دعوى الجاهلية الجديدة والعصبية للجماعات وضرورة التوحد على إسقاط النظام
دعوى الجاهلية الجديدة والعصبية للجماعات
وضرورة التوحد على إسقاط النظام
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى
1- دعوى الجاهلية والعصبية
2- مَنْ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ وإن صلى وصام
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية
3- خطورة بقايا علائق الجاهلية التي عمل نظام البعث السابق على تنميتها تفريقًا بين النّاس. وكيف قام بذلك؟
4- ضرورة توحد الجميع في المرحلة الحالية على فكرة: إسقاط النظام الكافر بكل أركانه وخطورة التشتت عن هذا الهدف
5- حتى شهادة التوحيد لم تعد توحدنا – الجاهلية الجديدة والعصبية للجماعات!
6- معنى الراية العميّة
7- أحكام تتعلق بالأعلام – حكم رفع علم الثورة الملون
الخطبة الأولى:
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره ومستدرج الكفار بمكرِه. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، فجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع، والحاكِم بما يريد فلا يدافع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد: عباد الله يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)
إخوة الإيمان لقدّ أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق وأظهره على الدين كلّه، فكان من أساسيات ما أتى به شرع الله المُحكم إنهاء دعوى الجاهلية، إنهاء العصبية للدولة أو المدينة أو القرية أو العشيرة أو القبيلة. فغدى النّاس إخوة متحابين، لشرع الله خاضعين ينصرون المظلومين ويكفّون الظالمين.
ولكن كلَّ فينَةٍ وأخرى عندما يبتعد النّاس عن دين الله وعن شرع الله تراهم بغير شعور يتنامى لديهم موضوع التعصّب للعشيرة أو القرية فتراهم يتعصّبون لقومهم ولو كان ذلك على غير ما يرضي الله ورسوله، وكلّنا يحفظ الحديث الذي رواه البخاري عن أَنَس بن مَالِكٍ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا"، فَقَالَ رَجُل : يَا رَسُول اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْت إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ ؟ قَالَ: "تَحْجِزُهُ عَنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ"
نعم. فالحجز عن الظلمِ هو النصر الحقيقي للقرابة لكي لا يتوغلوا فيما سيفضي بهم إلى الخسران في الدنيا والآخرة، فعن فُسَيْلَةَ –رضي الله عنها- قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ؟ قَالَ: "لَا وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ" حديث حسن، رواه ابن ماجه وأحمد والطبراني في الكبير.
ولذلك كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه حذّر كثيرًا من دعوى الجاهلية، ومما ينبثق عنها من أفعال تتنافى وأصل الإيمان، فقال روحي فداه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: ١٣]، أَلا هَل بَلَّغْتُ؟" قَالُوا: بَلى يا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: "لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ" حديث صحيح رواه أحمد.
ولعلّ من أشد ما قاله صلوات ربّي وسلامه عليه في النهي عن عصبية الجاهلية الحديث الحسن الصحيح الذي رواه الترمذي عن الحارِثِ الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ" [أي من حجارة جهنّم] فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ: "وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ"
فكيف تنفع ذلك الجاهل صلاتُه وصيامُه! وهو مِعوَلٌ هدّام يفتُّ في عضد أمّة الإسلام والله تعالى يقول:
(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22)
فالله تعالى ينفي صفة الإيمان عمّن يتعصب لقومه حال كونهم يحادّون الله ورسوله.
اللهم اكتبنا من المؤمنين بك حقًّا نوالي أوليائك ونعادي أعدائك نكون ممن قلت فيهم:
(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:56)
اللهم لا تدعنا في غمرة ولا تأخذنا على غِرّة واغفر لنا وللمسلمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى:
عباد الله يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين:( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)
أمّة واحدة لا تفريق فيها بين أحد من المسلمين أيًا كان لونه وكان من كان قومه.
فمن أطاع الله دخل الجنّة ولو عبدًا حبشيًا ومن عصاه فله النّار ولو نسيبًا قرشيًا.
فلا عصبية لدينا لغير الإسلام والمسلمين كلنا يدٌ واحدةٌ على الكفر والظالمين.
ولعلّ من شرّ ما ابتلينا به في جهادنا بقايا علائق الجاهلية التي عمل نظام البعث السابق الفاجر على تنميتها تفريقًا بين النّاس، وإيقاعًا للعداوة فيما بينَهم ليَسهُل عليه حُكهم.
فلم يكن عبثًا تقديمه لقرية دون قرية، ولا لحيٍّ دون حي في الخدمات... ولم يكن عبثًا ما نسمعه من السخرية والنُّكات والسيط السيّء وتنمية الأحقاد بين مدينة وأخرى... ولم يكن عبثًا محق الطبقة الوسطى وتحويل النّاس إلى قِلّة قليلة ذات غنى فاحش مرتبطة بالنظام وكثرة كثيرة مدقعة في الفقر والحاجة... لم يكن كل ما ذكرنا عبثًا ولا عشواء بل أمور مُكِرت ودبِّرت بليل ونهار في مختلف فروع الاستخبارات لتوطِّد أركان حُكم الكافرين.
فأفرز ذلك كلّه بتفاعله مع حالة الجهل وقلّة الوعي التي كنّا، بل ومازلنا نعيشها شيئًا في نفوس الجهلة.
