تفسير سورة ( الفجر )
تفسير سورة ( الفجر )
الجمعة 26 ذي القعدة 1396 ـ 19 تشرين الثاني 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
نمر بعاشرة السور التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاقاً لسياق التنزيل على الرأي الأشهر والأرجح ، وهذه السورة هي سورة الفجر ، ولَكََم يطيب للإنسان أن يتملى معالمها ، وأن يطيل الوقوف عند سماتها ، ولو أننا عند الرأي الثابت الذي أعلناه لكم من قبل من ضرورة الإسراع ما أمكن ونفض اليد من أمهات القضايا التي عرضتها المرحلة المكية ، وما من بأس إن شاء الله تعالى على السامع ، فبحسب الإنسان المسلم إذا صحبته عناية الله تعالى وقدم بين يدي قراءته للقرآن الرغبة فيما عند الله والحرص على أن يتعرف على مرادات الله من كلامه أقول : ما على السامع من بأس من الإسراع والإنجاز .
إن هذه السورة كما قلنا هي العاشرة في سياق التنزيل ، فهي بهذه المثابة من السور المبكرة جداً في النزول ، وتذكر التبكير هنا وسبق النزول ينفع في وضع القضايا التي تطرحها السورة ونظائرها في موضعها الصحيح من سياق الحركة . فكم من أخطاء وأخطار تعرضت لها الحركة الإسلامية لأنها ما استطاعت وهي في غمرة عملها أن تتعرف على المواضع الحقة من الكثير من الأمور . إن من أخطر ما يصيب الدعوات وهي تخطو طريقها نحتاً بين الصخور أن تتعجل وأن تحاول حرق المراحل ، إن هذا يشكل مغامرة كبيرة وخطيرة ، وما من ضير علينا لو اعترفنا بلا تردد بأن الطاقة البشرية قد تنوء بطول الطريق وقد تتضعضع تحت أثقال التكاليف ، وإنه لتطلع إلى مشروع ، ذلك التطلع الذي يشرئب في قلب الإنسان متمنياً أن يجني ثمار النصر ، ولكني أقول : إن قوانين الحركة شيء ورغبة الإنسان شيء آخر ، وليس جائزاً أبداً الخلط ولا في أية صورة من الصور ولا تحت ضغط من الضغوط بين ما يرغب فيه الإنسان وبين ما تتطلبه قواعد الحركة وقوانينها ، إن خير جيل بشهادة الله وبشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عالج مثل هذا التطلع ، فقديماً جلس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مسهم العذاب الأليم ونال منهم التشريد وأصابتهم المسغبة واستولى عليهم الرعب وجلسوا يفكرون في قدر الله وفي هذه الخطوب التي تنال منهم ، شكوا إلى قائدهم ونبيهم وأعرف الخلق بطريق ربهم جلا وعلا : يا رسول الله قد ترى ما نحن فيه مما لا يخفى عليك ، بل مما مسّك منه الجانب الأكبر ، أفلا تدعو الله لنا ؟ أفلا تسـتنصر لنا ؟ كان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقدر غاية التقدير هذه التطلعات المشروعة في النفس الإنسانية ، كان رده رد القانون الإلهي الذي لا يحابي ولا يدغدغ عواطف الإنـسان ولا يجازف بالموعودات التي لا تقبل التحقيق ، كان رده : إنكم تستعجلون . وغريب في هذا العصر أن يقال هذا الكلام لأمة قطعت في طريق التربية والانصهار في بوتقة التجربة مراحل وأشواطاً لو كدحت اليوم الإنسانية كدحها عشرات السـنين ومئات السنين ما بلغتها ولا معشارها ، غريب أن يقال هذا ، ولكن هذا إشارة مبنية على قاعدة منصوصة في الكتاب الكريم أن النبيين يطاردون ويشردون وينال منهم الضيم ويمسهم الأذى ويزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ إلى الدرجة التي يبلغ الضيق فيها وانتظار الفرج مبالغه النهائية من نفس النبي المرسل الذي يأتيه الوحي ويصبحه ويمسيه ، يبلغ هذا التطلع ( متى نصر الله ) . إن هذا يفيد جداً ، في هذا الحسم الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ، درس لهم وللأجيال : إنكم تستعجلون .
