تفسير سورة النجم (2)
تفسير سورة النجم
الجمعة 8 صفر 1397 / 28 كانون الثاني 1977
الحلقة ( 2 ـ 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
لقد كانت وقفتنا الأولى في الأسبوع الماضي مع سورة النجم ، وهي السورة التي أثارت في وجهنا وفي وجه كل الدارسين مشكلة من أعقد المشاكل التي تواجه دارس القرآن من حيث ارتباط الآيات بالوقائع .
وقفت بكم في الجمعة الماضية عند بعض مضامين سورة النجم وكان الهدف من ذلك أن نتحسس مدى صلة هذه المضامين بذلك الواقع البعيد ، ثم ننظر إلى النتائج التي حصلت والتي يمكن أن نلقيها على الواقع المعاصر . وتحدثنا عن فاتحة السورة بما أحسبه مغنياً إن شاء الله في هذا الموضع ، فمسألة الحديث عن الإسراء والمعراج ليست مسألة أساسية في سورة النجم لكي يفيض الحديث عنها في هذا الموقف ، لكن محلها في سورة الإسراء وهي من السور المكية التي لا بد أن نمر عليها إذا أحيانا الله وأقدرنا الله على ذلك .
عموماً فيما يتعلق في مضامين السورة فإن القرآن المكي برمته يدور حول الأمور السارية بصورة أساسية ، أولاً مشكلة الألوهية وما يتفرع عليه ، ثانياً مشكلة الرسالة وما ينبني عليها ، ثالثا مشكلة الدار الآخرة وما تثيره من الصعوبات ، فهذه الأمور الثلاثة هي في الحقيقة الأسس التي يدور عليه القرآن المكي كله . وبطبيعة الحال فهذا إجمال لا يغني عن تفصيل ، وإيجاز من ورائه كلام طويل ، خذ إليك مثلاً موضوع الألوهية ، وقلت إنها مشكلة الألوهية وهي في الحقيقة مشكلة إذا حُلّت انتهى كل شيء ورجعت الأمور إلى الحق ، وإذا لم تحل فلا جدوى من متابعة الطريق . إن مشاكل الإسلام وقضاياه يتصل بعضها ببعض ويأخذ بعضها برقاب بعض ، وهي كأجزاء البناء ، هي بمجموعها تسمى البناء ولكنها على شكل تفاريق وأجزاء ليست بناءً ولا شيئاً قريباً من البناء . مشكلة الألوهية لا يمكن أن يُنظر إليها بصدق وبجدية وبأسلوب علمي باختصار ما لم تتعرف قبل ذلك علـى الأرضية التي كانت متوفرة حين نزول الرسالة الإسلامية .
ما هو الواقع الديني ؟ ما هي جملة الأفكار التي كانت تموج بها الساحة الإنسانية في ذلك الوقت ؟ ما مبعث هذه الأفكار ؟ ما مأتاها ؟ ما منشؤها ؟ ما قيمتها في حياة الناس العقلية والعملية ؟ كل أولئك يجب أن تتعرف عليه قبل أن تأذن لنفسك بأن تخوض هذا الغمار ، ثم أنْتَ بَعْدُ مطالب بأن تعرض مسألة الألوهية على النحو الذي جاءت به الرسالة وأن تعرضها وهي في غمرة الصراع مع هذا الواقع الذي يتحرك بمختلف الاتجاهات والمبادئ . قل مثل ذلك بالنسبة لمشكلة الرسالة ، كيف يكون البشر رسولاً ؟ كيف تتحقق الصلة بين السماء والأرض ؟ ما ماهية الوحي ؟ ما موضوعات الوحي ؟ ما مقام الرسول من دين الله وشرعه ؟ ما مقام الرسول من أمته التي دعا إلى الله فيها ؟ ما مقام الرسالة ككل بالنسبة للبشرية ؟ كل أولئك أسئلة لا بد لك أن تواجهها وأنت تتعرف على حقائق التنزيل ، ومثل هذا أيضاً لك أن تقوله بالنسبة ليوم الآخر .
