاته وبدروسه البليغة التي يقود بها الأمة ممثلة بشخص نبيها ، تتسق وتتجاوب مع أعمق أعماق الفطرة الإسلامية من غير أن تحدث فيها صدمات ، ومن غير أن تحملها أحمالاً من العقد . وقبل أن نسترسل مع هذه الخواطر المطلقة يحسن أن نقرأ السورة الكريمة وأن نتأملها فضل تأمل .
السورة وصف يحكي واقعة حصلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد مبكر جداً من عهد الدعوة الإسلامية . يقول الله تعالى واصفاً حال نبيه صلى الله عليه وسلم ومذكراً ومؤدباً حيال تلك الحادثة التي سنقص عليكم نبأها إن شاء الله : ( عبس وتولى ، أن جاءه الأعمى ، وما يدريك لعله يزكى ، أو يذكر فتنفعه الذكرى ، أما من استغنى ، فأنت له تصدى ، وما عليك ألا يزكى ، وأما من جاءك يسعى ، وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى ، كلا إنها تذكرة ، فمن شاء ذكره ، في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ، كراماً بررة ، قتل الإنسان ما أكفره ، من أي شيء خلقه ، من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره ، ثم أماته فأقبره ، ثم إذا شاء أنشره ، كلا لما يقضِ ما أمره ، فلينظر الإنسان إلى طعامه ، أنّا صببنا الماء صباً ، ثم شققنا الأرض شقاً ، فأنبتنا فيها حباً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلباً ، وفاكهة وأباً ، متاعاً لكم ولأنعامكم ، فإذا جاءت الصاخة ، يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، وجوه يومئذ مسـفرة ، ضاحكة مسـتبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة ) .
في صيغة الآيات تلاحظون هذه النغم الرقيق الذي يساق مساق العتاب الممزوج بالتعليم والتوجيه ، ولكنه النغم الـذي يلامس الحس ويخالط العقل والقلب ، والذي يشد الإنسان شداً إلى قضايا تحتل مكان الصدارة في سياق الدعوة والتي تشكل الغفلة عنها تغريراً لمستقبل الدعوة ، والأخبار متظاهرة ومتكاثرة ، أن السبب الذي من أجله أنزل الله ما أنزل من هذه السورة الكريمة أن النبي صلوات الله عليه وعلى آله كان شديد الإشفاق على قومه ، عظيم المحبة لسعادتهم فهو من أجل ذلك حريص على هدايتهم ، وحريص على اغتنام الفرص من أجل هذه الهداية ، وأنه عليه السلام كان لا يدع وسيلة يتوخى أن يكون منها خير لهؤلاء الناس إلا اغتنمها ولم يتركها تمر . ولقد كان عليه الصلاة والسلام ابن المجتمع المكي ما في ذلك ريب . ثم هو ابن الأمة العربية التي تقطن الجزيرة العربية . ثم هو بعد يعرف صلوات الله عليه قيمة القبلية وأثرها الكبير في ذلك المجتمع ، ويعرف أن للزعماء والسادة والأثرياء وذوي المكانة والوجاهة في أقوامهم وعشائرهم وأفخاذهم تأثيراً حاسماً . وما هذه عنكم بغريب ، فما تزال توجد نماذج من هذا القبيل تعيش حتى اليوم كأنما هي هاربة من بطن الصحراء لتحتل مكاناً ما في سياق المدنية المعاصرة .
ولقد كان يقع في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم كما يقع في ذهن كل أحد أن الله لو عطف قلوب بعض زعماء قريش فآمنت بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وآله نبياً ورسولاً لانفرط عقد المجتمع الجاهلي كما ينفرط النظام تتساقط حباته واحدة في أثر الأخرى . وذلك تصور لا غبار عليه ، وهو أمر طبيعي وإنساني للغاية ، ولكن المشكلة ليست هنا ، المشكلة أن الإنسانية تعالج من الإسلام تجربة جديدة ليس في أهدافها وغاياتها وحسب ، بل حتى في وسائلها وأسلحتها المعتمدة في النضال ضد معسكر الجاهلية .
المشكلة هنا ، وكما أن الإنسان المؤمن بحاجة إلى أن تجسد له الغاية وترسم أمام عينيه الأهداف لكي يمضي نحوها قدماً ، فكذلك هذا الإنسان المؤمن محتاج أشد الحاجة إلى أن يحسن اصطناع الأداة واختيار الوسيلة ، فإذا أخطأه ذلك فهو خليق بأن يتعثر ، وخليق بأن يسير ضمن حلقة مفرغة ، وربما سجل في مسيرته تراجعات وانتكاسات .
