حركة التاريخ بين النسبي والمطلق "في رسائل النور"(6)
حركة التاريخ بين النسبي والمطلق
"في رسائل النور"(6)
بقلم: أديب الدباغ
"الحدث" بين الإنسان والقدر!
بديهي أننا نحمل "الإنسان" فوق طاقته إذا نحن نسبنا إليه وحده صنع "الحدث" وتشكيل "التاريخ".
صحيح أن "الإنسان" حر الإرادة والاختيار، وأنه الفاعل المباشر للحدث، إلا أن "مادة الحدث" وخامته الأولى التي ينسج منها نسيج حدثه هي أسبق في الوجود من إرادته، بل هي التي تنشئ الإرادات في الإنسان، وتغريه بتشكيل "الفعل التاريخي" من خلالها، وصياغته من عناصرها الأولية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن "إرادة الإنسان" ليست هي الإرادة في هذا العالم المتفردة في تصريف "الأحداث" كما تشاء وتهوى.
وعليه فما يريده الإنسان ليس بالضرورة حتمي التحقيق.
فإرادة الإنسان – أي إنسان – لكي تنفذ من دور القوة الكامنة في النفس، إلى دور "الفعل" المتشكل واقعاً يتعين عليها أن تنفذ بجلدها – أولاً – من بين زحمة إرادات البشر المتصارعة، وألا تصطدم – ثانياً – بإرادة أكبر هي إرادة الكون المتجلية في نواميسه ودساتيره، وألا تناكف قوة أعظم هي قوة "القدر" الذي يطوي الوجود جميعاً في قبضة يده.
وآمل ألا يسبق إلى الذهن مما قلناه آنفاً أننا نشير إلى "جبرية قدرية" يخضع لها العالم. ويقف "الفعل الإرادي" للإنسان مشلولاً إزاءها، فهذا ما لا نعنيه مطلقاً.
وإنما الذي نذهب إليه في هذه المسألة بالغة الحساسية، ونرجو ألا يكون قد جانبنا الصواب فيه... هو أن "القدر" يقوم بين البشر مقام المعلم الحكيم – ولا مشاحة في المثال – بين تلاميذه، فهو لا يعطل عقولهم ولا يحجر عليها ولكنه يوجه مساراتها من بعيد، ويصحح أخطاءها، ويلهمها الصواب من وراء ستار، ولا يشلّ إرادتهم ولكنه يسمح بمرور بعضها – لحكمة خافية عنا – ويحول دون مرور الأخرى، ولا ينساق وراء أهوائهم ونزواتهم بل يشير لهم بعصا التأديب، وقد يوجه لهم لطمات الرحمة إذا اقتضت الضرورة ذلك، لكي ينتبهوا ويرعووا، وهو بعد ذلك – أي القدر – كابح عظيم لطغيان الهوى، وجنون العدوانية والتسلط لدى الدول والشعوب، بما يراه مناسباً من وسائل تختفي بين الأسباب والمسببات.
فلو اتبع "القدر" أهواء كل ظالم وطاغية وأفسح لها مجال التحقيق إلى آخر مداها لفسدت السماوات والأرض، وعمت الفوضى، وخربت الدنيا وتهاوى الرباط الأخلاقي الذي يشد إليه العالم، ويتطلع للاحتماء به كل ضعيف وصغير من الدول والشعوب.
فمن حسن حظ البشرية أن يقف لها "القدر" بالمرصاد، ويعيدها إلى شيء من الحق كلما أوغلت في باطلها، ويلجمها بشيء من العقل كلما جن جنونها، ويسوقها إلى شيء من الحكمة كلما جهلت واستخفها البطر والأشر.
وغير خاف أن بعض الدروس التي يحاضر بها "القدر" الشعوب، قد تبلغ مبلغاً عظيماً من القسوة والعنف في ظاهر أمرها، وربما كلفتها حروباً دامية، وفتناً رهيبة، ودماء غزيرة، وقد تضرب أوطانها الزلازل، ويغمرها الطوفان، وتنتشر فيها الأوبئة والأوجاع، ويشيع فيها القحط والجفاف، إلى آخر ما هنالك من كوارث تأتي تحت ستار من الأسباب المادية الظاهرة، ولكنها تخفي وراءها حكمة قدرية قد تنتبه إليها الشعوب المبتلاة وتفيد منها في مستقبل أيامها، وقد لا تنتبه إليها، ولكنها موجودة على كل حال لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فالذي نخلص إليه مما تقدم هو:
إن "الحدث" الذي يأتي به "الإنسان" ليفسح له "التاريخ" مكاناً بين أحداثه، قد يولد ميتاً ما لم ينفخ "القدر" فيه الروح... وهو لا ينفخ فيه الروح إلا لحكمة مهما خفيت عنا في حينها، إلا أنها تخدم – على المدى الواسع البعيد – روح التاريخ الإنساني، ومثله العليا في الارتقاء بالبشرية نحو آفاق العدل والخير والجمال.
و"النورسي" يشير إلى هذه الحقيقة إشارة مقتضبة، ويضع بكلمات قليلة قاعدة كلية عظيمة من كليات التاريخ يمكن أن تنضوي تحتها جزئيات تاريخية كثيرة، فضلاً عن أننا نستطيع – على ضوء هذه القاعدة – رؤية أصفى وأوضح لكثير من الأحداث التي قد تبدو مستعصية على الفهم والتفسير، وإليك هذه القاعدة كما أوردها "النورسي" في إحدى رسائله حيث يقول – رحمه الله:
(إن يد الإنسان، ويد القدر الإلهي، موجودتان معاً في كل حادثة)(14).
فالإنسان قد يظلم - أحياناً – الحادثة، حيث يحكم عليها من خلال سببها الظاهري، أما "القدر" فلأنه يرى السبب الخفي لتلك الحادثة – وقد تكون مصيبة من المصائب – فإنه يعدل في حكمة.
وهذه قاعدة أساس تدور على محورها "رسائل النور" وينظر إلى مسائل "التاريخ" كافة على ضوئها.
(وقد ثبت لنا صدق هذه القاعدة من خلال التجارب المتكررة، فإن كثيراً من المصائب التي نزلت ببعض من طلابنا، لمسنا فيها العناية الإلهية، وأبصرنا من خلالها وجه الرحمة الواسعة)(15).
الهوامش:
(14) ملحق قسطموني /ص142.
(15) المصدر نفسه.