حينما نبسط أمامنا مخططاً عاماً لسورة النجم فبالتأكيد سوف نعثر على هذه القضايا بالذات ، أول شيء بدئت به السورة تلميح إلى موضوع الألوهية ولكن من الجانب الذي يهدم العقيدة الفاسدة أي من الجانب السـلبي وليس من الجانب الإيجابي . ( والنجم إذا هوى ) فالنجم باعتباره أحد المعبودات التي كانت تعبدها الأمم القديمة ، ومن الخطأ أن نظن أن عبادة النجوم عبادة كانت مقصورة على العرب ، فالواقع أن العرب أخذوها عن غيرهم ، عبادة الكواكب والنجوم كانت أشيع ما تكون وأظهر ما تكون عند البابليين ، وحينما أرسل الله جل وعلا أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام بالحنيفية السمحة كانت عبادة النجوم أظهر شيء يكون في المجتمع البشري المعروف في العالم القديم ، ولعل الإشارة في الآية حكايةً عن مقام إبراهيم عليه السلام ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) تشير إلى هذا الواقع الذي كان معروفاً في ذلك التاريخ . والعرب أخذت عبادة بعض الكواكب عن الأمم الأخرى ، صحيح إن البابليين في الأصل موجة من موجات الهجرة العربية من الجزيرة العربية ولكنها تحيزت مع الزمن أمة قائمة بذاتها ، انفصلت بمعتقداتها وبآرائها ونظمها وبأنماط حياتها عن الأمة الأم التي بقيت تعيش داخل الجزيرة العربية ، فلا بدّ نعرف أن عبادة النجوم طارئة على الأمة العربية وليست أصيلة ، وأنها جاءت إليها من أمم أخرى . هذا التلميح الذي أشرنا إليه الآن والذي يشير إلى قَسَمٍ بالنجم إذا هوى يُشْعِرُ عند من يذوق تراكيب العربية ويعرف خصائص اللسان الذي أُنزل به القرآن ويعرف قيمة الزخم والإشعاع الذي تتمتع به هذه اللغة الشريفة التي نطق بها أفصح الخلق وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم تترك في حس العربي وهو يسمع هذا الكلام . العربي ولا نعني عرب اليوم فكثير منهم يجب أن يُسمّوا أعاجم ، وأعني العرب الذين خلصت فِطَرُهُمْ واستقامت سلائقهم وبرئت من العقد نفوسهم ، هـذا العربي حين كان يسمع الله يقول ( والنجم إذا هوى ) يتصور في ذهنه عالماً كاملاً ، قضية برمتها تقوم رأساً في الذهن وتنبثق لتأخذ شكل عالم ، يتصور العربي أمته وتلك الطوائف منها التي كانت تعبد النجوم والكواكب سواء عبدتها استقلالاً أي اعتبرتها آلهة من دون الله أو عبدتها على سبيل المشاركة مع الله جل وعلا أو عبدتها على سبيل البُنُوّةِ لله جل وعلا تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، كما كانت العرب تدعي أن الملائكة بنات الله ، وسواء عبدت هذه النجوم على أنها أشياء مقدسة لها تأثير أو فاعلية في الوجود أو بتعبير الفلاسفة ـ الذين يُسَمَوْن للأسف فلاسفة المسلمين ـ أن هذه الكواكب مدبرات للكون . سواء كانت الصورة هذه أو تلك فإن العربي يتصور مباشرة هذه الصورة . هذا النجم يراه أمامه كلما جن الليل ونظر العربي إلى أديم السـماء ولاحظ حركات النجوم وجد النجم ينتقل بانتقال الفلك ويتحرك بحركة الفلك ، ثم وجد هذه النجوم المتهاوية المتساقطة فهو يرى دلائل التغير والحدوث ، ما كان متغيراً وحادثاً فلا بد أن يكون البداية ، والله الخالق البارئ المصور يستحيل أن تكون له بداية ، ما كان خاضعاً للتغير فإن الزمان يؤثر فيه ، وإن المكان يؤثر فيه ، والمعبود الحق خالق الزمان