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقول الروايات وذلك إن شاء الله تعالى ثابت كان يتصدى ذات يوم لنفر من زعماء قريش من السادة من قادة المجتمع المكي ، وكان مقبلاً عليهم يجاذبهم أطراف الحديث ويبثهم هذا الدين الذي يحمله إليهم وإلى الناس كافة ، وملء إهابه عليه السلام الرغبة العارمة في أن يهدي الله هؤلاء النفر ، لأنه يرجو من وراء هدايتهم هداية جموع كثيرة تأتي إلى هذا الدين بالقدوة وبالمثل لا بالاقتناع ولا بالرغبة المجردة . والروايات في ذلك متعددة ولكنا إذا ضممناها إلى بعضها خرجنا بما يشير إلى أن النبي عليه السلام كان في تلك اللحظات يتعرض لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبي بن خلف وأبي جهل الحكم بن هشام ، لا شك أن هؤلاء سادة المجتمع المكي ، كان منصرفاً إليهم ، وفي اللفظ الذي جاء في السورة ( أما من استغنى فأنت له تصدى ) ما يشير إلى أنه عليه السلام هو الذي كان يترصد أولئك الناس ويتحين الفرص لكي يحدثهم بهذا الإسلام . وحينما كان مستغرقاً معهم في الحديث جاءه عبد الله بن أم مكتوم الرجل المسلم الأعمى الضرير ، الرجل دون شك لا يبصر ، أعمى ، فهو إذاً لا يعرف مع من يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبطبيعة الحال فهو محجوب عن رؤية هذه التعابير التي كانت ترتسم على قسيمات محمد صلى الله عليه وآله وهو يجد نفسه بين جاذبين ، إنه يتحدث مع زعماء المجتمع المكي ومع ذلك فابن أم مكتوم الضرير يلحّ عليه إلحاحاً من لا يعلم ولا يدرك الموقف على حقيقته : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، يسأله أن يقرئه شيئاً من القرآن وأن يعلمه بعضاً مما أنزل الله تبارك وتعالى عليه ، والنبي عليه الصلاة والسلام بشر كأنما تأذى بإلحاح عبد الله بن مكتوم رضي الله عنه ، لكن لم يقل شيئا. إلا أن تعبيرات وجهه الشريف صلوات الله عليه كانت تشعر بكراهته لهذا الإلحاح الذي يصدر من ابن مكتوم ، وقد كشف القرآن ذلك ( وأما من جاءك يسعى ) أي راغباً بك من تلقاء نفسه دون أن تتعرض له ، وهو يخشى ربه ويطلب منك أن تعلمه ما يزيده قرباً من هذه الرب الكريم الرحيم فأنت عنه تلهى ، أي تتشاغل وتعرض عنه ، وقضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه مع الزعماء المكيين وذهب ينصرف إلى بيته ، لا حظوا كيف كان الله جل وعلا يقود الدعوة بذاته الشريفة الكريمة . النبي عليه الصلاة والسلام في الطريق إلى بيته ، ومكة في ذلك الزمان بلد صغير ولا شك أن بيت محمد صلى الله عليه وسلم غير بعيد من الموقف الذي كان يقف فيه مع زعماء المشركين ، وهو منصرف في الطريق ألقى الله عليه ما يشبه النوم ، وجاءه الوحي بهؤلاء الآيات قبل أن يستقر في بيته ، قبل أن يصل إلى بيته جاءه جبريل الأمين بالوحي يكشف له خطأ الأسلوب الذي رأى وتصوّر أنه يكون ذا نتيجة . ما لنا بالسورة كلها ، نحن الآن أمام واقعة معروفة الشخوص معروفة الحدود ، إننا أمام زمرة من زعماء المكيين كان النبي عليه الصلاة والسلام يحرص عليهم غاية الحرص ، وأمام رجل من ضعفاء الناس ، أعمى ضرير معروف الشـخص ، وأمام حادثة معروفة الحدود ، وأمام واقعة بينة التاريخ .
إن النبي عليه الصلاة والسلام رجا شيئاً ، وجاءه العتاب في حينه ، يكشف له فشل هذه الشيء الذي رجاه ، فإذا تركنا السورة كلها جانباً لم نتعرض لها واكتفينا بإمساك الخيط الواقع بالحادثة الملموسة فسوف نرى عجباً من أعاجيب الله جل وعلا وسراً من أسرار إعجاز هذا الكتاب الكريم .