الإســلام قضية عظمى وقضية خطيرة ، وبناء الإســلام ليـس أماني ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) ، بناء الإسلام لبنة من وراء لبنة ، وقطرة دم تليها قطرة دم ، وآهة تصعد من كبد حرة تليها آهة شبيهة بها أو أحر منها ، كل شيء في مكانه وكل شيء في زمانه ، ولعل من أصوب ما يقوله قائل في هذه الأيام : حذار حذار ، إن إغراءات لا حصر لها قد تدفع ببعض الناس إلى مغامرات طائشة لا تدري نتائجها ، ولكنها على كل حال تحمل في أطوائها الدمار أشد الدمار ، وما ذلك جبن عن مواجهة الأخطار ولكن استعجال في الخطى قبل استكمال الاستعداد ، ومحاولة لوضع السقف على بناء لم تشيد أركانه بعد ، هذا ما يجب أن نتنبه إليه ونحن نواجه القضايا التي تضعها السورة في المكان المناسب من التنزيل وسـياق الحركة فـي أبكر عصور التاريخ الإسـلامي وتجربته الأولى .
يقول الله تعالى ( والفجر ، وليال عشر ، والشفع والوتر ، والليل إذا يسر ، هل في ذلك قسم لذي حجر ، ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها فـي البلاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذي الأوتاد ، الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد ) ينتهي إلى هنا جزء مهم من السورة يبرز واقعاً تاريخياً كان ثمرة طبيعية لإعلان الدعوة والجهر بها ثم تمضي السورة في مناحٍ ، الذي لا يعرف طريقة القرآن في البناء يعجب لها ويظنها مفككة لا رابط بينها ولا جامع ، ولكنها في الحقيقة يأخذ بعضها برقاب بعض .
( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربـي أكرمن ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ، كلا .. ) أي : ليس الأمر كما تتصورون ( كلا بل لا تكرمون اليتيم ، ولا تحاضون على طعام المسكين ، وتأكلون التراث أكلاً لمّاً ، وتحبون المال حباً جماً ، كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً ، وجاء ربك والملك صفاً صفاً ، وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ، يقول يا ليتني قدمت لحياتي ، فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد ، يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلـى ربك راضية مرضية ، فادخلي فـي عبادي ، وادخلي جنتي ) إلى هنا تنتهي السورة ، وما من سبيل إلى أن نقف عند حصاد الفجر ، قبل أن نحل سياق السورة وقبل أن نترجم هذه السورة إلى اللغة المعتادة التي يتحدث بها الناس اليوم ، وللأسف نعيش في زمن يحتاج القرآن إلى ترجمة من العربية إلى العربية وهذا من أعجب ما يكون .
و( الفجر ) هذه الصياغة قسم لجملة من الأقسام ، والمقسم به هو الفجر ، والفجر المقسم به هو هذا الفجر المعروف بين الناس والذي دلت عليه العرب بهذه اللفظة المفردة ، الفجر هو بداية انطلاقة النهار وانحسار الليل . والليال العشر ، اختلف تراجمة القرآن في تأويلها فيذهب بعضهم إلـى أنها العشر الأواخر من رمضان ويسندون ذلك علـى أن العشـر الأواخر من رمضان كانت الوقت الذي نزل فيـه القرآن ( شـهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) ويستندون في هذا لا إلى أثر ولكن من معنى من معاني القسم وهو أن القسم لكي يستجمع أسبابه الذي تسوغه وتبرره لا بد أن يكون بشيء عظيم يتضمن خرقه انتهاك هذا الشيء العظيم ، وشيء عظيم أن يقسم بالظرف والزمن الذي كان بداية لهذه الدعوة النبوية ، وشيء يتساوق مع البداية وهي القسم بالفجر أن يقسم بفجر الدعوة المحمدية ، فيكون القسم بالليالي العشر منصب على العشر الأواخر من رمضان . ويقول بعضهم : المراد هنا العشر الأوائل من ذي الحجة وهي التي يكون فيها عمل الحج ، وكما تعلمون فإن الحج واحدة من فرائض الإسلام وأحد أركانه الخمسة ، عليها يقوم شيء مهم من الأمور التي لحظها الإسلام في تقرير هذه الفريضة ، وقيل غير ذلك لا نهتم له وإنما نقرر أن المراد قد يكون هذا وقد يكون غيره ولكنه على كل حال قسم بليال عشر كما جاء ذلك موصوفاً ومنطوقاً في هذه الآية تتضمن فضيلة مخصوصة لا ضير أن تكون العشر الأواخر من رمضان أو تكون العشر الأوائل من ذي الحجة أو تكون العشر التي أتم فيها لموسى ميقاته وهـي العشـر المكملة للأربعين والتـي قال عنها الله ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشـر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) لا ضير أن يكون هذا أو هذا أو ذاك ، فالمهم هو انصباب القسم على أمر عظيم .
