تتمة سورة القلم-4-
الحلقة التاسعة - الجمعة 7 من رمضان 1395هـ 12 من أيلول 1975م
العلامة محمود مشّوح
"كلام الشيخ –رحمه الله تعالى- غير مسجل في بداية هذه الخطبة –على الشريط- لكنه من الواضح أنه يتابع الحديث في سورة القلم، على قضية أصحاب الجنة، حيث يتكلم عن صاحب القصة وزمانها" فيقول:
ليس مهماً أن يكون معروف النسب ولا معروف زمان المسألة؛ كان يمتلك بستاناً فيه من الثمرات ما لذ وطاب، وكان عظيم التعرف على حقوق الفقراء الذين حرموها بأيدي الوارثين السفهاء المانعين لحقوق الناس التي شاءها الله في هذه الثمار، فالله جل وعلا ساق هذه القصة على مسامع أهل مكة المشركين ليعرفهم أياديه. وإنعامه عليهم بأن جعل لهم حرماً آمناً، وعزة مستقرة، وتجارة دائمة.
ومع ذلك بالرغم من كل هذه النعم كفروا بأنعم الله جل وعلا، وأعرضوا عما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض هذه القصة مع عاقبتها كيف جرى الاجتياح ثم يغلظ ربنا جل وعلا العاقبة فيقول: (كذلك العذاب) أي هكذا يكون العذاب في الدنيا مَحْقاً ومحواً وإهلاكاً (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).
ها نحن الآن نستعرض بقية سياق الآيات:
يقول الله جل وعلا عارضاً قضية أخرى: (إنَّ للمُتقين عِنْدَ رَبهمْ جَنات النعيم أفنجْعلُ المسلمينَ كالمُجرمين مَا لَكمْ كيْفَ تَحكمُون أم لكم كِتابٌ فيه تدرسون إنَّ لكم لما تخيرون أمْ لكم أيمانٌ علينا بالغةٌ إلى يَوْم القيامة إن لكم لما تَحْكمُون سَلهم أيُهم بذلك زَعيم أمّ لهم شُركاءُ فليأتوا بِشُركائهم إنْ كانوا صَادقين يَوْمَ يُكْشفُ عَنْ سَاقٍ ويدعَونَ إلى السُجودِ فَلا يَسْتطيعونَ خاشعةً أبصَارُهم تَرهَقُهم ذِلّة وَقَدْ كانوا يُدعَونَ إلى السُجُودِ وَهم سَالِمون)
سنأتي على البقية فيما بعد، نلقي الآن نظرة عابرة على مدلول الآيات التي تلوناها ونحاول أن نتعرف على القضية التي أبرزتها هذه الآيات. ينبئ الله جل وعلا عباده عن عاقبة المتقين عنده فيقول:
(إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم)
هذه قضية تلقى هكذا بمعرض التقرير وبمعرض التأكيد على اعتبار أنها أو أريد لها أن توحي بأنها في محل البداهة، التي لا تناقش، إن الله جل وعلا حكم وقدر وقضى بأن يكون للمتقين عنده الجنات التي ينعمون فيها وأورد ذلك مورد التأكيد وأخرجه مخرج التقرير ليدلل بذلك على أن هذا التقرير مقتضى عدل الله جل وعلا ثم يشرح المسألة نفسها شرحاً آخر:
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ مالكم كيف تحكمون?).
في نظرة الحياة الدنيا.
وفي نمط النسيان الذي يعتري الإنسان يظن من لا خلاق له، من لا تقوى عنده، ومن لا شيء له عند ربه يظن أنه له عند الله الزلفى. يحسب أن ثواب الله يحصل بجاه أو بمال أو بنسب وما درى هذا المسكين أن هذا التصور الأحمق الأبله تصور لا يكون لا يستقيم في منطق العقل، وفي منطق الحس أن أسوي أنا المخلوق بين الصالح والطالح فكيف يسوي الله جل وعلا بين المسلم والكافر. ملاحظة ينبغي أن لا تغيب عن بالنا؛ الله تعالى يقول:
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين).
ألم يكن مغنياً في هذا السياق، أن يقول الله تبارك وتعالى: أفنجعل المسلمين كالكافرين.
