الفيلسوف الغزالي
الفيلسوف الغزالي: قراءة ميدانية لمنحنيات تطوّره الروحي
عصام عز الدين
لم يعد البحث في الإمام أبو حامد الغزالي مفكراً أو فيلسوفاً ومتكلماً
وفقيهاً ومتصوفاً فيه طراوة الجدة والأصالة منذ عهد بعيد، ذلك ان
البحث الأكاديمي قد استوفى
ما لهذا العملاق من حقوق عليه، فقد كتب فيه المحدثون مؤلفات
لا سبيل لإحصائها بمختلف اللغات من أقصى الشرق الى
منتهى الغرب. ولقد نشرت من مؤلفاته
العشرات وترجمت الى لغات آسيا وأوروبا، وقيل فيه كل شيء من
خلال شتى المشارب
والنزعات، وبالرغم من ذلك يبقى للكتاب الصادر مؤخراً عن دار
قباء بالقاهرة بعنوان:
«الفيلسوف الغزالي: اعادة تقويم لمنحى تطوره الروحي» للكاتب
والباحث العراقي الدكتور عبد الأمير الأعسم أهمية كبيرة تعكسها زاوية التناول التي يرى
بها ومنها المؤلف الفيلسوف الغزالي، وهي الزاوية التي تطل على تطوره الروحي
العام وتسعى لصياغة تصور لمنحى هذا التطور، والخيوط التي نسجته على منوالها
وقادته الى ربوة هذا التطور حيث الصوفية التي انتهى عندها مؤكداً على ان القتل
وحده ليس الوسيلة المثلى ولا الكافية لادراك الحقيقة المطلقة، منذ الكلمة
الأولى في السطر الأول للكتاب يبدو المؤلف شغوفاً وملماً ومحيطاً بشخصية
الغزالي، مدركا لدرجة ثرائها المعروفة عنها، والتي يبدو معه أكثر من شخصية أو
لنقل أكثر من صور لذات الشخصية. فبعض مؤرخي الفلسفة يرى في الغزالي ممثلاً
حقيقياً للفلسفة الاسلامية، له فيها شأن ودور يدفعهم لتصنيفه ودراسته ضمن
فلاسفتها، وبعضهم الآخر لا يراه ممثلاً للتيار الديني المضاد للفلسفة ومهما
اعترف هؤلاء بأقواله وجهوده في الفلسفة فإنهم ينسبونها جميعاً الى محاولته للرد
على الفلاسفة، وكشف مثالبهم «تهافت الفلاسفة». والبعض الثالث ينزه الغزالي عن
الفلسفة ويرفعه الى مصاف الأولياء، فهو المتكلم بحق عن مصادر اسلامية وليست
يونانية، وهو الصوفي الكبير الذي يصل الى الحقيقة المطلقة بحدسه الايماني
المشرق وبالاتصال المباشر بالله منبع الحقيقة. المؤلف الدكتور الأعسم لا يلم
بهذه الصور للغزالي فقط ولكونه يعترف بها جميعاً ويرى ان الغزالي كان كل هذه
الشخوص والصور جميعاً، وأنه تقلب بينها خلال مسيرته الحياتية التي بدأت في
الطابران بطوس عام 450هـ على الأرجح، وانتهت بطابران أيضاً عام 505هـ، ومرت
نيسابور وبغداد ودمشق والاسكندرية والقدس، حيث تعاقبت أدواره كتلميذ ومساعد
للامام الجويني في نظامية نيسابور، ثم معلماً بها بعد وفاة الجويني وهو
الفقيه الشامي الأشعري الصوفي الذي درس الغزالي على يديه، وتأثر به تأثراً كبيراً، ثم
رحيله الى بغداد عام 484هـ ليعمل بنظامية بغداد في اثرى فترات حياته، التي شهدت
اختلافه مع الفلاسفة وردوده عليهم واشتباكه معهم ونقده لهم، ،وهو الأمر الذي
دفعه دفعاً الى قلب حلبة السياسة حتى بدأ في فترة الشك مع نهاية القرن الخامس
الهجري، حيث بدأت حيرته بين الشهرة التي كان يرتع فيها كفقيه في نظامية بغداد
وبين النداء الباطني الملح الذي صار يدعوه الى تحطيم كل أسباب الدنيا ليفك أسره
الذي يعوقه عن التطلع الى الاتصال القلبي المباشر بالله، وعندها ترك الغزالي
نظامية بغداد وبدأ رحلته التي يختلف المؤرخون حول مدتها ومحطاتها، وان كان
الغالب انها شملت ترحاله بين مكة والقدس وشرق الاسكندرية قبل ان يعود مع عام
498 الى نيسابور ثم الى طوس التي انتهت حياته بها عام 505 هجري.