( والشفع والوتر ) الوتر في كلام العرب هو الفرد ، والشفع هو الفرد الآخر الذي ينضم إلى فرد مثله فيشفعه ، فهنا شفع ووتر وهما هنا مطلقان ما بينتهما الآية ولا نصصتهما فذهب الذاهبون طرائق قدداً في تأويل ذلك ، قال قائلون : الشـفع هو الخلق كله ، والوتر هـو الله جلا وعلا ، لأنه الخلق كله شفع ، أرض وسماء فهما شفع ، ليل ونهار وهما شفع ، ذكر وأنثى وهما شفع ، ولو ذهبت على ضوء الكشوف العلمية لتبين لنا أن الكون كله يتألف من شيئين يتناقضان ولو في الظاهر . وقال قائلون بأن المراد بالشفع والوتر الصلاة فالصلاة منها شفع كصلاة الصبح والظهر والعصر والعشاء فهي صلوات ثنائية أو رباعية وهي من هذا القبيل شفع ، أو هي وتر كصلاة المغرب التي هي ثلاث ركعات ، وأياً ما كان فسواء كان القسم منصباً على المخلوقات باعتبارها كلاً ، وعلى الخالق باعتباره موجداً أو كان منصباً على هذه الفريضة أو على غيرها من الفرائض فما من شك في أن القسم واقع في مكانه مستجمع لشرائطه إذ هو قسم بأمر عظيم وشيء مقدس يتضمن الإخلال به انتهاك هذا الشيء العظيم .
( والليل إذا يسر ) والسريان والسّرى هو الشدّ والمشي من آخر الليل ، والإشارة هنا واضحة لمن يتبصر ، لا يقال لأحد أنه أسرى أو سرى وأنه تحمل السرى في الليل إلا إذا كان مشيه من آخر الليل فهو على شرف الفجر بانتظار انبثاق النور والضياء ، هذا الليل المشخص هنا كأنما هو شبح يتجرد من هذا الليل كله ليسير ضمن هذا الليل ضمن نفسه إلى غاية هو مدركها لا محالة أن ينشق الفجر وينقضي الليل ، لعلها تحمل معنى التضمين لذلك الجيل العظيم الذي سمع أول مرة هذا الكلام وهو يكابد من الجاهلية ليلاً طويلاً ثقيلاً ، ولعل هذا الليل بهذه المثابة وعلى هذا النحو من التشخيص والتصوير يحمل العزاء كل العزاء لهؤلاء الذين ينبثون اليوم وقبل وبعد في مشارق الأرض ومغاربها ، يعملون لله ولإنهاض هذه الأمة من كبوتها ، يكابدون ويجاهدون من هذه الجاهلية المحدثة ليلها الطويل الثقيل ، لعله يحمل أيضاً مثل هذه البشارة المطمئنة أن هذا إلى انقضاء ، وأن عاقبة السرى إلى فجر ينشق عن نور مبين وصبح بسّام .
(هل في ذلك قسم لذي حجر) تساؤل في موضعه ، والحجر هو العقل وسمي العقل حجراً لأنه يحجر الإنسان عما لا ينبغي ويرده عما لا يليق ، ومن هنا يقال حجر القاضي على السفيه أي منعه من أن يتصرف بأمواله تصرفاً يعود بالضرر عليه وعلى المجتمع ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً ) فذو الحجر هو ذو العقل ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) وما في النية أن أفصل لكم عن مدلولات الاستفهام في قواعد اللغة وفقه العربية ولكني أحب أن أقول لكم إن هذا اللون من الاستفهام يسمى استفهاماً تقريرياً أي أنه جاء يقرر ويثبت الشيء الذي سبقه كما تقول : والله لا أفعل كذا ولا أفعل كذا هل صدّقت ؟ تريد أن تقول له : صدّقني . فسؤال القرآن هنا ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) يعني بالضبط إن هذا القسم الذي مرّ وانقضى بالفجر وبالليالي العشر وبالشفع والوتر وبالليل إذا يسر فيه غنى ومكتفى لذي اللب ولذي العقل الذي يدرك أن المقسم وهو الله جلا وعلا يقسم بآيات بينات ملموسات من آياته الباهرة الدالة على عظمته ووحدانيته وقدرته وقهره وجبروته ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) .
لاحظوا معي .. والخطاب هنا يوجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذي الأوتاد ، الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سـوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد ) من هـؤلاء ؟ بل قبل أن نتساءل من هؤلاء الناس علينا أن نتساءل : هل في الصياغة خلل ظاهري ؟ نحن نعرف أن حق الكلام يقتضي أن يكون للقسم جواب ، ولو أننا أخذنا الكلام على ما يقتضيه ظاهر القول مع حذف وسيلة البلاغة التي تعمل هنا عملها المقصود بالذات لكان حقاً أن يقال : والفجر .. إلى آخره ، ليفعلن الله كذا وكذا بقومك المكذبين هؤلاء كما فعل ذلك بعاد وبثمود وبفرعون ذي الأوتاد ، ولكنا نلاحظ أن القسم هنا يخلو تماماً من جواب القسم ، لقد طواه السياق طياً ولم يعرض له لا تصريحاً ولا تلميحاً ، وأنا أقول لا تصريحاً ولا تلميحاً مع علمي بأن معظم المفسرين من قدماء ومحدثين يذهبون إلى أن جواب القسم ملمح عليه في المصير الذي واجهته الأقوام المعدودة هنا قوم عاد وقوم ثمود وقوم فرعون ، إن السياق كما قلنا طوى الجواب طياً وأعرض عن ذكره ، لماذا ؟ لا بد أن تكون هناك نكتة بلاغية أراد السياق القرآني تقريرها في الأذهان تقريرياً صحيحاً ، قد يكون الأمر ولا أحذف من ساحة التأويلات أي تأويل مما جاء به الأقدمون والمحدثون ، ولكني أذهب في مذهبي الخاص المبني على اجتهادي الشخصي والذي أرى أنه يتساوق مع مجموع معطيات الدعوة ، ولا أسمح لنفسي كما قلت بأن أنظر في القرآن وفي الدعوة الإسلامية نظراً مجزءاً ، لأن ذلك يفوت علي أعظم الغايات التي أتوخاها وأرهق نفسي من أجل الوصول إليها ، قد يكون طي القسم هنا لهوان شأن هؤلاء الناس إذا كان الله جلا وعلا قد أهلك عاداً الأولى والذين كانوا يقولون : من أشد منا قوة ؟ كما تقرأون ذلك مصرحاً به في الكتاب ، وإذا كان الله قد أهلك ثموداً فما أبقى ، وإذا كان الله قد غشى المؤتفكة ما غشى ، وإذا كان الله دمّر على ما كان يصنع فرعون وما كانوا يعرشون ، فمن هؤلاء بالقياس إلى أمم عاتية جبارة بلغت أوج القوة ونهاية العظمة ، من هؤلاء الشراذم الذين يضطربون بين جنبات مكة وقصاراهم إذا طمحت هممهم وأبصارهم أن يبلغوا اليمن أو أطراف الشام ؟ إلى جانب الدول والممالك العظيمة التـي جاءها من أمر ربك ما لا مرد له فواجهت المصير المؤلم . إن هؤلاء أهون شأناً وأقل مقاماً وأقل من أن يؤبه لهم ويكترث بشأنهم . فإذا قلنا إن السياق طوى جواب القسم معرضاً عن التعرض لذكر ما أعدّ الله لهؤلاء من أليم العقاب فنحن غير بعداء إذا قلنا : كان ذلك لهوانهم على الله . ولكن تساءلوا معي : هل وضع هذه الأمة المحمدية في التاريخ الإنساني ومن حيث قيادة الجنس البشري ومن حيث الأمانة على المصير الإنساني بالمثابة التي كانت فيها الأمم الماضية ؟ لا , إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر لنا في كلام رائع فضلاً وتمييزاً بين هذه الأمة وغيرها من الأمم ولا يبرزه عليه الصلاة والسلام لينفخ في أنوف هذه الأمة حتى تأخذها هذه الخنزوانة التي تأخذ المستكبرين والمتجبرين ، وإنما يبرز هذه المزايا لكي يضع أمام هذه الأمة مهماتها ووجائبها ، لكي يحث بعضها بعضاً أبداً حتى تقوم بما يتوجب عليها تجاه الرسالة التي أنيطت بها . إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : أنتم توفون أي تكملون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى ، هذه واحدة .
إن هذا الكلام يعني أن هذه الأمة هي آخر شيء يكون ، ولكنه يعني التمييز والفضل على سائر الأمم التي مضت قبلها ، فإذا جئنا نستفتي محمداً عليه الصلاة والسلام مزيداً من الإيضاح في هذه المسألة الهامة ، ما الذي نسمعه ؟ نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : أنا آخر الأنبياء فلا نبي من بعدي وأنتم آخر الأمم فلا أمة بعدها . فإذاً فقد أغلق الباب بين السماء والأرض ، ما كان من قبل من تعاقب النبوات وتعاون الأمم على النهوض بالرسالات شيء طواه التاريخ وانتهى بمجرد بزوغ فجر الرسالة في غار حراء ، سدت منافذ السماء أمام المتنبئين والمتقولين على الله تعالى وانتهت الإنسانية من هذا ، وقد آن للإنسانية أن تأخذ بيديها زمام مصيرها . ولقد سئلت من ثلاث أو أربع سنوات من قبل أحد الإخوة عن معنى آية ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون ) أقول إن الله تعالى مضت سنته في خلقه بالنسبة إلى الأمم الماضية التي ابتعث فيها أنبياء وأنزل عليها شرائعه أن يعاقب العناد والعتو عن أمر الله تعالى بلون من العقاب ، كانت الأمم لجهلها وقصور تفكيرها تتمرد على أنبيائها وتطلب طلبات لا يطلبها إلا ذو عقل صغير ( أسقط علينا السماء كما زعمت كسفاً ) ( آتنا بالله والملائكة قبيلاً ) افعل كذا وكذا ..إلى آخره ، كان الله حينما تطلب الأمة المتمردة طلباً يعلّق تحقيق الطلب على شرط ، سأفعل ولكن إذا آمنتم فبها ونعمت ، وإن لم تؤمنوا فأمامكم عذاب الاستئصال والمحق . من هنا كان التعجيز الذي قامت به أممٌ قبل أمتنا في مواجهة نبوات قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إنذار بإهلاك الأمم ، وكم من أمم جاءتها أنبياؤها ودعتها إلى الله فطلبت طلبات لا تحقق ، ثم حقق الله لها بعض ما طلبت ، فاستمرت في عنادها وتكذيبها ، فأنزل الله عليها قارعة فأهلكتها وأبادتها .
وأنتم لو رجعتم إلى القرآن لوجدتم شيئاً كثيراً ، إن بني إسرائيل حينما جاءهم المسيح عليه السلام طلبوا من المسيح ( يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ، قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ، قال اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنـي أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ) ونزلت المائدة وأكل منها أصحاب عيسـى بن مريم وأعاذ منها ذلك الجيل من المحق والاستئصال . هذه الأمة هل يمكن لنا أن نطبق عليها ذلك القانون نقول : لا . ما دامت هـذه الأمة آخر الأمم وما دامت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم آخر النبوات ، فحينما نقول بتماثل العقاب والعذاب بين هذه الأمة وبين عادٍ الأولى التي أهلكها الله إهلاكاً تاماً والتي تفتحون الآن كتب التاريخ وكتب الأنساب فتجدون قبيلة عادٍ الأولى مصنفة ضمن العرب البائدة التي بادت ولم يبقَ لها أثر إلا بقايا ذكر في كتب التاريخ ، وثمود كذلك والعرب البائدة وفرعون الذي أغرقه الله هو وجنوده بعد أن نبذهم في اليم ، ما دام الأمر كذلك فإن التماثل ممنوع ولا يمكن .
حينما نقول ذات العذاب الذي واجه الأمم الماضية سوف يواجه أمتنا هذا حينما تتمرد على أمر ربها ، فنحن نضرب قاعدة أساسية وهي أن هذه الدعوة هي الخاتمة ، لو بادت هذه الدعوة وباد رسولها بعد ، إذاً لاحتاجت البشرية إلى أن يرسل إليها رسول جديد وهذا لم ولن يحصل ، والله ذكر هذا في القرآن بشكل صريح قال ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولن تجد لسنتنا تبديلاً ) إن سنة الله مضت حينما يبلغ العذاب من قبل المشركين بنبيهم الحد الذي يخرج مغاضباً لهم ويهجر الأرض كلها بعد اليأس الكامل منهم ، تلك سنة مضت من قبل الله جلا وعلا . ولقد كاد العرب أن يبلغوا هذا المبلغ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن منذ الأزل سبق في علم الله جلا وعلا أن هذا القرآن سينزل على محمد بين العرب وبلسان العرب لمزايا اختصت بها هذه الأمة ولسابق علم الله جلا وعلا بها ما نحاول أن نبحث فيها فأعطيت من أجل ذلك مكانة خاصة ، كم من المرات تقرأون في كتب السيرة والقرآن كيف وقف المشركون معجزين لرسول الله قالوا له : يا محمد أنت ترى نحن نعيش في وادٍ غير زرع لا ماء ولا شجر ولا وتعيش بلدتنا في هذا الوادي تكتنفها الجبال التي ترسل عليها السموم اللافح وترسل عليها كميات متكاثرة من رمال الصحراء الحارقة فاسأل الله إن كنت كريماً عليه وإن كان فعلاً قد أرسلك أن يحول عنا هذه الجبال وأن يحيل هذه الصحراء إلى جنات وحدائق كجنات الشام وحدائق الشام . وكان لا يزيد على أن يقول : سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا ؟ يقولون له : يا محمد نحن نراك تكتسب ونراك تحترف ونراك في ضيق لا تملك المال فاسأل الله أن يوسع عليك . يقول : سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً ؟ يقولون له : يا محمد سل ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً وفضة . فيقول : سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً ؟ يقف بعض المتعنتين فيقول له : والله لا أؤمن بك حتى ترقى في السماء ثم تأتينا بكتابٍ من السماء نقرأه ويأتي معك أربعة شهود من الملائكة على صحة هذا الكتاب ومع ذلك فوالله ما أظن أني سأصدقك . فلا يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرر لهم أنه رسول لا يملك لهم من الدنيا منفعاً ولا مـن الآخرة حظاً ولا نصيباً إلا أن يقولوا لا إله إلا الله .
ومع ذلك هل بلغ الغضب الإلهي الحد الذي يدمر هذه الأمة مع أن مطالبها في الواقع لا تفترق عن مطالب الأمم السابقة التي عتت عن أمر ربها وحاربت رسلها وأنبياءها ، كذبوهم وكذبوه وطاردوهم وطاردوه وحاولوا أن يقتلوهم وحاولوا أن يقتلوه وكل شيء فعلته الأمم الماضية مع أنبيائها فعله سفهاء قريش وسفهاء أعراب البادية مع محمد الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله جلا وعلا استوعب هذه الأمة بحلمه الواسع ، لأي شيء ؟ لكرامة ذاتية لهذه الأمة على الله ؟ أبداً ولكن لأن الأمر مؤسس ومشتق على قاعدة ، على قاعدة ختم الرسالة وعموم الرسالة ، فهذه الأمة إن حفظت فبحفظ الله لها بسبب قوامتها على رسالتها وهذه قضية من أخطر ما يمكن أن يستقر في أذهان الأمة ، لقد استقر هذا في أذهان العرب الأقدمين الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وساروا معه وعزروه ونصروه ، وعرفوا أن كرامتهم مشتقة من كرامة الرسالة وبقاءهم مؤسس على بقاء الرسالة . وحينما كان فتح بيت المقدس وأصرت العرب والروم و النصارى الذين يسكنون تلك البقاع أن لا يسلموا مفاتيح بيت المقدس إلا لخليفة المسلمين عمر رضي الله عنه ، جاءه كتاب أبي عبيدة قائد جيوش الشام يكشف له الحقيقة ويقول له : إن القوم قد اشترطوا حضورك فإن رأيت أن تحضر فافعل والسلام . جاء عمر ، ليس على رأسه عمامة ، صلعته تلوح في الشمس ، يركب حماراً ، وكان رجلاً طويلاً فكان إذا ركب الحمار ومشى تخط رجلاه الأرض ، وليس معه أحد في هذه المفازة إلا خادم له ، وكان يتناوبان على ركوب الحمار ، قاربوا بيت المقدس فاعترضتهم مخاضة أي بركة ماء ، كان الروم مشرفين ينظرون إلى هذا الركب المقبل ، وجيوش المسلمين في الطرف الثاني من البركة وأمير المؤمنين قادم ، وللأسف كانت نوبة الخادم في ركوب الحمار في هذه اللحظات ، وأمير المؤمنين يقود الحمار وهو يمشي حافياً ، وأمير المؤمنين يلبس ثياباً من الصوف الخشن تبلغ أنصاف ساقيه ، ويقول : بسم الله ويخوض في البركة ، ينظر أبو عبيدة ، ما هذه المصيبة ؟ إن جيوش وقواد الروم ينظرون إلى هذا المشهد ، يقول له : يا أمير المؤمنين إن القوم ينظرون إليك ، يلتفت إليه عمر ويقول له : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة لجعلته نكالاً للمسلمين ، إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله .
عرفت هذه الأمة القيمة التي اشتقت قيمتها منها وهي القيمة العليا من خلود هذه الرسالة . إذاً فهذه الأمة محصنة ضد عوامل الإفناء والإهلاك ، ولكن هل هـي محصنة ضد أن يأخذها الله بالبأساء والضراء ؟ الجواب : لا . إن هذه الأمة كلما تمردت على أوامر الله وتركت شريعة الله واتبعت كل ناعق مسها الله جلا وعلا بما شاء من أفانين العذاب وألوان الابتلاء . إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلـى قصعتها ) كيف يهجم الناس حينما يدعون إلـى الطعام كذلك أمم الأرض سـوف تتداعى عليكم . ( ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم وليسلطن عليكم عدوكم حتى يستنقذوا بعض ما في أيديكم ) وهذا الكلام غريب فأن يقال مثل هذا في عز الإسـلام وعنفوان الحركة ( قالوا أمن قلة نحن يا رسـول الله ؟ ) كأنما الأصحاب غابت عنهم حقائق التجربة ، إن مسألة القلة والكثرة أمر لا قيمة له في سياق الدعوات وتقرير المصائر أبداً ، المناط كله مبني على ثبوت اليقين والإيمان ومعرفة الطريق ووضوح الهدف ( قالوا أمن قلة نحن يا رسـول الله ؟ قال : لا ، إنكم يومئذ لكثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ) الغثاء هو ما خف من الأخشاب والأوساخ التي تطفو على الماء حين يجرفها السيل ( ولكنكم غثاء كغثاء السيل ) وحين تساءلوا عن السـبب في ذلك قال : حب الدنيا وكراهية الموت . هذه الأمة ليست محصنة عن أنواع من البلاء ولكن لن تهلكها نهائياً ، تؤثر على كرامتها وعلى مكانتها وعلى واجب القيادة التي تفرضها عليها هذه الرسالة ، إن أمم العالم كما ترون أذاقتنا كأس الذل والهوان ، فيما مضى نفذ إلى جسم الأمة أبالسة الجن والإنس ينفثون سموم الفرقة والشتات حتى أصبحت الأمة وقد ألبسها الله شيعاً وأحزاباً يضرب بعضها رقاب بعض ، وبعد أن كانت السيوف مسلطة والرماح مشرعة على رقاب العدو ونحور العدو أصبحت هذه الأسلحة توجه إلى صدور الإخوة في الله جلّ وعلا فتمزقت الأمة وذهبت وحدتها ، ثم كانت النتائج التي لا بد منها أن تبلغ الأمة حالة الضعف حتى يطمع فيها من لم يكن يطمع فيها من قبل وحتى يتجرأ عليها فيمد يده فيأخذ بعض ممتلكاتها .