والمكان ومؤثر فيهما ، حينما تقع هذه اللحظة في حس العربي ( والنجم إذا هوى ) يدرك فوراً دلالة ما فيه طوائف من العرب ممن عبد النجوم ، وصحيح أن الهجوم على صورة من صور الوثنية بهذا الشكل هجوم غير مباشر ولكنه فعّال ، ليست المسألة أن أواجهك مواجهة صريحة وأن أكسر ساقيك ، لا ، هذه صورة من صور عديدة قد تكون أضعف الصور وأقلها تأثيراً ، المسألة التي يجب أن توضع في الاعتبار وأن تُوْلَي العناية الكافية ليست أن نسب معبودات العرب وغير العرب ، فإن السباب المباشر والهجوم المباشر دون أن يكون مصحوباً بهذه الزعزعة التي تتناول التشكيك بأساس القضية يؤدي إلى عكس المطلوب ، ولهذا نجد من جملة تأديبات القرآن للأمة المسلمة حينما كان بعض المسلمين يتسرع فيسب آلهة المشركين نجد الله تعالى يقول على سبيل التأديب والتوجيه وبيان الطريقة الأجدى والأمثل ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسب الله عدواً بغير علم ) ماذا تكون النتيجة ؟ تكون النتيجة حين تهجم أنت الهجوم المباشر على الخصم أنت لا تفعل أكثر من أن تزيد ضلاله على ضلال ، وقساوة على قساوة ، الطريقة المثلى أن تمسّ القضية من أطرافها بالتشكيك ، لزعزعة الثقة ، حتى إذا ما اهتزت الأسس ولم يبقى للقضية التي يحملها خصمك كل هذه القداسة والتمسك فحينئذٍ اضرب الضربة القاضية وذلك هو ما فعله القرآن الكريم .
حين كان بعض المتسرعين من المسلمين يسـبون الأصنام ماذا كانت النتيجة ؟ كانت النتيجة أن المشركين أخذوا يسبون الله ، ماذا فعلنا ؟ حصيلة العملية ماذا كانت ؟ أننا أقمنا حاجزاً كثيفاً بيننا وبين هذا الإنسان الذي نتحدث معه لكي نقتلع من ساحة تفكيره ومن جذر قلبه عقائد فاسدة لنحل في مكانها عقائد سليمة وأفكار صحيحة نكون قد أنزلنا حجاباً كثيفاً أمام هذا الإنسان ، هذا واحد . الشيء الثاني : في الوقت الذي نبعد أنفسنا عن هذا الإنسان ونبعد هذا الإنسان عنا نكون قد تسببنا في أن يُسب الله تعالى عدواً بغير علم . فعلاً إن الذي تنفض إليه ما عندك إنسان كما أنت إنسان ، كما أن لك عقلاً فله عقل ، وكما أنك تتمتع بأحاسيس ومشاعر فهو مثلك كذلك ، وكما أنك تحب قضيتك التي تحملها وتتفانى من أجلها ، فكذلك هو يحب ذلك ، فمن هنا ندرك ما قال الله تعالى تعقيباً على هـذا الفهم المغلوط ( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) . في السابق قلت لكم إن من الخطر أن تظنوا أن عابد الصنم لا يحس بالراحة والرضى ، ومن الخطأ أن تظنوا أن النصراني الذي يقول إن عيسى ربي وهو مخلصي وهو إلهي لا يحس بالرضى والطمأنينة ، ومن الخطأ أن تتصوروا اليهودي الذي يرزح تحت مجموعة هائلة من العقد غير راضٍ عما هو فيه ، بل من الخطأ أن تتصور أن هذا المشرك في الهند أو في الصين الذي يتقدس ويتطهر بروث البقر لا يحس الرضى والطمأنينة ، لا تتصوروا المسألة بهذا الشكل . من عجيب صنع الله أن الله تعالى أَرْضَى كل إنسان بالذي هو فيه وإلا لانشق الإنسان إلى نصفين ألماً وانزعاجاً ، لكن الله تعالى من أجل استقامة الحياة جعل كل إنسان راضياً بالذي هو فيه . ومهمة الرسالة أن تزيل هذه الحجب عن عيني الإنسان ، أن تجعل الإنسان يتطلع إلى ما هو أعلى ، وأن ينظر إلى ما هو فيه ، فيرى أن ما هو خلاف لهذا قد يكون أفضل وأحسن .