المنحى الصوفي للإمام الغزالي
بالرغم من ان المرحلة الصوفية في حياة الغزالي مثلت خاتمة حياته وخاصة في
السنوات السبع الأخيرة التي قضاها مع نيسابور ثم طوس في الخانقاه التي أنشأها
ليدرس بها العلوم الدينية، فإن المؤلف يؤكد على ان جذور تصوف الغزالي كانت
موجودة منذ بداية حياته، ويشير تحديداً الى ثلاثة جذور اساسية هي:
-أولها: جذر الميلاد لأب يعمل بغزل الصوف حيث الفقر يدفع بالزاهدين نحو التصوف
فكان أبوه رجلاً زاهداً يميل الى مجالس المتصوفة، ولا بد ان الصبي «الغزالي» قد
ذهب بصحبة أبيه الى مجالس الذكر والوعظ، ولم يكن الصبي الذكي لينظر الى ما يدور
حوله بلا وعي بل كان يفهم بأنهم يمارسون حب الله.
ثانيهما: ان صديقاً لأبيه من المتصوفة هو من قام بتربيته مع أخيه أحمد بعد وفاة
الأب الذي أوصى بهما هذا الصديق الصوفي. ولا بدّ ان سنوات وجود الغزالي في معية
هذا الصديق زرعت في أعماقه نوعاً من التطلع الدائم الى الجوانب الروحية في
صلاته كإنسان بربه. وثالثهما: تلقيه دروساً في التصوف وأصوله على الفارمدي
المتصوف الكبير الذي لا شك انه بلور الافكار الصوفية التي تولدت لدى الغزالي
على يدي أبيه وصديق أبيه الذي تولى تربيته، ويمكن القول بأن فترة تلمذة الغزالي
على الفارمدي أورثته صراعاً بين رغبته في الدنيا حيث العمل كفقيه درس الفقه على
الشيخ الاسماعيلي ثم على إمام الحرمين «الجويني» والذي لقبه لأول مرة بالفقيه،
ثم تدريسه بنظامية نيسابور، ثم نظامية بغداد، وبين رغبته في التصوف التي دفعته
لأن يعلن بأن «علم الفقه علم دنيوي لا ديني»، وهي نفسها دعوى الصوفية، كما أقدم
على نقد الفقهاء بجانب الفلاسفة تأثراً بالمنهج الصوفي، الذي كان يتطور في
اتجاهه على نحو بطيء ولم يتصوف فجأة كما يدعي البعض.
ويفسر المؤلف هذا التحول لدى الامام الغزالي بتبلور ايمانه بفكرة بدأت تختلط
بها ثقافته الموسوعية، وهي ان مطلق الحقيقة لا يأتيه الصدق الا طريق العقيدة
الدينية، بل انه صار يميز بين الحسيات والعقليات وبين ان يرجع كل آراء الفلاسفة
الى الأنبياء، حيث ان الأخيرين هم المنبع الفلسفي لكل ما اطلع عليه من آراء،
فكان لا بد له أيضاً بعد ان تنوعت معارفه ان يسقط صريع الشكوك الدفينة في
اعماقه والتي ورثها عن نشأته الأولى ثم زادها وأذكاها ما تعرض له من نقض
لمبادىء الفلاسفة وأهل الكلام، والباطنية منهم بوجه خاص، وبدلاً من ان يتيه في
حجج الفلاسفة والباطنية تبلور ايمانه الروحي بقطع العلائق عما تلقاه في حضانة
أبيه الصوفي ومربيه الوفي وأستاذه الصوفي، من وجه، مع تشبثه بالحياة وتلمذته
على الجويني وتعرفه على نظام الملك وتدريسه في نظامية بغداد ومكانته في قصر
الخليفة العباسي من وجه آخر، فتولد عن رغبته الصوفية وعن المشاكل السياسية التي
سببتها فترة تدريسه في نظاميتي نيسابور وبغداد ورده على الفلاسفة، اعادة وصل
معرفته الصوفية التي كانت قد انقطعت بعد الفارمدي.
ومن هنا يصل المؤلف الى ادراك رئيسي لكتابة هذه هو ان العقيدة الصوفية كانت
منغرسة وراسخة في بواطن الامام الغزالي، وان خطه البياني كان يعلو ويهبط
متأثراً بدرجة انشغاله بالحياة، منذ تلمذته وملازمته للامام الجويني وتدريسه في
نظاميتي نيسابور وبغداد، والذي دفع به الى قلب الأزمات السياسية، ثم بدرجة قلقه
وشكه وبحثه عن طمأنينة النفس التي لم يجدها الا في الحياة الصوفية فانكب على
كتب الصوفية في رحلته الطويلة، حتى عاد الى نيسابور وطوس في نهاية الرحلة
إماماً للمتصوفة.