انظر الآن إلى أمم الأرض جميعاً لا تسـتثنِ أحداً ، فهذه الأمم كلما جاءت أمة لعنت أختها ، وجدير بنا أن ندرك جيداً أن الكفر ملة واحدة ، إن أمم الأرض جميعاً تعمل على أن نزداد خبالاً ونزداد تمزقاً ونزداد بعداً عن حقائق هذا الدين ، وهو بلاء كما ترون عظيم ، إننا نودينا من قبل معسكرات في تاريخنا القديم وفي تاريخنا الحديث ولعلي في مناسبات قادمة سأفتح أمامكم صحفاً من التاريخ تزكم الأنوف روائحها الكريهة ولعلي سأكشف لكم صحفاً من التاريخ مؤلمة . نحن الآن ينبغي أن نعلم أننا غُلبنا على الصداقة من معسكرات ومن قبل أناس ، ثم اكتشفنا في غمرة الكارثة أننا كنا ضحايا الخديعة والمؤامرة الكبيرة . إن هذه عقوبة وهي في مكانها ، حينما تجد الأمة نفسها في وضع قد فقدت الثقة بنفسها فمن الحق ومن العدل أن تقسم إلى شيع وطوائف وأحزاب وأن ينضوي كل جزء من هذه الأمة تحت معسكر معاد . ولقد مرت بهذه الأمة في تاريخها الحاضر المعاصر سويعات وسنوات ما تسمع فيها من جانب إلا بحمد روسيا ، وتسبيحاً من الجانب الآخر بحمد أمريكا ، وأنت اليوم تسمع أنغاماً ترقص عليها أبالسة الجحيم مثل هذه الأنغام ما الذي يراد بذلك ؟ أمستقبل الأمة ؟ لا . أن تقف الأمة علـى قدميها ؟ أبداً . إن الذي يراد مزيد من الفرقة ومن الدفع إلى الخلف يبعد هذه الأمة عن حقائق هذا الدين . وهذه عقوبة وأية عقوبة ؟
إن الله جلا وعلا حين طوى جواب القسم فلم يذكره ، ما طواه هواناً واحتقاراً لشأن الأمة فالدنيا كلها وما فيها من أحياء وما فيها من أشياء هينة على الله جلّ وعلا حين تعصي أمره وتشذّ عن قاعدته ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : الناس رجلان : مؤمن تقي كريم علـى الله تعالى ، وفاجر شقي هين على الله تعالى . كل من ابتعد عن أمر الله وتمرد على رسله وأنبيائه فهو هين .. عاد وثمود وفرعون وغيرهم من الأمم والأقوام التي طواها الزمان بفعل التدمير ، والإهلاك المقصود إهلاكاً هيناً على الله ، كما أن سفهاء قريش وزعماء الكفر هينون على الله جلا وعلا . ولكن المماثلة بين الأمرين وبين أمتنا وبين من سبقها من الأمم منعدم ، ولهذا طوى السياق جواب القسم ، لأن جواب القسم حين يليه مصير أقوام أخرى ويكون منصوصاً فيه على أن ينال هذه الأمة جزاء العقوق والتمرد مثلما نال أولئك ، فإن ذلك يكون تدميراً للقاعدة التي أبرزناها وهي قاعدة الخلود لهذه الرسالة وكون هذه الأمة آخر الأمم وهذه الرسالة آخر الرسالات وأن القوامة محصورة فيها .
أشعر أنني أطلت ، إنما أشعر أن من الضرورة بمكان أن يعرف كلً منا مكانه من أمته ومكان أمته من أمم الأرض وأن يشحذ مواهبه وقواه على هذا الأساس . وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . والحمد لله رب العالمين .