أريد أن يعرف كل واحد منا أن طريق الدعوة ليست سباباً أو ليست هي دائماً مواجهة فعلية ، إن النهاية الفعلية هي نهاية المطاف ، وأما في الدعوة فأنت مأمور بأن تتلطف بالناس وأن تأخذهم على أنه بشر ، قد يكون أبي فاسداً ولكن لا أرضى منك ولو كنتَ ملك الملوك أن تسب أبي ، وحين تسب أبي فسوف أسب أباك ، ولهذا قال النبي صلى الله عيه وسلم : لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات . وقال أيضاً فيمن يرتكب الكبائر عدّ منهم أن يسب الرجل أباه . قالوا : وكيف يسب الرجل أباه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ، ويسب أمه فيسب أمه . فالتعامل مع كائن حي ، علينا أن نعرفه بدقة كي نعرف الطريق الذي يوصل إلى قلبه ، ولكي نمسك بالمفتاح الذي يفتح مغاليق هذا القلب . تجدون ربنا جل وعلا حينما يعرض سورة النجم بهذا الشكل الذي تحدث به لا يزيد في فاتحة السورة على أن يعرض تعريضاً يدركه أولوا الألباب ( والنجم إذا هوى ) هذه قضية تعرض لا مجال للمكابرة فيها ، سقوط النجوم شيء يراه الإنسان كل يوم لا سيما سكان الصحارى الذين تصفو عندهم السماء يرون تساقط النجوم بكثرة ، فإذا كانت النجوم متغيرة بهذا الشكل فقد وقع في الحس أن هذا لا يستحق أن يكون إلهاً .
ما أريد بعد هذا الكلام الذي أردته كالمدخل إلى ما أحب أن أقول لكم أن أتعرض مرة أخرى لموضوع فاتحة السورة التي تقص شيئاً من مشكلات الإسراء والمعراج فأنا أدخر هذا إلى اليوم الذي نقف فيه مع سورة الإسراء ، وإنما أريد أن أمر سريعاً إلى بعض موضوعات السورة وأقف عند قضية عرضت جوانب منها في الجمعة الماضية ، قضية الألوهية التي تصدى لها الإسلام ، وقضية المعتقدات التي كانت سائدة في الجزيرة العربية . تعرفون أن الله تعالى قال مخاطباً هؤلاء الناس : ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، ألكم الذكر وله الأنثى ، تلك إذاً قسمة ضيزى ) ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سـلطان ) ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) وفي هذا الموضوع عن ادعاء العرب في الجاهلية أن الملائكة بنات الله ، وعن ادعائهم أنهم شفعاء لهم عند الله ، وأنهم باعتبارهم بناتاً كانوا ينطلقون من تصور جاهلي متأصل في نفوس فرضته الحالة البدوية في الصحراء التي كانت تعيش فيه العرب . ففي الصحارى حينما لا يكون ثمة قانون ولا دولة فالإنسان يحتكم إلى ساعده وإلى قوته باستمرار ، من يقدر على هذا ؟ الذكران دون الإناث ، ولهذا كانت العرب تفرح بالمواليد الذكور وتبتئس بالإناث ، ولكراهيتهم للأنثى ولهوان قضية الألوهية عليهم أنفوا لأنفسهم واستكبروا أن ينسبوا الإناث إلى أنفسهم فنسبوها إلى الله جل وعلا واعتبروا الملائكة إناثاً وأنهم بنات الله وسموا الأصنام بأسماء الإناث ، اللات والعزى ومناة كلها على وزن التأنيث ، لأنهم ينفرون من الأنثى ويدفنونها وهـي حية . ما عند هذا أريد أن أقف ، وإنما أريد أن أقف عند هذه الظاهرة ، من أين جاءت إلى العرب ؟ إننا في الواقع نعرف أن العرب سلالة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، يقول الله تعالى ( ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيم الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) في موضع آخر كان إبراهيم عليه السلام ينظر إلى الغيب البعيد ويقول ( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ) فالعرب المستعربة هم من سلالة إبراهيم عليه السلام ، أرأيتم في ديانة إبراهيم شيئاً من الوثنية والصنمية ؟ إن إبراهيم عليه السلام جاء بها بيضاء نقية حنيفية سمحاء وتوحيداً مطلقاً لا شرك ولا شائبة من شوائب الشرك ، فلماذا إذاً وجدنا هذه الأمة حينما جاءها محمد صلى الله عليه وسلم ولا شيء أظهر عندها من عبادة الأصنام ؟ أهو شيء اخترعوه وابتدعوه أم هو شيء طرأ عليهم من الخارج ؟ من حيث المردود العملي فلا فرق يُذكر بين أن تكون الأصنام طارئة من الخارج أم نابعة من ذات الأمة ، لكن من وجهة إبراز مكانة الأمة فعلينا أن ننظر في القضية نظراً أدق وأقرب إلى وقائع التاريخ ، إن الأمة العربية والتي هي نسل إسماعيل والتي تلقت رسالة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لبثت على الحنيفية السمحة ، ويقول الرواة إن إسماعيل عليه السلام تزوج امرأة من قبيلة جرهم ، حينما أنزل إبراهيم عليه السلام هاجر وابنها في مكان البيت كان البيت ربوة بيضاء ولا ماء ولا شيء ، وترك أهله الآخرين في العراق وترك إسماعيل في الحجاز ومضى عائداً إلى العراق ، لم يكن في المكان إلا هاجر وابنها الرضيع إسماعيل .
ها نحن في قصة إسماعيل ، المهم أن البادية أعز شيء فيها هو الماء ، حيثما وُجد الماء وجد السكان ، والمكان الذي لا ماء فيه لا سكان فيه ، منطقة البيت لم يكن فيها ماء ولهذا لم يكن فيها سكان ، حينما أنبع الله جل وعلا زمزم لهاجر وابنها إسماعيل بدأت هذه الطيور تحوّم حول المكان فلاحظت فصائل من قبيلة جرهم وهي من العرب العاربة لاحظت وجود طائر يحوّم حول مكان معين قال قائلهم لا بد أن يكون هناك ماء ، وقصدوا هذا المكان ولدهشتهم وجدوا الماء فعلاً ولكن لم يجدوا إلا امرأة تحمل على صدرها رضيعاً . وبما أن في العرب خلائق جيدة ، لو كان هؤلاء يتمتعون بروح الشر والعدوان فماذا تستطيع امرأة أن تفعل أمام قبيلة ؟ ومع ذلك فإن القبيلة احترمت هذه المرأة وابنها واستأذنوا المرأة بأن يخيموا في هذا المكان . فوافقت المرأة ولكن قالت لهم : ولكن الماء لنا . وكبر إسماعيل عليه السلام وهو لا يرى إلا هذه القبيلة أمامه . ثم تزوج من هذه القبيلة وانتشرت ذرية إسماعيل . حينما انتشرت هذه الذرية وتكاثرت كان بينها ما يكون بين الناس في مزدحم الحياة ، الخلافات والقتال .. وجد الناس أنفسهم مضطرين أن يرحلوا ، بعضهم خرج إلى مناطق أخرى ولكن ضمن جزيرة العرب ، مكة المشرفة من خصائصها أن القلوب تهوي إليها ، وأن الإنسان إذا رآها مرة إلا ويسكنه الحنين إليها طيلة عمره . حينما وقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتأهب للهجرة من مكة إلى المدينة نظر إلى البيت وإلى ربوع مكة التي كانت ملاعب الصبا ومدارج الشباب ونظر إلى هذه البقاع التي شهدت أخطر وأصعب مرحلة من حياة محمد صلى الله عليه وسلم وقال يخاطب مكة : والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت . مكة حبيبة إلى النفوس ، أرانا الله جميعاً إياها إن شاء الله .