نعم. أفرزت تلك الخطط شيئًا في نفوس الجَهَلة تجاه بعضهم البعض، فمكّن ذلك الظلمة من حكمهم عشرات السنين.
وبفضل الله تعالى ذاب شيء من ذلك الثلج بنور الحق عندما توحد النّاس على هدفٍ واحد ألا وهو إسقاط الظلم وإقامة دولةِ العدلِ والإحسان.
ولكنَّ ما يحزّ في النفوس بقاءُ الكثير من علائق الجاهلية حاضرةً في مجتمعنا، تلك العلائق التي ما لبثت أن بدأت تُفسد ثورتنا وطال الزمن فلعِب علينا الكفّار لُعبتهم واستثمروا غبائنا فشتتوا هدفنا الواحد الذي توَحَّد عليه الجميع وهو: إسقاط النظام الكافر بكل أركانه وشغلونا بالحديث عن أهدافٍ أكبر وأبعد، تلك التي لا يمكن أن تتحقق إلّا بعد بلوغ الهدف الأول، فبدأت التفرقة وظهر الخلاف من حيث يظن البعض أنّهم يحسنون صُنعا، فغدونا في حالة إدبار وفر، بعد أن كنّا في حالة إقبال وكرٍّ.
ولعلّ ما يثير حزننا بل وسخرية أعدائنا بنا أنّ كلمة التوحيد الجامعة بين المسلمين في كلّ أصقاع الأرض لم تعد تجمعنا فترى كلّ فصيل يضع كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وقد كُتِب تحتها اسم ذلك الفصيل فهلّا نزَّهوا كلمة التوحيد عن خلافاتهم وعن أهوائهم.
فوالله إنّ هذه الكلمة إنّما جُعلت لترفع وحدها لا يدانيها اسم أحد ولترفع في القلوب والعقول أوّلًا وقبل كلّ شيء. فوالله لن ننتصر ودعوى الجاهلية الجديدة قائمة في جهادنا (دعوى العصبية للفصيل والجماعة) أيًا كان اسمها ومهما كان وصفها.
روى البخاري ومسلم عن جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنه قال: كُنَّا فِي غَزَاةٍ مَرَّةً فِي جَيْشٍ فَكَسَع رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ[كسعه أي ضربه على دبره بيده أو رجله]، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ،[ لم يقل يا للقرية الفلانية ولم يقل يا للفصيل الفلاني] فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: "مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَال صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ"
تخيل أخا الإسلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمّى التعصب للفظٍ شرعي سماهم الله به في القرآن جاهلية. فما بالك بمن يتعصب لغير ذلك من الأسماء والمسمّيات الفصائلية.
وفي معرض هذا الكلام لابدّ من التذكير بالحديث الذي رواه الإمام مسلمٌ في صحيحه عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ تحتَ رايةٍ عِمِّيَّةٍ، يدْعو عصَبيَّةً، أو يَنْصُر عَصَبِيَّةً، فَقِتلةٌ جَاهلِيَّة"
ولعلّ هذا الحديث من الأحاديث الخطيرة التي غفل عنها الغافلون أو أساء فهمها المتنطعون.
فالجهلة والكفرة يقاتِلون ويُقتَلون نصرًا للقومية وللعشيرة وللقرية على غيرها بغير وجه حق، فإنّما هي قِتلة جاهلية.
وأمّا المتنطعون فلم يفهموا معنى الراية العِمِّية فظنوا أنّ المقصود بها تلك القماشة التي ترفع والتي نسميها (العَلَم) فغدو يُكفِّرون ويُبَدِّعون من يرفع علمًا ملونًا (كعلم الثورة مثلًا) ولم يدر أولئك أن الحديث يفسِّر بعضه.
فالراية في الحديث هي سبب القتال وليس (العَلَم) وقد وضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (يدْعو عصَبيَّةً، أو يَنْصُر عَصَبِيَّةً)
فالراية العِمِّية: كما قال العلماء هي الأمر الذي لا يستبين وجهُه، أو الجماعة المُجتمعة على أمرٍ مجهول لا يُعرَف أنَّه حق أو باطل.
لذلك وجب التفريق في حالات الجهاد بين نُصرَة المظلومِ ودفع الصائل عن المسلمين وهو جهاد دفع لا يحتاج إلى راية ولا إلى إمام، وبين حالات الجهاد التي تتطلب رفع راية ونصب إمام.
أمّا موضوع (العَلَم) فقد قال العلماء أنّ الأصل فيه الإباحة، ما لم يطرأ عليه سبب تحريم كأن يكون شعارًا للكفَّار مثلًا.
ولتعلم أخا الإسلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أعلام مختلفة في مختلف غزواته منها الأبيض والأسود والأحمر والأصفر ولم يكن يكتب عليها كلمة التوحيد ولا غيرها فالأصل في الأمر الإباحة والموضع ليس موضعًا للتشديد أو التنازع إنّما سُئلنا فوجب البيان.
اللهم إنّا نسألك الهدى والعِلمَ وحُسنَ الفهم ونعوذ بك من الضلال والجهلِ والتنطّع أنت وليُّ ذلك والقادر على كلّ شيء
إني داعٍ فأمِّنوا.