لماذا عدل الله جل وعلا عن لفظ الكافرين إلى لفظ المجرمين - في مقابلة المسلمين - أو ليس في عرفنا، العرف الشرعي أن الكافر نقيض المسلم، وأن بين اللفظين تقابلاً يستدعي أحدهما الآخر لمجرد النطق والتلفظ، كلما قلت مسلم توارد إلى خاطرك نقيض المسلم وهو الكافر. ففي ظاهر الأمر كان يجب -دون استدراك على الله طبعاً- أن يكون سياق الآية: أفنجعل المسلمين كالكافرين لكن الله جل وعلا عدل عن هذا التركيب، عدل عن الوضع اللغوي ليأتي بلفظة مفردة تحمل في طياتها إشارة كاملة لكل ما ينطوي تحت الجرم، والجرم من مآسي وسيئات جاء بلفظ المجرم في مقابلة المسلم ليطابق أتم مطابقة بين الكافر وبين المجرم؛ انتبهوا نحن نسمي المجرم مجرماً لماذا؟ نرجع إلى حقائق اللغة في مادة اللغة نأتي إلى اللفظة جَرَمَ. المؤلفة من الجيم والراء والميم. فتدل معنا على عدة معان سأشير إلى بعضها:
جَرَمَ وجَذَمَ؛ بمعنى قطع وهدم. وجَرَمَ وجَمَرَ؛ بمعنى أحرق وأشعل.
يكفينا هذان المعنيان من أصل المادة من الجذر اللغوي، لنتساءل عن السر في سياقة المجرمين في مقابلة المسلمين؛ ماذا فعله هؤلاء الكافرون في الواقع. هم هدموا المجتمع الإنساني هدماً، نقضوه حجراً عن حجر؛ فهم من هذا المعنى مجرمون. في الواقع أيضاً هم أحرقوا الدنيا، وأي سلام يبقى في الدنيا مع سيادة الكفر؛ بما فيه من معنى الظلم والعدوان والاقتتال فالمعنيان ملحوظان في الكافرين الذين سماهم الله جل وعلا بالمجرمين.
صورتان تتقابلان يقتص الله نبأهما في هذه الصور الوجيزة؛ أفنجعل المسلمين كالمجرمين. لاحظ وأنت تنطق باللفظ: كلمة مسلم، الميم. والسين. واللام. والميم. الخاتمة تعطيك معنى السلامة، معنى الأمن، معنى الدعة، معنى الطيبة، الْفُظْ –المجرم- تجد أن حروفها تكاد تحرك فكّيك حركة عنيفة، بين الأمرين فارق بعيد. حتى في صياغة اللفظ، يفرق الله جل وعلا بين مدلول الكافر ومدلول المسلم، هذا المسلم بما يقيمه في الأرض من معدلة وبما يقيمه في الأرض من أمر الله وبما يقيمه بين الناس من أخوة ومودة وتناصح وإخاء هذا المسلم يجعل السلام والأمن يرفرفان على الإنسانية مصدر خير وبركة ونماء وازدهار ومنهاج رقي وتقدم لهذه البشرية المنكودة المعذبة بعكس الكافرِ فماذا يعني الكفر.
بكل بساطة الكفر يعني أن تضرب عرض الحائط بهداية الله جل وعلا وتقول حسبي ما هو مودع فَيَّ من قوى، أن تعتمد على ذهنك القاصر على تجربتك المحددة، على إمكاناتك الضيقة وتستغني تماماً عن هداية الله جل وعلا وعن توجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم..
عدة مرات، شرحنا أن الإنسان حينما يعتمد على مجهوداته الخاصة، يستحيل وحشاً كاسراً، يستحيل شيئاً مدمراً يوشك أن يهدد الحضارة الإنسانية برمتها بالفناء والخراب ولئن كنا لا نريد أن نحدث الإخوة عن عبرة التاريخ وحقائق الماضي، إن في الحاضر لعبرة لمن يعتبر.
هذه الإنسانية منذ غابت عن المجتمع الإنساني هداية السماء وابتليت بالصليبية التي هجمت هذه الهجمة الشريرة على سياج الإسلام، وهي تعاني من هذا الذي نقول: تعاني من قصور الذهن، وتعاني من قلة التجربة، وتعاني من عجز الإنسان، وماذا عانى الإنسان؟ النتائج حربان عالميتان مدمرتان كادتا تأكلان الأخضر واليابس، وهيئة أمم عاجزة أتم العجز عن أن تقر السلام بين دول العالم؛ اللهم إلا إذا كان سلاماً على هيئة السلام الروماني الذي أُقرِّ في العالم القديم، وهو سلامٌ لمصلحة الأقوى.