إن الله يقول ( أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى ) وهو كلام فيه قسوة وفيه حمل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فيه ما يشبه التقريع ، لماذا هذا الإلحاح على سادة المكيين القرشيين تعطيهم كل هذا الاهتمام ، وتضحي من أجلهم بالنفوس الطيبة التي تأتيك دون أن يسوقها إليك إلا الله جل وعلا ؟ أترى لو بقي هؤلاء الناس على ضلالتهم وبقوا على كفرهم ولم يتابعوك فهل تحمل أنت من أوزارهم شيئاً ؟ ( ما عليك ألا يزكى ) لن يصيبك شيء من جراء أن يبقى هؤلاء الناس في طريق الكفر والضلالة والفساد والإفساد ( وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا ) وهذه أداة زجر في لغة العرب التي نزل بها القرآن ، أي إن الأمر ليس كما تتصور يا محمد ( إنها تذكرة ) هذه السورة وأشباهها ما وظيفتها هل غاب عنك من سياق ما أنزلنا عليك من آيات وسور سابقات ؟ إن الأمر بالنسـبة إليك لا يعدو حدود التذكير إنه تذكرة ( فمن شاء ذكره ) إن هذا الكتاب الكريم تذكرة وإثارة للاهتمام وبعد ذلك ( فمن شاء ذكره ) ولاحظوا ، عبرة إسناد الفعل إلى المخاطبين ( فمن شاء ذكره ) الواقع أن ما مردّ الهداية والإضلال من حيث النتيجة إلى الله تعالى ( يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء ) ولكن الفعل هنا يُسند إلى الناس المعنيين ، فمن شاء انتفع بالذكرى ، فكأن الله تعالى يريد أن يقرّ في عقول المسلمين وفي أفئدتهم أن موضوع الدين كله برمته قائم على قطبين ، مركز يبث هذه الذكرى ولكن بثّ الذكرى ونشرها واحد من العملين الضرورين اللذين يجب أن يتعاونا على إحداث العمل المطلوب ، لكن بقي الشيء الثاني ، هؤلاء الناس الذين تخاطبهم وتكشف لهم عن كلمات الله تعالى لا بد لهم من أن يبذلوا من ذوات أنفسهم ، عبّرت عنه الآية الكريمة بلفظ المشيئة الكاشفة عن الرغبة وعن الإرادة ، فالواقع نحن نلاحظ من سياق الحياة العملية أننا نمشي بساق واحدة .. برجل واحدة .. وهي أيضاً ـ للأسف ـ رجل عرجاء ولا يستقيم لنا سير ، لماذا ؟ إن الدعوة تذاع بين الناس ولكن الأمر المؤسف للغاية أن هؤلاء الناس لا يعينوننا على أنفسهم ، لا يبذلون من أجل التفكير ومن أجل تبيّن وجوه المصلحة والصواب ما يكفي لتحريك العقل ، ما يكفي لإثارة العاطفة ، ما يكفي لوضع الإنسان على القاعدة الصحيحة .
فالحقيقة نلحظ أن القرآن حين عبّر عن الأمور بهذا الشكل نقف على قضية من أهم القضايا التي تعرّض لها القرآن في مواطن متعددة من سوره وآياته ، سنعود إلى هذه النقطة فيما بعد .
أما الآن فنحن نريد أن نتعرّف على إعجاز القرآن ، وعلى صدق القرآن ، إن القرآن في بواكير الدعوة يوم كان الرسول عليه الصلاة والسلام يضطرب بين المكيين ذاهباً وآيباً يرجو هدايتهم كشف له عن خطأ هذا الأسلوب ، فإذا أمسكنا بطرف الخيط وسرنا مع الأشخاص المعنيين بهذه الواقعة ماذا نرى ؟ إننا نرى بعد زمن أن الحوادث جاءت لتصدق نظرة القرآن الكريم ولتثبت أن القرآن الكريم من عند الله تعالى ، وإلا فأي إنسـان يُجزم على المسـتقبل أنه سوف يكون كيت وكيت .. هذا لا يكون ، لأن المستقبل نسيج متشابك من الحوادث لا يعلمها أحد من البشـر ، ولكن القرآن يجزم ، لماذا ؟ لأن القرآن جاء من عند الله وبأنه أُنزل بعلم الله وبأن الله يعلم على الجلية مصائر الأمور ونتائجها ، خذ الحادثة : الحادثة تقول لك : إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف مع أبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة ومع أمية بن خلف يرجو هدايتهم وأعرض عن عبد الله بن أم مكتوم ، فمن هؤلاء ومن ابن أم مكتوم ؟ وما مصير هؤلاء وما مصير ابن أم مكتوم ؟ إن هؤلاء سادة قريش دون نزاع ، هم الرجال الذين يُشار إليهم بالبنان ويُنتهى إلى رأيهم وينزل الناس عند مشورتهم ، هذا واقع لا ريبة فيه ، وابن أم مكتوم رجل ضعيف العزوة وضرير وقليل الحيلة ، فلننظر إلى النتائج ، أما الرجال الأربع من زعماء المكيين ، فبالرغم من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايتهم وبالرغم أنه ارتكب خطأً في حق مؤمن جاءه يسعى بدافع ذاتي ، بالرغم من ذلك فقد استمر هؤلاء الأربعة على كفرهم ، وماذا كانت نتائجهم ؟ طعناً بالرماح أو هدراً بالسيوف في بدر أو أُحد ، وانتهى أمرهم إلى أن يموتوا على الكفر والضلالة بالرغم من حرص النبي عليهم ، وبالرغم من الآمال العراض التي كان يُعلقها عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم .
وما مآل ابن أم مكتوم ؟ هذا الرجل الأعمى القليل الحول والحيلة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه هؤلاء الآيات خرج يلتمس ابن أم مكتوم ، فلما لقيه قال له كالمعتذر إليه : هل لك من حاجة ؟ هل من شيء أستطيع أن أقضيه لك ؟ قال : لا يا رسول الله . وما زال النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر حياته يدنيه إليه ويقرّبه ، إذا دخل المجلس يتوكّأ على عصاه ويقوده قائده يستقبله النبي صلى الله عليه وسلم بالبسمة اللطيفة وبالبشر والإيناس قائلاً : أهلاً بمن عاتبني فيه ربي .
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وشُرع الأذان ، وعيّن الرسول صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم مؤذناً للمسلمين مع بلال ، بل كان أذان ابن أم مكتوم خاتمة أكل الصائم الذي يريد أن يصوم ، فكان عليه الصلاة والسلام يقول : لا يغرنّكم من سحوركم أذان بلال فإن بلالاً يؤذن بليل ، فإذا سمعتم أذان ابن أم مكتوم فأمسكوا . لماذا ؟ لأنه كان ضرير البصر لا يرى الفجر حين ينشق في المشرق ولا يؤذن حتى يُقال له أصبحت أصبحت .
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يخرج في الغزوات ويغادر المدينة وهو قائد الدعوة وسيد المسلمين وإمامهم في الصلاة ، من ترون كان يستخلف على المدينة ؟ كان يستخلف هذا الأعمى ، كان هو أمير المسلمين في غيبة النبي صلى الله عليه وسلم ، لماذا ؟ أمن أجل أن الله عاتب من أجله رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ لا ، إن رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يقدّر الناس لظواهر خارجية ولكن وفاقاً للفضائل النفسية التي لا يطيش معها ميزان الرجال . فابن أم مكتوم رجلاً براً تقياً ، ولهذا استحق أن يستخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان يخرج من المدينة للغزوات وغير ذلك .
أهي خلافة هينة القدر ؟ لا ، ولكي تعرفوا قيمة استخلاف إنسان للصلاة فعليكم أن تتذكروا أن المسلمين حينما مات الرسول صلى الله عليه وسلم وتحيّروا فيمن يخلف الرسول عليه الصلاة والسلام على الأمة أخذوا الأمر بميزان الصلاة ، فقالوا : يا أبا بكر أنت خليفة رسـول الله ، ابسط يدك نبايعك . قال : لا ، ليست لها . فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيك لديننا ، أي استخلفك في مرض موته على الصلاة ، أفلا نرضاك لدنيانا . فاستخلاف شخص معين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم لإمامة المسلمين للصلاة ترشيح للمهمات الجسام . فهل يا ترى ابن أم مكتوم هذا الإنسان الضعيف الضرير يستحق مثل هذا التكريم والتقدير ؟ أم هي لفتة مجاملة من زعيم إلى واحد من الرعية ؟ سيروا مع الأيام وتتبعوا الوقائع ، يموت النبي صلى الله عليه وسلم ، ويستخلف الناس أبا بكر ، وأبو بكر ينتقل إلى جوار ربه ، ويُستخلف عمر ، وتبدأ المسيرة العظمى التي حطمت ركائز العالم القديم ، ويسيّر عمر جيوشه إلى القادسية لكي يحطم ملك كسرى ، من كان في الجيش ؟ الأعمى ابن أم مكتوم ، كان واحداً من جند سعد في معركة القادسية ، بعد أن شاب وكبر سنه ، والمعروف أن الشيوخ يعفون من الجندية ، فإذا أضفتَ إلى ذلك ضرارة البصر عجبتَ ، كيف يخرج إنسان مثل هذا الأعمى لكي يقاتل ؟ وما غناؤه للقتال ؟ ما الذي يستطيع أن يفعله ؟ لكن ابن أم مكتوم يعرف مكانه في جيش المسلمين ، ويعرف موقعه في المعارك الفاصلة التي تتقرر فيها مصائر الإسلام ، لا بل تتقرر فيها مصائر البشرية . أساليب الناس في القتال في السابق أن الجيش ثابت في مكانه طالما أن حامل اللواء ( أي العلم ) ثابت في مكانه ، فإذا سقط العلم سقط الجيش . ولهذا يُختار حين تكوين الجيوش لحمل الألوية أشجع الناس وأقدرهم على الصبر والثبات . ابن أم مكتوم حين سار الجيش إلى العراق استأذن عمر كي يخرج مع الجيش ، الله أعلم أية خواطر نبيلة تلك التي كانت تتخالج في نفس ابن أم مكتوم ، لكنه بالتأكيد كان يعرف مكانه في الجيش . قال لهم : إذا تواقفتم للقتال فأقيموني بين الصفين ، وسلموني اللواء ، فإني رجل ضرير البصر لا أقوى على الفرار . مكان محدد ، إن الإنسان المبصر يرى خصومه بعينيه ويقدّر ظروف المعركة تقديراً ويرى على من تكون الدائرة وعلى من يكون النصر ، فهو يتفاعل مع هذا الذي يراه ، ويتحرك وفاقاً مع هذا الذي يراه ، ولكن الأعمى محجوب عن هذا كله ، فوظيفة ابن أم مكتوم حددها هو بنفسه ، هي أن يحمل اللواء للمسلمين وأن يظل ثابتاً لأنه أجدر جنود الجيش كي يبقى ثابتاً باعتباره لا يرى من حوله شيئاً ، ولو حدثته نفسه بالفرار فسوف لن يقوى على الفرار ، أين يذهب ؟ أيذهب يميناً ؟ فلعل العدو في اليمين . أيذهب شمالاً ؟ فلعل العدو في الشمال .. وهكذا . فهو المرشح أن يمسك اللواء للمسلمين إمساك من لا يفر ولا يقدر على الفرار .
ودارت المعركة ، ويحدثنا أنس بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : رأيت ابن أم مكتوم يرحمه الله يوم القادسية بين الصفين ، في يده علم أسود وهو يلبس درعاً له ، وأول يوم تعادلت الكفتان ، وثاني يوم بدأت رياح النصر تهب ، وفي يوم الثالث كتب الله للمسلمين النصر ، وتحطم ملك كسرى ، وذهب المسلمون يلتمسون الجرحى والقتلى ، كان بين القتلى ذلك الذي شهد له القرآن منذ وقت مبكر أنه على هدى ، وأنه يخشى . كان ابن أم مكتوم صاحب محمد ومؤذن محمد ، والرجل الفاضل المفضل شهيد في معركة القادسية . أين هذه الخاتمة من خواتيم أولئك الرجال أي زعماء قريش ؟ قعصت الرماح بهم قعصاً وجزرتهم السيوف جزراً في معارك دارت عليهم وقضوا وهم كافرون . الدنيا خسروها ، والآخرة خسروها ، وأسوء ما كان أن أمية بن خلف هذا الذي طغى وتجبّر ، حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في الدعوة في شعاب مكة يقول له : يا محمد إن عندي فرساً لي أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة سأقتلك عليه . فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتلك إن شاء الله .
ذهب عتبة وربيعة وأبو جهل في معركة بدر قتلى غير مأسوف عليهم ، جُروا من أرجلهم كما تُجر الكلاب ، وأُلقوا في قليب بدر . وكان أمية ممن حضر معركة أُحد ، فلما هجم على النبي صلى الله عليه وسلم أراد بعض المسلمين أن يتصدى له ، فقال عليه الصلاة والسلام : خلوا عنه . ثم تناول سهماً فضربه وخدشه فـي رقبته خدشاً بسيطاً جداً ، فذهب يعوي عواء الكلب ويقول قتلني محمد . ينظر الناس إليه فلا يرون فيه شيئاً ، يقولون له : يا هذا ليس بك بأس . فيقول : إنه كان يقول لي : بل أنا أقتلك إن شاء الله ، والله لو بصق علي لقتلني .
فابن أم مكتوم مات شهيداً بين الصفين يحمل لواء الإيمان للمسلمين ، أين عواقب الناس ؟ كيف تختلف العواقب ؟ كيف تتفرّق بهم السبل ؟ وهم يخضعون لتجارب واحدة ، ذلك ما سوف نستعين الله تعالى على أن نتحدث عنه إليكم في الجمعة القادمة .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين .