حركة التاريخ بين النسبي والمطلق "في رسائل النور"(5)
حركة التاريخ بين النسبي والمطلق
"في رسائل النور"(5)
بقلم: أديب الدباغ
كان "المجتمع النبوي" نزاعاً بكل جوارحه نحو "الكمال المطلق" الخالص من الأهواء البشرية في "العدل والحق" وكل القيم الأخرى التي جاء بها الإسلام.
وكانت "الدولة" تعكس – من خلال ممارساتها لشؤون الحكم – هذا النزوع وتسعى مخلصة للتحقق بهذا الهدف السامي.
فالمحاولة الجادة والمخلصة للتحقق بـ "المطلق" من كل شيء، واستشراف آفاقه، والنظر إلى الأشياء بمنظاره، ووزن الرجال بميزانه، والحكم عليهم بمقاييسه، هو سمه العصر النبوي وطابعه العام.
فكل صفة إيمانية لا تبذل جهدها للاستمداد من "المطلق" ولا تحاول – في الممارسة – الارتقاء إليه تظل دون المستوى المطلوب بمقاييس هذا العصر.
فالشجاعة – مثلاً – مطلوبة من كل مؤمن، ولكن الشجاعة لا تبلغ "المطلق" حتى تتحول – عند الحاجة – إلى شهادة، والشهادة نفسها تبقى دون الكمال ما لم تكن خالصة لوجه الله.
والسخاء صفة المؤمنين جميعاً، ولكن السخاء إيثار الغير على النفس إذا اقتضت الضرورة ذلك.
و"طلب العلم فريضة على كل مسلم" كما ورد في الحديث(7) ولكن طالب العلم هالك ما لم يطلبه لله ويكرسه في سبيله.
و"العدل" صفة لابد من توفرها في "الحاكم المؤمن" ولكن "العدل المطلق" في المجتمع النبوي كما يريده الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، لم يكن ليراه الناس عياناً، ويتمثلوه واقعاً، حتى يرتقي "بلال" الكعبة ويؤذن في الناس للصلاة، وحتى يصبح "سلمان" – مجازاً – من آل البيت، إكراماً له، وتسرية عنه.
وإقامة صرح "الحق" بين الناس من أوجب وجائب السلطة الحاكمة، ولكن "الحق المطلق" لم يستبن للناس تماماً ولم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم بين الناس كاشفاً عن ظهره الشريف يقول:-
(من جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليجلده...)(8) إلى آخر الحديث.
فالعصر النبوي – كما رأينا – هو أقرب عصور التاريخ الإسلامي إلى القيم المطلقة التي جاء بها الإسلام وعاشها المسلمون.
وما كان ذلك ليكون، لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم حياً قائماً بين ظهراني أصحابه يأتيه "الوحي" من عند الله – جل وعلا – قرآناً مبيناً لمعالم "المطلق البشري" فيما ينبغي أن يتصف به المؤمن من صفات، ويأتيه من أفعال.
فالمجتمع النبوي – بهذا الاعتبار – مجتمع موقوف على حدود "المطلق"، وموزون بموازينه، ومحكوم بأحكامه، وقائم على قواعده.. وأي فعل يأتيه "الحاكم" أو "المحكوم" قاصراً عن "المطلق" – مهما كانت درجة هذا القصور ضئيلة – سيحدث شقاً عظيماً في جسم المجتمع يؤدي به إلى ما لا يحمد عقباه، حتى لو كان هذا "القصور" المأتي، لا يشكل من مجموع "الكمال" المطلوب سوى جزء واحد من عشرة أجزاء منه.
فهذا العشر الهين ربما تسبب في هلاك الناس كما جاء في تحذيره صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الحديث الشريف:
(إنكم في زمان من ترك منكم عُشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمانٌ من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا)(9).
فإذا كان عصر "القيم المطلقة" الزاهر قد مضى وانقضى بانتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، إلا أن ظلاله وصوره بقيت تُظل العصور التي تلته الواحد بعد الآخر بدرجات متفاوتة بحسب قرب العصر أو بعده عن عصر الرسالة العظيم الذي ترك أعمق الأثر في ذاكرة الأمة وعقلها الباطن، واستطاع أن يشد إليه روح الأمة وضميرها بروابط قوية من الحرمة والإعجاب والتعظيم، حتى غدا – عصر الرسالة – ميزاناً حساساً تزن به الأمة حكامها، وتحكم عليهم سلباً أو إيجاباً على قدر قربهم أو بعدهم عن روحه ومثله، وقد بلغ من حساسية المجتمع بعصر النبوة وقيمه في العقود الأولى التي تلته أن يخاطب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس من فوق المنبر قائلاً:
"يا معشر المسلمين! ماذا تقولون لو ملتُ برأسي إلى الدنيا كذا (وميَّلَ رأسه)
فقام إليه رجل فقال: أجل، كنا نقول بالسيف كذا (وأشار إلى القطع)!
فقال: إياي تعني بقولك؟
قال: نعم، إياك أعني بقولي.
فقال عمر: رحمك الله، والحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوجت قومني"(10).
هكذا، ليس بألسنتنا... ولا بأي شيء آخر دون السيوف.. وإنما بسيوفنا... ومن دون أية مقدمات.. وسنرى فيما بعد كيف استنطق الناس سيوفهم في تقويم الانحرافات... بل أحياناً اقل الانحرافات شأناً...
وما ذلك إلا لأن جلة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، من المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرافقين له في حله وترحاله، وممن كانوا قد تربّوا ونشؤوا في حجر "النبوة" وعاشوا يقبسون من أنوارها ويلتمسون من آثارها وتعاليمها أصبحوا – فيما بعد – من أشد الناس تعلقاً بعصر الرسالة، وأكثرهم تشبثاً به، وأعظمهم رغبة في الإبقاء على روحه حياء بينهم، حتى إنهم وجدوا في تعطيل هذا العشر من "العدل والحق" أحياناً -الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم- سبباً كافياً لا متشاق السيوف وإهدار الدماء.
وهكذا... افتتح دم الشهيد عثمان بن عفان رضي الله عنه المراق على صفحات القرآن عصر، المأساة الإسلامية بكل معاناتها وآلامها...
فقد ظل هذا الدم المغدور يسري في عروق التاريخ الإسلامي صارخاً ومستثيراً أحداثاً متتابعة من الهول عبر واقعتي "الجمل" و "صفين" وكل الوقائع الأخرى التي احتكم فيها المسلمون إلى سيوفهم...
ويمضي هذا الدم في طريقه مصعداً في شعاب المأساة حتى يلتقيه فوق قمتها دم زاك آخر هو دم الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما... فيعتنق دماهما ويمضيان معاً في جلال حزين ليؤشرا معالم طريق "المطلق الإسلامي" كما ينبغي أن يكون للحاكم والمحكوم...
* * *
و"النورسي" رحمه الله – يشير إلى هذه الأحداث المأساوية الدامية في التاريخ الإسلامي مبيناً أسبابها، بعد أن يورد سؤال السائل الذي كان قد سأله عنها فيقول:
(مضمون سؤالكم الثاني:
ما هي حقيقة الفتن التي دبت في صفوف المسلمين في عهد سيدنا علي رضي الله عنه؟
وماذا نسمي أولئك الذي ماتوا وقتلوا فيها؟
الجواب:
إن "معركة الجمل" التي دارت رحاها بين سيدنا علي رضي الله عنه وجماعته من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين من جهة أخرى، إنما هي معركة – في حقيقة أمرها بين العدالة المحضة (كما رسمها عهد الرسالة)، والعدالة النسبية كما فرضها واقع الحال(.
وكلا الجانبين يرى أنه يمثل مطلق العدالة والحق، ويتهم الآخر بالقصور عنهما، فكان وقوع الحرب بينهما أمراً لا مفر منه.
)ولقد اتخذ سيدنا علي رضي الله عنه "العدالة المحضة" كما يراها أساساً لسياسته في إدارة دفة الحكم وسار بمقتضاها، مجتهداً رأيه مرة، ومقتفياً آثار الشيخين من قبله مرة أخرى.
أما معارضوه فكان لسان حالهم يقول:
إن صفاء القلوب وطهارة النفوس في عهد الشيخين كانا ملائمين وممهدين لكي تنشر العدالة المحضة سلطانها على المجتمع، إلا أن دخول أقوام متباينة الطبائع والاتجاهات بمرور الزمن في هذا المجتمع، والاندغام فيه – وهي على ما هي عليه من ضعف الإيمان وقلة الخبرة بأفاق الإسلام وعدالته المطلقة – أدى – بطبيعة الحال – إلى وضع عوائق مهمة إزاء الرغبة في تطبيق العدالة المحضة، فغدا تطبيقها صعباً يثير مشاكل عديدة، لذا فقد آل الأمر إلى الأخذ بالعدالة النسبية، التي هي اختبار لأهون الشرين، ولأن المناقشة حول هذين النوعين من الاجتهاد آلت إلى ميدان السياسة، فقد نشبت الحرب بين الطرفين، وحيث أن كل طرف – في كل الأحداث والوقائع – قد توصل إلى هذا الرأي واستند إليه في حكمه من باب الاجتهاد ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى ومصلحة الإسلام ولم تتولد الحرب إلا عن اجتهاد خالص لله، فيصح القول: بأن القاتل والمقتول كلاهما من أهل الجنة، وكلاهما مأجوران مثابان رغم ما تولد عن اجتهاد المعارضين من حرب دامية، ورغم معرفتنا بأن اجتهاد الإمام علي رضي الله عنه كان صائباً، وأن اجتهاد مخالفيه مجانب للصواب.