كما أن السلام في العالم الروماني كان في صالح روما؛ فالسلام الذي يتحقق اليوم لصالح روسيا ولصالح أمريكا.. وبقية شعوب الأرض؛ إما شعوبٌ مستضعفةٌ مستذلةٌ، وإما شعوب مغفلة لم تتعلم بَعْدُ رؤية أحابيل الدول الكبرى، وكيف تلتف حول أعناق الشعوب هذه الحالة ما نتجت اعتباطاً، وهذا الوضع الذي تقف الإنسانية اليوم على شَفَاه وضَعَ الرُعبَ النووي الذي يعيش مع الناس في البوادي وفي المدن وفي القارات العظمى، هذا الرعب كله نتيجة منطقية لجهود الإنسان عن طريق ذلك الإصلاح؛ كل أمة تقول عن حق الحياة لي ولا حق للآخرين، وفي داخل الأمة فَكُلُ فَسَّادٍ وَكُلُ أثيم يجد العون، على أن يتجاوز على إرادة الأمة وأن يغصبها أمرها، يجد أنه صاحب الحق وأن الآخرين خَوَلٌ وعبيد، هذا واقع يعيشه اليوم كل الناس صغيرهم وكبيرهم حين غابت هداية السماء كان الأمر في هذا الشكل؛ فالذين يكفرون بالله العظيم لا يستطيعون أن يقدموا للإنسانية سلاماً، ولكن الذين يمكن أن يقدموا السلام وهم مؤهلون لذلك في القلوب الطيبة وللبصائر النيرة وللشرائع المستقيمة وبالحريات الكاملة التي تمنح للأفراد وللشعوب جميعاً، هؤلاء هم المسلمون وإذ يعجز المسلمون عن تحقيق سلام على الأرض فأنى لأرضك السلام؟!.
هذه القضية عرضها الله جل وعلا في مواطن متعددة من الكتاب الكريم:
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم). بهذا الاستنكار (كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون) أنتم يا قوم محمد يا معاشر العرب، ليس لكم كتاب منزل من عند الله فيه أن الله جل وعلا يسوي بين المسلم وبين المجرم، فمن أين جاءتكم هذه الدعاوى.
(إن لكم لما تخيرون، سلهم أيهم بذلك زعيم).
من الذي يستطيع أن يقوم من بين هؤلاء الذين يخاطبونك ويناهضونك ويعادونك ليدّعي هذه الدعوة، هل لهم شركاء يستطيعون إدخال التعطيل على قضاء الله وقدره؟
(فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين)، كل ذلك يبينه الله جل جلاله.
هذه القضية عرضت بهذا الشكل لتدركوا به وتتميزوا، والتميز أيها الإخوة ضروري. لكني أحب أن أهمس في آذان الكل بكلمة وحيدة: التميز ليس ادعاء؛ لكنه:
من أين أعرف أنك مسلم إذا لم أرك في مساجد المسلمين؟
من أين أعرف أنك مسلم إذا لم أرك صائماً مع الصائمين؟
من أين أعرف أنك مسلم إذا لم أعرف بك صدق اللهجة وصدق الحديث؟
من أين أعرف أنك مسلم إذا تفحصت فيك أخلاق المسلمين فلم أجدها؟
موضوع التميز؛ لا بد منه ولا يمكن أن نخطو خطوة واحدة ما لم يتحقق التميز الكامل والدقيق بين المسلمين والمجرمين لكن موضوع التميز موضوع يحتاج إلى مجهودات شاقة تبدأ بتصحيح العقيدة لتنعكس على السلوك تحدده وتحدد له مساره وتعين تصرف الإنسان ومجهوداته في أوسع المجالات التي تعمل فيها الإنسانية.
إذا وجد هذا التميز وجدت على صعيد الواقع صورتان تتمايزان وتتناقضان؛ صورة تناسب الأمن والاطمئنان والسلام، وهي صورة المؤمنين، وصورة أخرى تعربد بالشر والفسوق والعدوان وهي صورة المجرمين الكافرين، ثم يلتفت الله جل وعلا إلى قضية أخرى أظن أننا في رمضان غير محتاجين إلى أن نراعي الوقت أريد أن أنتهي من السورة هذا اليوم. يقول الله جل وعلا:
(فذرني) خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم
(ومن يكذب بهذا الدين) الذي هو القرآن (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين).
كم من الناس ويالشديد الأسف، على غفلة الإنسان ونسيان الإنسان، ظن في نفسه أنه أمنع من يقابل الجمع فأنزلته مقادير السماء ذليلاً محطماً.
