خلق آخر
خلق آخر
زهير سالم
الإنسان خلق من الخلق، يشترك مع تراتيب الخلق الحيواني في كثير من البُنى والوظائف والاحتياجات. ولكنه حسب التعبير القرآني (خلق آخر) وحسب تعبير الحديث الشريف (خلق وشيء آخر..)
يعدد القرآن الكريم المراحل الأولى لنمو الجنين الإنساني: نطفة فعلقة فمضغة فعظام ولحم.. قال تعالى
(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين).
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (.. إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة. ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يأتيه الملك فينفخ فيه الروح..). (الخلق الآخر) ذاك إنما يتميز بتلك النفخة التي نفخها الملك فيه، يتميز (بالروح).
والروح هي شيء آخر غير تلك (النامية) الحيوانية التي ينفلق بها الحب، أو يبرعم بها الطير داخل البيضة، أو تنمو بها سائر الأحياء. (الروح) التي تجعل من الإنسان (خلقاً آخر) ليست هي (الكهرباء المادية) التي يولدها القلب ليضخها عبر الشرايين إلى خلايا الجسم أجمع.
(الروح) أو (الكنه الخفي) الذي يجعل من المخلوق الحيواني (خلقاً آخر) هي تلك (الورقاء التي هبطت من المحل الأرفع) كما وصفها ابن سينا:
هبطت إليك من المحل الأرفع ورقـاء ذات تدلـل وتمنــع
هذه اللطيفة التي استمدت سمو كينونتها من محلها الأرفع تظل تنزع في صيرورتها إليه، فتضفي على (الخلق الآخر) معاني إنسانيته وترفعه، وتربطه دائماً بسره الأول. فتراه، ما وجدت هذه اللطيفة مستقراً فيه، مستقراً في مرابع الحق والخير والجمال، ولهذه اللطيفة المجهولة الكنه قوانين صحتها وقوتها وإثمارها وكذلك قوانين مرضها وضعفها وموتها. وحين تذوي تلك اللطيفة أو تموت يموت الخلق الآخر في صاحبها، ويبقى (الخلق الأول)، الخلق الجِبِلّي المشترك مع النوع الغرائزي في غرائزه..
حين ترفرف الورقاء في سماء نفس الإنسان يرقى إلى يفاع (أحسن تقويم) بكليته روحه ونفسه وجسده. وحين يموت الخلق الآخر ويبقى الخلق الأول يموت الإنسان ؛ فإذا هو لا سمع ولا بصر ولا فؤاد..
(إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء.. ) (.. وما أنت بمسمع من في القبور). وتكون الميتة السوداء ميتة الأحياء:
ليس
من مات فاستراح بميت إنما الميـت ميـت الأحيـاء