في التغيير وأساليبه
في التغيير وأساليبه
زهير سالم
ثمة محوران متضادان متقابلان في حياة الناس، يسعى كل منهما إلى الاستئثار بهذه الحياة، وصياغتها وفق تصوراته ورؤاه، ولنقل بشكل أدق إلى تغييرها إلى ما يظنه الأفضل.
وأحد هذين المحورين يردف أهواء الناس، ويمتطي أمواج شهواتهم، فيندفع بهم وبها إلى
قرارة البهيمية، حيث منبع الغرائز، ومستنقع الطينة الحيوانية.
والقائمون على هذا المحور، وللحق نقول، فريقان؛ فريق مضلل مخدوع يفسد وهو يظن نفسه مصلحاً، يسيء وهو يحسب أنه محسن؛ وفريق مغضوب عليه، يملأ نفسه ووجدانه الحقد على الإنسانية، فيدفعها إلى ما فيه حتفها وهلاكها، ليتشفى بها، أو ليشبع نهمة سوء في نفسه السوداء. وكلا الفريقين من هؤلاء هم دعاة الفساد في الأرض، وأنصاره، يتلبسون دوماً بلباس النصح، ويبهرجون دعوتهم بزخرف القول، فيسمون فسادهم، تطويراً وتحديثاً، وتحرراً وتقدماً (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
أما المحور الآخر فيختلف في موقفه عن المحور الأول من وجهتين: الأولى؛ أنه لا يستمد رؤيته ومعاييره وقيمه، من ذات نفسه، ولا مما ينتجه فكره أو عقله، ولكن يستمدها من مصدر علوي ثبت له يقيناً صدق ما جاء عنه. فحياة الإنسان، ينبغي أن تصاغ على نحو ما أراد رب الناس، وخالقهم والرحيم بهم، والعليم بما يصلحهم.. ويؤمن هذا الفريق أنه لا يجوز لأهواء الناس وعواطفهم أن تتلاعب بهذه القيم الثابتة، تغييراً وحذفاً وإضافة. وثبات هذه القيم والمعايير، لا يعني من جهة أخرى جمودها عند قوالب لا تتعداها، بل إنها جوهر نام له حقيقته الثابتة، وصورته المرنة القابلة لتلبية حاجات الناس برفق ولين وسمو وجمال.
والمفارقة الثانية في موقف المصلحين والمفسدين؛ أن جهد أصحاب الإصلاح يأتي غالباً معاكساً لرغبات الناس وأهوائهم.. فإذا كان الفريق الآخر، يسعى دائماً إلى دفع العربة إلى قرارة الوادي، فإن على هذا الفريق أن يرفعها إلى قمة السمو، ومن هنا يظهر فارق الجهد، وفارق الثمرة بين عمل الفريقين.
إن المصلحين والمفسدين يسعون جميعاً إلى تغيير أوضاع الناس وقيمهم ومعايير حياتهم، وبينما يسعى المفسدون إلى التغيير نحو الأسوأ على نحو ما فعل قابيل، وقدار، ونمرود، وفرعون، وأبو جهل، ومزدك، وماني، وحمدان قرمط، وكارل ماركس، وفرويد.. يسعى المصلحون إلى التغيير نحو الأفضل على نحو ما فعل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.. صلوات الله عليهم أجمعين.
وتختلف أساليب التغيير بالنسبة للفريقين، وإذا آثرنا في هذا المقام، أن نلتصق بدعاة الإصلاح، والتغيير نحو الأسمى، سنجد أمام هذا الفريق، كما أمام غيره، أسلوبين مطروحين لإحداث التغيير...
التغيير البطيء المتدرج ويطلق عليه اصطلاحاً اسم (الإصلاح) والتغيير الجذري السريع ويطلق عليه اصطلاحاً اسم (الثورة). وتدور معارك كلامية حامية بين دعاة الإصلاح ودعاة الثورة، وكثيراً ما يختلف الناس من هذا الفريق على بعض القضايا الجزئية، ويكون خلافهم في الأصل على اختيار أحد الأسلوبين، ويأتي خلافهم في الجزئيات تابعاً. فماذا يقول أنصار كل أسلوب..
دعاة الإصلاح ينادون بالرفق واللين والأناة والتؤدة.. يحفظون قوله تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى..) ويقفون عنده طويلاً. يروون أيضاً (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولم ينزع من شيء إلا شانه) ويروون (من يحرم الرفق فقد حرم الخير كله..) وقاعدتهم الذهبية (ما لا يدرك كله لا يترك جله..) ويضيفون (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) في فقه للأولويات مشهور، يقوم على الموازنات الشرعية المعتمدة، ويشيرون إلى ما في منهج دعاة الثورة من حدة وعنف وقصور، فهؤلاء، في نظر دعاة الإصلاح، مضيعون للفرص، يفوتون القليل طمعاً في الكثير، فيبقون بلا كثير ولا قليل. ثم ما أكثر ما يهدرون الجهود، ويفرطون بالطاقات، في تحرك غير مسدد ولا محكم، ولا يفوتهم هنا أن يلقوا إلى دعاة الثورة بالمأثور: (إن المنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى..) وأساس موقف هؤلاء الإصلاحيين الرضى بالتقدم ولو كان قليلاً، وغض الطرف عن الكثير مما حولهم وإن كان مزعجاً مقلقاً، ومد الخطوة على قدر الوسع، والاطمئنان إلى منهج السير.. دون التعلق كثيراً بالنتائج فعليهم أن يبذلوا جهدهم، وليس عليهم أن تتم المقاصد.. ومدار حركتهم وضابطها الأساسي (سددوا وقاربوا..).
أما دعاة الثورة، فيحترقون أمام تلك الطروح الهادئة الباردة.. وأول ما يحفظون، في هذا المقام، (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر أمره ونهاه فقتله..)، (خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة). إن المناهج الترقيعية مرفوضة، وإن على المسلم أن يقيم بنيانه على أساس متين ركين يكون بلا دَخَل، ولا شوائب، ولا كدر.. (لا لقاء في نصف الطريق...) ويلحظ هؤلاء ما يحدث في حياة الناس من تغيير بجهود القوى المناقضة، أو بجهود دعاة الفساد، فيضحكون من دعاة الإصلاح، ويلقون في وجوههم قول الشاعر..
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
ويضيفون: إن الجهد الذي يبذل لإصلاح جزئيات تفصيلية هنا وهناك، يمكن أن يضم وينظم ليقوم بالإصلاح الشامل، ويحقق الهدف المنشود..
وبين دعاة (الإصلاح) ودعاة (الثورة) يبقى لنا الإسلام الذي تعلق كل فريق بجانب من نصوصه، ويبقى مناط الحق في هذا المقام مذخوراً في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من رأى منكم منكراً فليغيره، بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان..)
وتبقى القدرة أساس التغيير، ومعقده ومناطه..