كم من الناس يرى من حوله الأموال تنمو وتتكاثر فيجتاحها أمر ربك الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
كم من ملك وعظيم يقول للناس موتوا فيموتون يصبح بلا حول ولا طول ولا صولاجان ولا سلطان.
هذا الواقع الذي تزخر به حقائق الحياة الدنيا يغفل عنها الناس مع الأسف.
الله جل وعلا يسلي ويعزي رسوله صلى الله عليه وسلم عن هذا المظهر العجيب الذي يدعو إلى الدهشة.
في مكة جاءت الأوامر إلى رسول الله حازمة حاسمة؛ وفي مقابله صورة المجتمع المشرك تجأر بالكبرياء والخنزوانة والحمية الجاهلية، والإنسان إنسان والضعف البشري لازِمةٌ من لوازم ابن آدم ينظر رسول الله فيتساءل ضمناً، طبعاً، متى يتغلب معسكر الإيمان على هذا الكفر البادي الذي يملك مفاتيح القوة، بشكل عام سؤال مشروع؛ أنه ليس كل الناس يا إخوة قادرين على أن ينفذ وراء ظواهر الأمور -ذلك من خصائص الله وحده- أما الإنسان فيرى خصمه، يرى عدوه، يملك كل أسباب القوة والجبروت ويستطيع أن يزلزل الأرض من تحتك فمن حقه أن يتساءل ما شاء له التساؤل.
أمام هذا السؤال المشروع، أو التساؤل المشروع؛ يقول الله جل وعلا لمحمد عليه السلام دعك من هذا الأمر، ذرني اتركني، اْمضِ في طريقك وذرني أنا وهؤلاء المكذبين، وذرني والمكذبين فإن الله جل وعلا سيستدرجهم، يعني ينزلهم درجة، درجة بالطريق الذي رسمه الحق. والاستدراج هو استجرار الإنسان، واستجرار الأمم نحو الهاوية، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون...
كم رأيتم كم سمعتم في جيلكم الذي عشتموه أمماً رَقِيَتْ وعَظمَتْ، وأشخاصاً بلغتْ دعوتُهم عنان السماء وظنوا أنهم لا يمكن أن ينزلوا عما هم فيه، في لحظة واحدة أصبحوا أحاديث، أصبحوا في خبر كان، وأملي لهم أنني أمهل هؤلاء الناس، لمَ الإملاء؟ ولماذا الإمهال؟ هل يعجز الله عن أن يأخذ الظالمين أخذة رابية؟ لا، ولكن الظلم له أنصار، ولكن الباطل له أنصار، وله أناس يحسنون به الظن.. إخواني مع مسيرة الحياة الدنيا يفرغ الباطل من كل ظن حسن يظنه به الناس هنا تقع الواقعة يأخذه الله من حيث لا يحتسب، فهذا الإملاء إمهال ليس لمصلحة الظلم ولكن لمصلحة العدالة الإلهية التي لا بد أن تنتصر. (وأملي لهم إن كيدي متين) انتهى.
قضية أخرى يقول الله جل وعلا (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون)، معنى ذلك بالتفسير: هل أنت يا محمد تطلب من قومك على الرسالة ثمناً وأجراً منهم؛ من أجل ذلك مثقلون بالحمل لأداء هذا الأجر؟ لا. هذا الدين ليس دين تَكَسُّب ليس قضية منفعة، إنما هو نعمة المجانية إلى الناس عامة، وما من رسول أرسله الله تعالى إلى الناس في القديم وإلى عهد محمد عليه السلام، إلا وقال لقومه: يا قوم لا أسألكم عليه مالاً، يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني تلك قولة الأنبياء إلى أقوامهم جميعاً...
قضية الإسلام ليست قضية تكسب وليست قضية منافع هناك فرق مبدئي بين شخص الداعي وبين قضية الدعوة لا يمكن أن يتكسب الإنسان في الدعوة ولقد نجح عليه الصلاة والسلام لأنه رفض كل ما عرض عليه من متاع الدنيا وحطامها وبقي ملتصقاً بقضيته القضية التي حمله الله إياها ونجح أصحابه ونجح خلفاؤه الراشدون ما داموا يقدمون للناس هذه الهداية بلا ثمن.