حينما اضطرت بعض فصائل من ذرية إسماعيل للهجرة لشوقهم إلى مكة أخذوا معهم شيئاً من حجارة مكة ، كانوا يتذكرون هذا البلد الحبيب إلى نفوسهم ، لا شيء أكثر من ذلك في المرحلة الأولى . ولاحظوا كيف تتسلل العقائد الفاسدة وكيف يدخل تيار الانحراف إلى النفوس ؟ في المبدأ ليس أكثر من أنك حملت صورة صديق أو حبيب ووضعتها في جيبك وكلما تشوقت إليه استخرجت الصورة من جيبك ونظرت إليها . كذلك فعل العربي حين هاجر من مكة أخذ معه بعضاً من حجارة الكعبة ، كلما اشتاق إليها نظر إلى هذه الحجارة ، في مرحلة الشوق الأولى تكفيك النظر فترى أن شوقك قد روي ، ولكنك مع شدة الشوق لا تكتفي بذلك تضع يدك فتلمس فتشعر بهذا التيار العجيب الهادئ إلى نفسك ، ثم أخذوا يتلمسون هذه الحجارة كل فترة ، ومع الزمن ومع توالي الأجيال زادت المحبة وانقلبت المحبة إلى قداسة ، وانقلبت لمسة الحب إلى تقديس وعبادة ، وأصبح لدى العرب من العقائد والشعائر أنهم يتمسحون بالأصنام تكملة إلى أداء الشعيرة التي يريدونها . ثم تتطور الأمر ، هذه الحجارة الصماء أخذ الناس يشكلون فيها مع الزمن على هيئة صنم فطورت ثم عُبدت ومسحت ثم نُحر لها ثم عُبدت من دون الله تعالى .
من هنا إذاً نشأت الوثنية ، انظر إلى البداية ثم إلى النهاية تجد أن العمل الأول لا شيء فيه ، ثم تتطور الأمر إلى العبادة . فنحن حين نعرض إلى توجيهات الإسلام نجد الإسلام غاية في الحكمة وبعد النظر ، حينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل على أصحابه كان بعضهم يهمّ أن يقوم إجلالاً واحتراماً للرسول صلى الله عليه وسلم ، فأنتم تعرفون الآن أنه حين ندخل إلى مجلس من المجالس ولا يقوم الناس لنا حين ندخل نغضب ونشعر بأنه أُلحقت بنا إهانة ، النبي صلى الله عليه وسلم بنظره المحكم كان يقول لهم : اجلسوا ، لا تقوموا لي كما تفعل الأعاجم يعظم بعضها بعضاً . النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الأعاجم عبدت ملوكها ، فرعون كان يُعبد من دون الله ، إمبراطور الرومان كان يُعبد من دون الله ، وكذلك كسرى . ما الملك ؟ هو بشر من البشر اختير من قبيلة قوية ليكون مدبراً . له شيء من الاحترام ولا شيء أكثر من ذلك . لكنه مع الزمن يستخف قومه فإذا هو يفرض عليهم مع الزمن احتراماً أكثر وهكذا حتى يطلب منهم أن يعبدوه .
النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع من هذه الظاهرة . وحين مرض صلى الله عليه وسـلم مرضه الأخير وكانت تأخذه غاشية الموت كان يغطي وجهه بثوب ، فإذا أفاق رفع الثوب من على وجهه ومسح وجهه وقال : اشتد غضب الله على أُناس اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، اللهم لا تجعل قبري من بعدي وثناُ يُعبد . إن تطور الاحترام إلى تقديس أمر وارد ، ونحن نستطيع أن نلمح هذا في حياتنا المعاصرة ، بعد عشرات ومئات الألوف من السنين التي قطعتها البشرية وهي تعيش وهي ترى كيف يموت الزعماء وكيف يحيون ؟ نحن ليس بعيداً عنا أن الزعماء كانوا يُعبدون من دون الله جل وعلا وأن تماثيلهم وأصنامهم نُصبت على الطرقات كي تجذب اهتمام الناس ، ونحن نرى ونسمع مما عاصرناه أنه من السهل عليك أن تشتم الله وأن تكفر بأنبياء الله جميعاً ، لكن ليس من السهل عليك أن تسب أمام ضعيف عقل أحد هؤلاء الناس وزعيماً من الزعماء يأكل وينام ويتغوّط .. ويعيش ويموت ، والإنسانية لم تستفد من هذه التجربة بعد مئات من الألوف من السنين عاشتها وهي ترى أن إنساناً لا يختلف عن إنسان ، وأن إنساناً لا يصح أن ينحني أمام إنسان . من هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يرفع هامة المسلم وأن يمنعها من أن تنحني لغير الله تعالى . ولهذا فنحن نجد أن ظاهرة الانحسار والانحطاط التي تعرضت لها الأمة كانت مصحوبة للأسف الشديد بهذا التقديس المبالغ فيه للصالحين وأصحاب الكرامات وما أشبه ذلك ، فهذا ينذر للقبر وهذا يسجد للقبر .. مما يخيل إليك أن الأمة عادت إلى جاهلية الأولى . مراحل الانحطاط كانت دائما مترافقة بهذه الظاهرة . فالإسلام يحرص على سد مثل هذه الأبواب أمام المسلم .
فمرحلة الوثنية نشأت من هذا الشيء ، أصلها حنين إلى البيت الحرام ثم إلى أخذ حجارة من البيت ثم مع الزمن عُبدت من دون الله تعالى . وحين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كانت الوثنية أعجوبة من الأعاجيب ، كان الرجل منهم يتقرّب من مناة وإلى العزى .. ثم لا يكفيه هذا ، فلا بد أن تعلق حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنماً حينما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة وفتحت أبواب الكعبة أخذ يطعنها بقوسه وهو يقول ( قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) وكانت هذه الأصنام تنكب للوجوه على الأرض ، وكان كذلك الذي حدث في كل بيت من بيوت العرب التي فيها أصنام .
وما قصة عمرو بن الجموح عنكم ببعيدة ، حينما فشى الإسلام أسلم أولاد عمرو بن الجموح وكان لعمرو بن الجموح صنم من الخشب ، كيف يحتال أولاده لكي يزعزعوا ثقة الشيخ بهذا الصنم ، كانوا كلما نام الشيخ جروا الصنم إلى المكان الذي تُلقى فيها الأقذار ، فإذا استيقظ من نومه وأراد أن يقيم بعض الشعائر عند صنمه لم يجده فبحث عنه حتى يجده بين الأقذار فيأخذه ويغسله ويطيبه ثم يعبده ، وفي المرة الأخيرة ربط أولاده هذا الصنم بكلب ميت ، فاكتشف الرجل أن هذا الأمر ضلالة . فكل بيت من بيوت العرب فيها صنم .
تسمعون في سورة نوح أن الله جل وعلا يحكي عن قوم نوح ( وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً ) فهذه أسماء كانت أسماء أصنام كانت تُعبد عند قوم نوح ، وتعرفون أن نوحاً عليه السلام عاش ألفاً إلا خمسين سنة من عمره في قومه ، وكان الرجل من قومه إذا كبر وشاخ يأتي بابنه إلى نوح ويقول له : احذر هذا الكذاب فإن أبي جاء بي وأنا في مثل سنك وقال لي : احذر هذا الكذاب . الأباء يوصون الأبناء بتكذيب نوح عليه السلام . إلى هذه الدرجة كانت عبادة الأصنام متأصلة فيهم .
هناك اتجاه آخر في قضية عبادة الأصنام جديرٌ باعتبار ، ويشده حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يُقال إن أبا خزاعة ( وخزاعة هي القبيلة الأم للقبائل القرشية جميعاً ) أي ( عمرو بن لحي الخزاعي ) مرض حتى أشرف على الموت فقالوا له إن في الشام ( حمى ) فيها ماء ساخن فلو ذهبت إلى هناك واستحممت فيها برئت ، وذهب عمرو إلى الشام حتى استحمى بالحمى فبرئ ، ووجد في الشام أنهم يضعون تماثيل وأصنام ، فقال لهم : ما هذه ؟ فقالوا : هذه أصنام نستمطر بها المطر ونستنصر بها على العدو ، فطلب منهم أن يعيروه واحداً منها فأعطوه واحداً ، فذلك أول دخول الوثنية إلى جزيرة العرب . إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : رأيت عمرو بن لحي فـي النار يجر قصبه في النار ( أي أمعاءه ) لأنه كان أول من بحر البحيرة وسيّب السائبة وحمى الحامي وغيّر دين إبراهيم عليه السلام . فمضمون الحديث إلى الواقعة التاريخية تشعر إلى أن الصنمية تحدرت من مشارف الشام من الحمى وهي قريبة من درعا التي على الحدود الأردنية الفلسطينية السورية .
الشيء الثاني ، حينما ننظر إلى الآية نكتشف مقابلة لطيفة ، انظر إلى الآية ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، ألكم الذكر وله الأنثى ، تلك إذاً قسمة ضيزى ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) لاحظوا ، إننا هنا أمام مقابلة بين الإله الحق والآلهة المدعاة ، الفارق الجوهري بين الإله الحق أنه إله بالذات وأن الآلهة المدعاة آلهة بالتسمية بالاسم ، الله جل وعلا إله لأنه هو الخالق وهو يستحق الألوهية بذاته ، وأما الآلهة المدعاة فسواء علينا كانت صنماً أم بشراً أم حيواناً أم كوكباً في السماء فنحن البشر الذين نسمي هذه الأسماء ، إذا كنا نحن نعطيها هذا الوصف فنحن كما أعطينا نستطيع أن نسترد ، نحن كما سمينا نستطيع أن نلغي ، لكن اكفر أنت ولتكفر الدنيا جميعاً أذلك يغير من الحقيقة شيئاً وهو أن الله رب الأولين والآخرين وأن الله رب السماوات والأرض ؟ إن الله لا تتعرّض ألوهيته لكفران الناس جميعاً لأي خدش من الخدوش ، إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله غني حميد . ففارق يُلفت إليه النظر ، إن الإله إله ليست لأنك أنت الذي ألّهته ولكن لأنه هو إلهك ، وسمي إلهاً لأنك أنت تأله إليه أي تشتاق إليه وتنجذب إليه وتفتقر إليه فهو إله بالذات ، لكن هـذه الأصنام حينما سميتَ اللات والعزى ومناة وهبل وما أشبه ذلك ، أنت الذي سميته أم هي آلهة أعطت ومنعت وخلقت وأماتت ورزقت وأفقرت وأغنت وأقنت ؟ لا ، أنت الذي فعلت هذا وإذا فالمسألة تذهب منك لتعود إليك ، وقولك إن هؤلاء الآلهة لا يزيد فـي الحساب على أنه كلمة خرجت من شفتيك ، ولهذا قال الله هنا ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ) ما قال مسميات ، أنا كشخص مسمى ، ولكن حينما تسميني باسم الذي يعرفني فالاسم هو الاسم والمسمى غير الاسم ، فهذه الأصنام أسماء أي لا حقيقة لها في الواقع لا أثر لها بالمرة وهذا ما أرادت الآيات أن تلفت نظر الإنسان إليه بدقة ولطف ودون جرح ودون مهاترات ودون سباب ، القضية تحل في ضوء العقل وفي ضوء الحكم في نور العقل تحل ، هذه الأصنام التي أنتم عليها هذا النمط من العبودية كله فاسد بدلالة العقل وببداهة العقل وبقضية العقل ، وبعد أن تعرض الأمور وأن تكشف بهذا الشكل ، أفنحن المسيطرون على الناس أنحن جبارون أقلوب الناس بأيدينا ؟ لا إن الأمر بعد الكشف إلى الله ، من شاء أخذ بقلبه وناصيته إلى طريق الحق والصواب ومن شاء صرفه عن هذا الطريق ليرديه في مهاوي الهلاك والبواري والعذاب المقيم ، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينير عقولنا وعقولكم وأن يضيء أمامنا وأمامكم الطريق كي نعرف سبيل الطريق الوصول إليه تبارك وتعالى وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .