حول الهجرة
حول الهجرة
الحلقة (17) الجمعة 14 ذي الحجة 1395هـ - 15/11/1975م
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس من السهل العودة إلى أفكار كثيرة وردت في سلسلة أحاديثنا الماضية فما إلى ذلك من سبيل في الوقت الحاضر وإنما نعود إلى الحديث اليوم مدفوعين بدافع ذاتي يفرض الوفاء والحب لهذه الوجوه التي أشعر بمنتهى التعاطف معها، ولقد كنت أمس أتردد في الحديث ولكني رأيت أن لا أخيب أمل أخي وصديقي وصفيي أبي محمود حفظه الله وفي آخر حديث اعتذرت إليكم ببعض العذر..
كان مما قلت إن العمل الذي أخذت نفسي به في المرحلة الأخيرة كان عملاً مرهقاً وشاقاً؛ وللأمانة فقد كنت أتصور الأمر سهلاً جداً حتى إذا ما توغلنا بالبحث انفتحت أمامنا شعاب ما كانت تخطر لنا بالبال وتجسدت أمامنا قضايا كان الضباب يلفها بجلبابه الكثيف ومع ذلك فقد حملت النفس على ما لا تطيق من أجل أن يكون استعراض السور الأربعة الأولى في القرآن الكريم خاضعاً لأدق المناهج العلمية وأحسبني بفضل الله قد استفرغت طاقتي وأعطيت كل ما أستطيع أن أعطيه في هذا السبيل، لكن هذه مرحلة وهي أسهل المرحلتين قولاً واحداً وبقي الشق الثاني من الوعد، وحين راودت نفسي على الحديث وجدتني أتهيب، الأرض بكر والموضوع غير مطروق والأمانة ثقيلة والكلمة ذات فعل وتأثير ومن بعد ومن قبل هناك المسؤولية أمام الله وأمام التاريخ ذلك كله كان في البال حين قلت لكم كما تذكرون لا شك في آخر حديث لي إليكم إنني أرفض أن أعطي الرأي الفطير ومن أجل ذلك فأنا أمنح نفسي فرصة لا أدري تطول أم تقصر لكي أفكر ولكي أقول ما أقول عن علم وعن بينة وعن اقتناع هذا في الحق جانب من العذر ينبغي أن تعلموا كل شيء إزالة للعتب عند بعض الإخوة الذين يعتبون علي لانقطاعي عن الكلام بين الحين والآخر جانب آخر من العذر.
إن صحتي لا تطيق هذا المجهود وأقول ذلك بصدق ربما تصور بعضكم أن الكلام مهنة سهلة لكن لكم أن تثقوا تماماً أن كل حرف كل كلمة تنتزع بضعة من جسمي، تستهلك من طاقتي الشيء الكثير، الكلام بالنسبة إلي أصعب من حمل الأثقال، وجانب آخر كذلك نقوله للإخوة الذين يعدون أنفسهم لخدمة الله ولخدمة الإسلام ليس حتماً حين يكون الإنسان في طريق أن يظل في هذا الطريق حتى يموت.
كنا في زمان الشباب وفي إبان الحداثة. نتمتع بالتدفق وبالحماس ونستطيع أن نجتذب إلينا اهتمام الجماهير لأن مشاعر الجماهير مشاعر تتعشق هذا الاندفاع وهذا الحماس نحن الآن في الكهولة وعبر تجارب شاقة في هذا الميدان المخيف وعبر دراسات طويلة ومضنية ذهبت فورة الصبا وحدّة الشباب وشرّة الحداثة ولم يبق من ذلك كله إلا دفء العقل ونور العقل وهذا الشيء لا أتصور أنه يصلح للمنابر قد يصلح للكتابة وللأحاديث العابرة ولكن المنابر تحتاج دائماً إلى ذلك الطراز الذي كناه قبل عدد من السنين، مع ذلك كله فوفاء لهذه الوجوه الطيبة نعود لنتحدث ولكم كنت أود أن ألتقط الخيط من حيث تركه أخي أبو محمود، لقد ترك قافلة الهجرة تأخذ طريقها بين مكة والمدينة، ولكني كذلك ترددت وسيمر معكم الآن سبب كاف لهذا التردد تذكرون أنني منذ عدة سنوات تحدثت عن الهجرة عدداً من الأحاديث ومن هذا المكان وحين أنظر اليوم أو أتذكر -لأنه ليس بين يدي شيء من هذه الأحاديث- حين أتذكر الأفكار التي كنت أطرحها لكم عن الهجرة أبتسم سخرية من نفسي لهذه البلاهة والسذاجة وقصر التفكير الذي كنت عليه قبل عدة سنوات تذكرون أنني عللت حادث الهجرة يومذاك قبل عدة سنوات بالتناقض المبدئي والذي لا يمكن حله بين الإسلام والجاهلية وظننت أنني اكتشفت اكتشافاً خطيراً ومرة أخرى حين أتذكر هذا أسخر من نفسي ولكي يعرف الشباب كلهم معنى أمانة الفكر أقول إن السبب في سخريتي من نفسي أن ذلك الاكتشاف الكبير كان متأثراً إلى أبعد مدى وكما يظهر لي الآن في ساحة الهدوء والتفكير المطمئن المتزن كنت متأثراً بالجو الثقافي العام الذي يلف العالم افهموا يا شباب يا من تعدون أنفسكم إعداداً ثقافياً افهموا كيف تكون مزالق التفكير وكيف تكون أخطاره ولماذا نقف متهيبين ونشعر أننا نحمل أمانة الأجيال.
الناس في السنوات الماضية إلى الآن لا حديث لهم إلا التناقض والصراع والديالكتيك وما أشبه ذلك وبحكم دراساتي وتأثري بالجو العام وجدت أن الإسلام أيضاً يتناقض مع الجاهلية شبيهاً بتناقض الرأسمالية مع الماركسية وكما استخدم التناقض لتبرير حركة الماركسية في مواجهة المدارس الفكرية والسياسية والاقتصادية التي تواجهها فكذلك يمكن لنا أن نستخدم ذات المنطق وذات المنهج لنبرر عدم إمكانية التعايش بين الإسلام وبين الجاهلية كنت إلى أمد قريب مطمئناً إلى هذا الاكتشاف ولكن انظروا ما أسهل ما ينزلق الإنسان لنطرح على أنفسنا السؤال التالي هل التناقض بين الإسلام والجاهلية لم يتبلور إلا بعد ثلاثة عشر عاماً أم التناقض موجود منذ البداية؟
لا شك أن رسول الله صلوات الله عليه وآله قد تكشفت له وجوه هذا التناقض منذ البداية فبين من يقول لا إله إلا الله وبفرده بالألوهية ويحكم على الإنسان بالعبودية وبين من يعدد الآلهة، من يسجد للحجر وما أشبه ذلك مناقضة لا يمكن أن تحل فالمناقضة قائمة منذ بداية المرحلة الإسلامية إذاً إذا كانت قائمة منذ بداية المرحلة الإسلامية فمعنى ذلك حين نريد أن نجعل المناقضة مبرراً للهجرة يجب أن تكون الهجرة منذ أول المرحلة لكن الهجرة ما حصلت إلا بعد أن قطعت الدعوة أكثر من نصف عمرها، إذاً لماذا صبرت الدعوة كل هذا الصبر الطويل لو كنا نريد أن نبرر الهجرة بالمناقضة فقط لماذا صبرت الدعوة كل هذا الصبر الطويل فقد سقطت إذاً هذه الفكرة التي ظنناها ذات يوم عظيمة وتبين أنها فكرة هزيلة بل سخيفة وتكشف عن قلة تبصر وسوء روية وعدم تقدير لكافة الظروف التي أحاطت بقضية الدعوة في مراحلها الأولى ما دام الأمر كذلك فنحن محتاجون إلى ما يبرر لنا حادث الهجرة.
ما يبرر حادث الهجرة حين نريد أن نكون علميين يجب أن نلتمسه أولاً في مناهج الدعوة وقواعدها بالذات وبالدرجة الأولى ماذا تريد؟ أي شيء تهدف إليه هذه الدعوة؟ ثم على ضوء الظروف التي أحاطت بالدعوة أثناء نشأتها أي بدراسة الأوضاع البشرية والاجتماعية والسياسية والفكرية والاعتقادية التي كانت سائدة في مكة أثناء المرحلة الأولى للدعوة ثم بدراسة البيئة التي انتقلت إليها الدعوة أي بدراسة بيئة المدينة هل كانت المدينة ما يشجع على الاستقرار والاستمرار بالنسبة للإسلام أكثر مما كان متوفراً في مكة؟
بسؤال أدق هل بقي في مكة بكل أوضاعها ما يشعر بأن ثمة إمكانية ولو ضئيلة لثبات الدعوة وترسخها وانتشارها ونمائها في ما لو بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ولم يهاجر إلى المدينة نتيجة لهذه الدراسة يمكن لنا أن نعطي المبرر. طبعاً هذه دراسة تطول لا شأن لكم بتفاصيلها أرجو إن شاء الله تعالى أن أدرسها في سياق دراستي للحركة الإسلامية ككل ولا أريد أن أدرسها كما درستها سابقاً باعتبارها حادثاً مقطوع الصلة عما قبله وعما بعده، يهمنا الآن أن نعرف ماذا كان يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جهر بالدعوة وبلغها إلى الناس وحين ننظر في هذه الزاوية يجب أن نعلم أو أن نعيد إلى الأذهان أن الإسلام يطلب تغيير الواقع البشري.
وبتأن أقول لكم هذا الكلام ليرسخ في الأذهان لأنه فيصل فارق بين منهج الإسلام وبين المناهج الأخرى يطلب تغيير الواقع البشري من خلال تغيير الواقع الإنساني يعني أننا حينما نطرح للتعامل في الساحة الاجتماعية أناساً لم يتم تكوينهم ولم تتم تربيتهم ولم يهذبوا بالقدر الكافي والذي يمكن أن يحدث التغيير والانقلاب حينما نطرح هذه النماذج في الساحة العامة سنحصد الفشل بدون ريب.
وإذا أردنا للحياة أن تتغير ولمسيرة التاريخ أن تعتدل فلا بد لنا من أن نطرح للتعامل نماذج من نوع خاص يعني النماذج التي تعتنق العقيدة باعتبارها قضية الحياة قضية الوجود أي أن المسلم حينما يكون مؤهلاً لأن يحدث تغييراً في المجتمع لا بد أن يكون قانعاً حتى أعمق أعماقه بأعصابه بدمه بعظامه أن القضية التي يحملها أثمن من وجوده وأثمن من حياته ومعنى ذلك يجب أن تكون القضية دائماً في المقدمة ويجب أن تكون الحركة الإنسانية محكومة بالمنهج وليس العكس يعني أن لا يطوع المنهج لخدمة الهوى الشخصي وخدمة الغرض الإنساني من هذه الزاوية نضع أيدينا على أول المفاتيح، الإسلام كان يريد إحداث تعديل في البنية الإنسانية، وإحداث التعديل في البنية الإنسانية ليس عملاً سهلاً لا نستطيع أن نعطي الإنسان جرعة دواء فإذاً هو إنسان صادق وأمين وشريف وشجاع إلى آخر هذه الأوصاف العالية ذلك أمر مستحيل، عملية التعديل في المسالك البشرية تخضع لمعاناة.. تخضع لتجربة تعيش مع الإنسان ما عاش طالما هو حي، تتردد فيه أنفاس الحياة فيجب أن يحترق بنار التجربة كي تعتدل مسالكه واتجاهاته وطباعه وأخلاقه من خلال هذا التعامل المستمر مع وقائع الحياة فالجهد الأعظم كان ينصب إسلامياً على ذات الإنسان إذا قلنا هذا فنحن إذاً نستطيع أن نفكر بسهولة لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبر ويصابر ويطاول المشركين ويتحمل منهم الأذى بل يتحمل من الأذى هو وأصحابه رضي الله عنهم ما لا تطيقه الجبال؟
لم يكن الأمر أمر مسكنة لا ولا أمر ضعف لا ولا أمر جبن، وقد شرح لكم أخي أبو محمود أن حادث الهجرة ليس حادث فرار فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يزن في جبن ولا يتهم بخوف وخور، كان سيد الشجعان ورجل الرجال بل تاج الرجال جميعاً ولكن الأمر يتناول ما هو أبعد وما هو أعظم، هذه النزعات الشريرة هذه الدوافع الفاسدة بهذه الأطماع القريبة لا يمكن أن تزول من الإنسان إلا إذا صبر الإنسان وصابر أنت لا تستطيع تقويم طباعك إلا بالتمرين والتدريب كما أن الطفل محتاج لكي يستقل على قدميه إلى أن يقوم ويسقط ويمشي ويتعثر حتى تستقيم خطواته في المشي كذلك طبعك بالضبط يحتاج إلى هذه التجارب القاسية المُرَّةِ التي تقف فيها وجهاً لوجه أمام أطماعك وأمام نزواتك وأمام شهواتك وأغراضك وأمام كل ما في نفسك من دوافع وحوافز لا تخدم القضية لكي تكبحها من خلال التجربة فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يلقى الأذى وأصحابه رضي الله عنهم كانوا يلقون الأذى لأي غاية لغاية أساسية وغاية ثانوية أما الغاية الأساسية فهي أن يقيموا أنفسهم على القاعدة الإسلامية في السلوك وفي التفكير والتقدير، وأما الغاية الثانية فلإسقاط سلاح العنف الذي كان يستخدمه المجتمع الجاهلي في وجه الدعوة هذا غريب أليس كذلك هل نسقط سلاح العنف بواسطة الصبر وبواسطة الحب ودعوة الإسلام نقول نعم وهو غريب في هذه الأيام لأن الناس تعودت أن تسمع الصراع أن تسمع العنف الثوري وأن تسمع ما لا يحصى من هذا الإجرام الذي لا ينتهي.
في الواقع أن العنف سلاح يجدي صاحبه في أوائل الطريق ولكنه في المراحل الأخيرة يدمّر صاحبه سلاح العنف مفيد في أول الطريق ضار في آخر الطريق والعنف مهما بلغت شراسته حين يقابل الفكر النير والاتجاه السليم والحب الغامر سوف يرتد على صاحبه تصور أن خصمك حينما يلاقيك بالشراسة كلها وهو يعلم عنك طيب العنصر ويعلم عنك كرم الطباع يعلم عنك المحبة الغامرة ويعلم أنك ذو السلوك الذي لا تعلق به ريبة ولا تلحق به شائبة تصوره حين يضع رأسه على الوسادة لكي ينام يحاسب نفسه لماذا أنا أخاصم هذا الإنسان يقيناً هذا الإنسان أحسن مني وأقوم أخلاقاً وأطهر سلوكاً هنا يبدأ الإنسان ينهار يبدأ طالب العنف ينهار لأنه حين يقاتلك مرة أخرى ويغامر بالوقوف منك موقف الشراسة والعنف، يقاتلك وهو فاقد الثقة بنتائج هذه المعركة مهزوم في الداخل في داخل نفسه يعاني الهزيمة، فالنبي عليه الصلاة والسلام حين كان يصبر ويصابر وحين كان يأمر أصحابه رضي الله عنهم بالصبر كان يهدف إلى هذين الهدفين الذين يجب أن لا يغيبا عن البال لحظة واحدة يهدف إلى تكوين الرجال حق الرجال اللذين يمكن أن يصبروا تحت كل الظروف ويمكن أن يصمدوا أمام الهجمات التي تنصب عليهم من الخارج وأمام النزوات التي تتفجر فيهم من الداخل ويهدف أيضاً إلى تحطيم المجتمع الجاهلي من خلال هذا الصبر الطويل.
ارجعوا إلى حوادث السيرة فالنبي صلى الله عليه وسلم يوم دعا لا شك أنه استثار عداوات واستثار مختلف النوازع وردود الفعل؛ استثارها في الناس جميعاً منهم الحاسد ومنهم الحاقد ومنهم المبغض ومنهم ومنهم.. لكنهم جميعاً التقوا على أرضية واحدة هي أرضية العداء الشرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى العدوان يمشي يأخذ طريقه وكان يأخذ طريقه بشراسة يتصور الإنسان معها أنها لن تقف دون تحطيم محمد وتحطيم الذين آمنوا بمحمد وتحطيم هذه الدعوة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن تصوروا الأيام كيف مضت وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى يبث دعوته في الناس وكيف أن أفراداً من خيرة المجتمع القرشي آمنت بهذه الدعوة الوليدة والتفت حول الإنسان الأمثل محمد صلى الله عليه وسلم فأسلمته قيادتها فانصب عليهم البلاء انصباب المطر فصبروا لذلك صبراً طويلاً وكان منهم من يطرح في رمضاء مكة وهو مجرد من الثياب فيعاني من الحر اللاهب الشيء الكثير ويسحب على الرمال اللاهبة فكان يمر المار ممن لا يشارك المسلمين رأيهم في هذا الإسلام ممن لا يعطف على الإسلام، بتاتاً وهذه المناظر أهي مناظر تكشف عن إنسانية أهي مناظر توحي بأن الذين يقومون بها، بقي فيهم شيء من الأمل بأي نوع من أنواع الخير لا.. كان يأتي إلى المُعَذِّبينَ فيعذل وينهى ويرد عن هذا الشر الوبيل.
علام تدل هذه الظاهرة تدل على أن موجة العنف أخذت تنحسر، وتدل على أن اللحظة التي نفذها محمد صلى الله عليه وسلم بأمر ربه بدأت تؤتي ثمارها وتعطي أكلها الكريم، تصوروا أن أبا بكر لشدة العذاب قرر أن يهاجر فمضى فلما لقيه بعض وجوه أهل مكة قال له إلى أين يا ابن أبي قحافة قال أهاجر في أرض الله فقد والله ظلمتمونا وضيقتم علينا و...و.... عدد عليه كل المآسي وكل الأهوال التي قاساها المسلمون من هؤلاء الخصوم فما كان الردّ من الرجل؟ قال له: لا يا أبا بكر إن مثلك لا يهاجر أنت زين العشيرة أنت كذا وأنت كذا وأنت كذا.
مع تصاعد موجة العنف لم يملك الجاهلي إلا أن يعترف بالموقف الجائر الذي وقفه الخصوم من هذه الدعوة وأعاده محمياً بحمايته، تصوروا أيضاً أن أبا جهل يمر على رسول الله يسمعه قولاً غليظاً وحمزة رضي الله عنه كان في قنصه وصيده وكان على شركه تلقاه امرأة من قريش فتقول له يا أبا عمارة لو سمعت ما قال أبو الحكم في ابن أخيك لقد سبه وشتمه شتماً قبيحاً منكراً قال أو فعل ذلك قالت نعم فلم يذهب إلى بيته ولم يرم سلاح الصيد وإنما مضى عامداً وهو على الشرك، إلى أندية قريش حول الكعبة فحمل قوسه فضرب بها رأس أبي جهل فشجه شجة منكرة قال له أتشتمه وأنا على دينه فلم يمكن للرجل أن يرد حرفاً واحداً ولما حاول أنصاره أن يفتكوا بالحمزة قال لهم دعوه فوالله لقد شتمت ابن أخيه شتماً قبيحاً وذهب حمزة فأسلم.
إذاً فسياسة المطاولة والمصابرة آتت أكلها على الصعيدين؛ عدلت من اتجاهات المسلمين وكفكفت من غلواء المشركين ومع ذلك هل يعني هذا أننا نستطيع أن نقول: إن مكة يمكن أن تكون أرضاً خصبة للدعوة؟ لا لم يكن أمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يسلك طريقة أخرى فهل هناك طرق أخرى؟ ولو أننا نقلنا القضية إلى زمننا هذا وعاملناها وفقاً للمنطق السائد اليوم عالمياً لوضعنا مخططاً ورسمنا سبلاً تؤدي إلى فتنة لا يعلم إلا الله مداها.
المجتمع المكي مجتمع قبلي ومجتمع القبائل ليس بعيداً عن أذهانكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الداعية في الذوابة من قريش من بين المطلب أكرم بيت في العرب على الإطلاق بشهادة والأصدقاء والأعداء على حد سواء، والذين أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في مختلف بطون قريش وكان منهم أيضاً من قبائل أخرى غير القبائل القرشية في المجتمع الجاهلي، كان يمكن لي إذا كنت ضعيفاً أن أطلب حماية العشيرة القوية أستطيع أن أطلب حماية قبيلة من القبائل القوية وحينئذ أستطيع لو كنت أفكر بتفكير اليوم أن أذهب لأثير فتنة مع خصومي وأعدائي والذين حموني مجبرون وفقاً للأعراف الجاهلية والقوانين الجاهلية التي يعاقب مخالفها أن يذهبوا ليقاتلوا معي وإذاً فمن الممكن بكل سهولة أن نحدث في المجتمع المكي الجاهلي شراً مستطيراً ومن الممكن أن نحدث فتنة لها أول ليس لها آخر كان يمكن أن يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الطريق ولو أنه اتخذ هذا الطريق لما كان إسلام ولما كان دين.
فهذه الطرائق التي يتبناها الشيوعيون وأشباه الشيوعيين في هذه الأيام لا تثمر إلا الخبال بالنسبة للمجتمع الإنساني وكلمات العنف والعنف الثوري والصراع وما أشبه ذلك مما تلوكه أفواه الذين لا يعقلون ولا يدركون ولا يستشعرون مسؤولية المصير الإنساني يكفيهم اليوم أن ينظروا إلى الساحة البشرية ليعلموا أي تدمير وأي تخريب وأي نزع للثقة بين الناس تحدث مثل هذه الأساليب اللعينة الوسخة فالرسول صلى الله عليه وسلم داعية حب وداعية سلام وداعية وئام ولم يكن ممكناً أن يقبل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصب الزيت على النار هذا غير ممكن كان يمكن أن يفعل ذلك ولكنه عليه السلام لم يفعل ذلك ببساطة لأن هذا يتنافى مع جوهر الدعوة ومع أهداف الدعوة إذاً ماذا بقي في مكة بقيت إمكانية واحدة إمكانية العصبية.
هل كان يمكن أن تؤدي إلى نتيجة في خدمة الغرض الإسلامي؟ نقول لا، لسبب بسيط وسبب آخر سأشرحه، أما السبب البسيط فهو أن الإسلام ليس ديناً قبلياً صحيح أن الله جل وعلا قال لنبيه (وأنذر عشيرتك الأقربين) فأمره بأن يحمل النذارة أولاً لأقرب الناس إليه ولكن هذا لا يعني تخصيص الأقربين بالدعوة وإنما يعني المراحل يعني أننا نخص أقرب الناس إلينا بالأولوية في الدعوة دون إلغاء لعمومية الدعوة وعالميتها فالإسلام دين عالمي ليس دين قبيلة ولا دين أمة ولكنه دين الناس جميعاً (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) فالناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم وعقائدهم وأماكنهم وأزمنتهم مخاطبون بهذا الإسلام فالإسلام من حيث هو دين عالمي لا يجوز له مبدئياً أن يستخدم الأساليب المحلية من أجل الحصول على مكاسب رخيصة هذا واحد.
والشيء الثاني أن العصبية سلاح ذو حدين لاحظوا سأشرح لكم باختصار موقفاً من المواقف الشهيرة في تاريخ الدعوة أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم أخو أبيه أولى الناس به وأحقهم بأن يقف إلى جانبه وفقاً للمقاييس الظاهرة للعصبية والبلاء يوم انصب على المسلمين وبلغ مراحله العليا حصر المشركون بني هاشم مسلمهم وكافرهم على سواء في شعب أبي طالب وقاطعوهم المقاطعة الشهيرة التي استمرت أكثر من سنتين ونصف السنة لكن أبا لهب بتفكير عصبي كان يفكر في منحى آخر ولكن من المنطلق العصبي من الواقع العصبي بالذات.
حينما أنزل الله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا (جبل في ظاهر مكة) ونادى يا بني فلان يا بني فلان يا بني فلان فاجتمع إليه أقرباؤه فقال لهم:
"أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تريد أن تغير عليكم وراء هذا الوادي أكنتم مصدقي".
قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً قط.
محمد عليه الصلاة والسلام قبل الدعوة وبعد الدعوة صادق لا يتناقش الناس في صدقه على الإطلاق قال:
"فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد".
فقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟
ثم التفت إلى بني هاشم ولاحظوا قولته هذه العصبية قال لهم:
خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم على يده.
ثم التفت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال له إن أولى من أخذ عليك لأنا.
أراد أبو جهل أن لا تكون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وسيلة لإثارة القبائل على بني هاشم فعن أي شيء كان يدافع أبو لهب كان يدافع عن العصبية وبقي مستمراً في هذا الطريق مع أن العصبية أعطت ثمرة أخرى أعطت الوقوف من أبي طالب إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم حتى آخر نفس وفاء لابن أخيه الذي كفله ورباه ولكنها أعطت العكس مشايعة ومظاهرة لقريش في عدائها لمحمد صلى الله عليه وسلم لكن من منطلق عصبي وبأهداف عصبية لكي لا تتشاور قبائل قريش فتدمر بني هاشم.. القبيلة بسبب دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً لم يعد لدينا في الساحة على الإطلاق ما يمكن أن نأمل منه أن تزدهر الدعوة وأن تنتشر في مكة على الإطلاق يضاف إلى ذلك سبب ما أظنه يخفى على أحد؛ هذا البلد الذي هو مكة موئل البيت الذي بناه إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام وهذا بلد له قداسة وله حرمة لا تنبغي فيه الفتن ولا ينبغي أن يشهر فيه السلاح، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد أن دانت له العرب واستتب له أمر الدعوة تماماً وقف يعلن أن الله حرم هذا البيت يوم خلق السماوات الأرض وأنه حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له إن الله أحله لرسوله ساعة من نهار ثم عادت حرمته كما كانت إلى يوم القيامة فعامل ديني يمنع إثارة الفتن هناك.
اذهبوا بأنظاركم إلى ذلك البلد الذي درجت خطا محمد صلى الله عليه وسلم تقصده وتيممه إلى يثرب كانت المدينة قبل سنتين على الأقل تتسامع برسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلها الإسلام بعد وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسوله معلماً للمسلمين الرجل اللبيب اللبق مصعب بن عمير رحمه الله تعالى ليفقه المسلمين ويعلمهم وذهب الرجل المترف الذي كان أنعم فتى في قريش وأعطر فتى في قريش، الرجل الذي أصبح الإسلام يساوي وجوده ويساوي حياته ماذا كان يلبس؟ ثياباً مخرقة ممزقة يمشي حافياً عليه أثر الجهد وأثر المسغبة والتعب يخدم الله ويخدم رسول الله ويخدم هذا الإسلام ذهب ليلقى المشركين في المدينة المنورة ومن الحسن الحظ ...
ملاحظة: إلى هنا وينقطع الصوت القوي، والعقل الكبير.. ولعلّ واحداً ممن كانوا يحضرون خطب شيخنا العلامة، يرسل إلينا شريطاً كاملاً لنستدرك ما فات".