ذات يوم وفي عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس رضي الله عنه، أقبل الناس على دين الله أفواجاً؛ فكتب عامله في أحد الأمصار إليه يقول: إن أهل الذمة قد تكاثروا في الإسلام، وأخشى أن يُنْفَقَ الخراجُ وتنهارَ الميزانية، فيكتب إليه عمر بن عبد العزيز؛ إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً، ليست القصة أن نأخذ الأموال، القصة أن نأخذ القلوب ليست القصة أن نملأ الجيوب القصة أن ننير البصائر والعقول. ويكتب له: يا ليت أن الناس كلهم أسلموا وأني أنا وأنت نرعى الغنم في شعاب الجبال.
كذلك تُقَدمُ هدايةُ السماء إلى الناس، بلا ثمن، بلا طلب أجر، وحينما تبدَّلتْ هذه الهداية فَبَدلهُا كان ناتجاً طبيعياً عن محاولة طلب العيش، انظروا اليوم كم في العالم الإسلامي من علماء؟ كم فيه من فقهاء؟ وكم فيه من خطباء يرفع كلٌ عقيرته وينادي بالإسلام، لمن نسمع للوزير الذي يحشو جيبه بالأموال، أم للشيخ الذي يتعامل مع المخابرات، أم للشيخ الآخر الذي يستزلم للحقراء، هؤلاء يُسْمَع كلامهم ثم يُلْعَنون، يُسمع كلامهم ثم يُسْخَطُ عليهم لمن نسمع إذاً للذين يتقدمون إلى الناس على نهلكة الأموال وعلى زهد في الذهب وعلى قلة النسب من غير من ولا طلب أجر، يريدون فقط أن يوصلوا شعاع الإيمان إلى القلوب.
هذا الإسلام ليس دين تكسب ولا مطمعة، وهذا المنهج قام عليه محمد صلى الله عليه وسلم فأدى دوره، وأجزأ وتبارك ويوم نحاول أن ننهض بالإسلام مرة أخرى فلنغسل أيدينا جميعاً من جميع علماء الإسلام الرسميين، ولو كان أحدهم يأخذ فلساً واحداً من الدولة. فذلك وحده كفيل بأن يمحق بركة علمه، وكفيل بأن يمحق بركة دعوته، ولنعتمد على الذين لا يريدون أجراً ولا يريدون علواً في الأرض ولا يريدون فساداً، نعتمد على المتقين الذين يقدمون هذا الإسلام مجاناً.
قضية أخيرة في هذه الجمعة، أعرضها لأنها من بشائر الغيب ثم أختم بها الكلام.
يقول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم:
(فَاصبرْ لِحكم رِبكَ ولا تَكنْ كصاحب الحوت إذْ نَادى وهو مَكْظُوم لولا أنْ تَداركَهُ نعمةٌ من ربه لنبذ بالعراءِ وهو مذمومْ فاجتباه ربُّه فَجعلهُ من الصَالحين).
من هو صاحب الحوت: يونس بن متَّى صلوات الله عليه، قصه يونس؟ ما نبأ يونس؟ أرسله جل وعلا إلى أهل نينوى وكانوا مئة ألف أو يزيدون فاستحفظ عليهم وتأبى فغضب من قومه وانصرف مغاضباً وترك بلد قومه ومضى على وجهه، فلما انصرف ركب السفينة فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت فلولا أن كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، يونس ضاق صدره واشمأزت نفسه لهؤلاء القوم الذين يناديهم إلى وضح النهار فيستمسكون بالجهل، يناديهم إلى الصراط المستقيم فيأبون إلا أن يسلكوا الطريق الأعوج، ضاق صدره بذلك فذهب مغاضباً، لما ذهب مغاضباً -وهو النبي- ما أمهله الله، قضايا الدعوة إلى الله ليست مزاحاً وإنما هي جد كلها لم يتركه الله جل وعلا، جعل الحوت يلتقمه ويلبث في بطنه ومن هناك من بطن الحوت نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستخرجه الله جل وعلا، وأعاده إلى قومه، ثم آمن به قومه.
وقال الله جل وعلا:
(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)
ماذا تعني هذه القصة هذا المثل الذي يضرب أمام النبي صلى الله عليه وسلم؟ عناد يقابل عناداً، ضيق صدر من النبي عليه السلام ضيق صدر من يونس بن متَّى ماذا يفعل؟ يحذره الله جل وعلا أن يكون مثل يونس لكي لا يحل به ما حل بيونس من قبل هناك قانون في النبوات، الله جل وعلا حينما تتكبر أمة على ربها وتطلب ما لا يُطْلَبُ، تطلب خوارق العادات قد يأتيها فينزل عليها مائدة من السماء قد يجعل لها الجبال ذهباً قد يفجر لها الأنهار والبحار فإن آمنت فبها ونعمة وإلا عذبها الله جل وعلا عذاب المحو والاستئصال.
هذه قضية لم تكن واردة بالنسبة لأمة العرب التي أبلغت بالدعوة، لماذا محمد هو النبي الخاتم لا نبي بعده، وأمته هي الأمة الباقية لا أمة بعدها أبداً، ولهذا فلا يمكن من أجل ختام الدعوة وختم الرسالات أن تستأصل الأمة وأن تهلك وتباد من هنا كان تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على سيئات هذه المسوخ وليصبر على طلباتهم المتكررة وغير المعقولة.
ثم فيها بشارة كما أن يونس بن متَّى بعد أن ذهب مغاضباً لقومه يائساً من إيمانهم وإسلامهم أعاده الله إليهم فآمنوا وأسلموا ومتعهم الله إلى حين، فنفعهم بهذا الإيمان، كذلك أنت يا محمد سوف تضيق بالقول لما ترى من مظاهر العتو والتمرد، وسوف تخرج مهاجراً من البلدة، لكن لا تدعُ عليهم، ترفَّقْ بهم لا تدعُ الله أن يمحقهم ويهلكهم، فستعود إليهم ويؤمنون كما آمن قوم يونس ويمتعهم الله جل وعلا ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ شم رائحة هذه البشارة العظيمة كان يلقى الأذى ثابت الفؤاد طيب النفس، كان العذاب والبلاء يصبان عليه صباً فلا يقول ما قال نوح: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) ولا يقول ما قال موسى (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) بل كان يقول بأبي هو وأمي:
"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
لماذا؟ لأنه كان واثقاً عظيم الرجاء في تحقق موعود الله لهذا المثل الذي ضرب له كما أن قوم يونس آمنوا بالآخرة يعني آخر الأمر كذلك هذه الأمة مهما طال بها التأبي والعتو والتمرد فسوف تؤمن وتثوب إلى أمر، الله هل في ذلك أيضاً لنا بشارة أيها الإخوة؟ نعم. ويجب أن نكون من ذلك على بيّنة.
نحن في بلاد المسلمين في ديارنا الشاسعة وبملايننا المملينة، نسمع نعيق البوم والغربان في شرق العالم الإسلامي وغربة، الشيوعية لها دعاة والاشتراكية لها دعاة والرأسمالية لها دعاة وسائر مذاهب التحلل والميوعة والتهتك لها دعاة، بل إن هؤلاء هم أسياد الموقف كما يقال والإسلام يطارد من مكان إلى مكان، يحاول بعض الناس أن يضحك على المسلمين لإغضائه عن صَلاتهم، لإغضائه عن عباداتهم، في ذات الوقت الذي يُقطع فيه جسم الإنسان الإسلامي مزقاً مزقاً، عالمنا الذي نعيش فيه أيها الإخوة الأحبة - ونحن اليوم في الجمعة الأولى من رمضان كما يجب أن نذكر وبعد أسبوع أو أكثر بقليل يحل موعد ذكرى نزول هذا القرآن، يجب أن نذكر أننا نعيش في عالم معمود، عالم يستغرب الإسلام ويعاديه أساساً، ويطارده مطاردة عنيفة لا هوادة فيها ولا رحمة هل معنى ذلك أننا ننفض اليد من أمتنا ننفض اليد من أبنائنا وإخواننا؟ لا.
كما أن هذه الأمة اهتدت بالأول بعد طول تَمَنع وتأبٍّ، فكذلك في هذه المراحل من حياتها حينما يستنفد الباطل أغراضه، وحينما يفقد أنصاره، لعدم استطاعته تقديم أي شيء لهم، حينئذ ستهب الأمة باستحياء معاني الإسلام فذلك من بشائر الله لنا أسأله جل وعلا أن يثبتنا على صراطه المستقيم وأن يأخذ بأيدينا وأيديكم وأيدي الأمة إلى ما يحب ويرضى وإلى الأسبوع القادم إن شاء الله سنواصل استعراض السورتين الأخرين لنخلص بعد ذلك:
للتعرف على المهمات الأساسية للإسلام.
وكيف قدَّمها الإسلام للمجتمع الجاهلي؟ وماذا كانت استجابة المجتمع الجاهلي لهذه القضايا؟ وكيف تغلب الإسلام على هذه المشكلات الطارئة؟ والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله تعالى على سيدنا محمد.