فهؤلاء المخالفون ليسوا أهلاً للعقاب الأخروي، إذ المجتهد لله إذا أصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، أي أنه ينال ثواب بذله الجهد في الاجتهاد، وهو نوع العبادة، أي هو معذور من خطئه(.
* * *
(فإن قلت لم لم يوفق الإمام علي رضي الله عنه بمثل ما وفق أسلافه في إدارة دفة الخلافة، رغم اتصافه – من هذه الناحية بقابليات فائقة، وذكاء خارق، ولياقة تامة جديرة بمنصب الخلافة؟)
(الجواب:
إن سلطات الإمام علي رضي الله عنه، واستحواذه على القلوب والأرواح. وكونه ضمير الأمة وعقلها النابه الذي تستفتيه الأمة فيما يعرض لها من شؤون، هو أعظم بكثير من سلطانه السياسي.
فعدم توفيقه في السياسة والحكم أمر قدري مقصود عوضه عنه القدر بالحكم على القلوب، فنال بجدارة لقب "سيد الأولياء" ذلك المقام الرفيع الذي فطر عليه ونشأ في حجرة النبوة من أجله، فغدا أستاذ الجميع، وغدا حكمه المعنوي سارياً وماضياً إلى يوم القيامة)(11).
* * *
)وإذا قيل: لمَ لم يوفق سيدنا الحسين رضي الله عنه في مقاومته الأمويين رغم أنه كان على حق وصواب؟ وكيف سمحت "الرحمة الإلهية" أن تكون عاقبته وآل بيته فاجعة أليمة؟(
)الجواب:
إن النية الخالصة لله التي كان يحملها الحسين رضي الله عنه في حركته ربما لم تكن بالدرجة نفسها من النقاء والصفاء عند بعض الذين استلوا سيوفهم ووقفوا إلى جانبه، فأحدث ذلك ثغرة في جدار "النية الصلبة"، استطاع معارضوه النفاذ منها، مما سبب انكسارهم وهزيمتهم).(12)
* * *
نرجع فنقول تعقيباً على كلام "النورسي" آنف الذكر:
صحيح أن استشهاد "الحسين" رضي الله عنه... دون هدفه مثَّلَ انتكاسة خطيرة لمثل المطلق وقيمه التي كان قد تربى عليها في مدرسة النبوة، إلا أنه يشكل – من جانب آخر – انتصاراً له، حيث غدا رمز "المطلق الإسلامي" ورمز الكفاح من أجله على مدى التاريخ، بينما كان الانكسار والهزيمة من نصيب خصومه – في انتصارهم الظاهر – لأنه كان سبباً في إثارة مشاعر السخط عليهم مدة حكمهم.
وعليه فإن "الحسن" و "الحسين" ونسلهما – كما يقول "النورسي":
)قد حازوا بذلك سلطنة معنوية عظيمة دائمة متواصلة، فصاروا مرجعاً مهماً لكل أرباب القلوب وأصحاب الولاية والطامحين إلى الحق والعدل.
فإن هم خسروا "سلطان الحق" الذي كانوا يريدون إقامته على أرض المسلمين إلا أنهم ربحوا – في نظر الأمة – المنزلة الرفيعة، والمثال السامي الذي يقاس عليه عدل كل سلطان على مدى الأزمان... وهذا هو الانتصار الذي ما بعده انتصار ((13).
الهوامش:
(7) رواه البيهقي وابن عدي والطبراني والخطيب البغدادي والطيالسي وغيرهم كثير، وفي طرقه مقال وحسن بعض طرقه السيوطي في الدرر المنتثرة (ص105). وأخرجه ابن الجوزي في منهاج القاصدين من جهة أبي بكر بن داود وقال: ليس في حديث طلب العلم فريضة أصح من هذا. انتهى. (عن كشف الخفاء للعجلوني، باخصار 2/43). راجع (فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي).
(8) راجع كتاب! "الوفا في أخبار المصطفى لابن الجوزي 2/774 و"البدية والنهاية" لابن كثير 5/231.
(9) رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه (كشف الخفاء للعجلوني 1/217).
(10) أخبار عمر ص422 – علي وناجي الطنطاوي – دار الفكر- دمشق 1959. عن "الرياض النضرة في مناقب العشرة" للمحب الطبري 50/2.
(11) هذا مجمل المعنى لما يقرره النورسي وتفصيله في (المكتوب الخامس عشر) من المكتوبات دارسوزلر-استانبول.
(12) هذا مجمل المعنى لما يقرره النورسي وتفصيله في المكتوب الخامس عشر من المكتوبات – دارسوزلر –استانبول.
(13) ملحق قسطموني /ص142.