مارد في صدري(9)
مارد في صدري(9)
رواية: نعماء محمد المجذوب*
عند الشاطئ الرملي، الممتد بلا نهاية، المطل على البحر، جلسنا جميعاً، قلت "لسناء" وأنا أتفحصها جيداً:
- لاشك أنك أخبرت زوجة أبيك قبل مجيئك إلى هنا.
- نعم، لكنها سكتت، لم تردّ بشيء، وهذا ما يحيّرني، فصمتها يدلّ على سرّ كامن في نفسها، يتبعه أحداث ومواقف.
- لقد خرجت من مغامرة الزيارة إلى الخالة خديجة، بأعصاب قوية، أو هذا بدا لي على الأقل.. أومأت برأسها، وهي تقول:
- ولكن رأيت من أذاها الشيء الكثير، فقد فقدت السيطرة على أعصابها حينئذ، ولكن سرعان ما جازاها الله بفعلها، ولو كنت أوثر الحقد لما سامحتها. ثم استطردت قائلة:
- إنها الآن مشغولة بأمر ابنها خالد، الذي ترك الدراسة والتحق بدكّان أبيه.
قلت ساخرة:
- ليكون حذّاء؟
- أجل، تصليح الأحذية في هذا الزمن، مهنة رابحة، بسبب الفقر.
ثم خطر لي أن أسألها:
- هل أنت متأكدة أنّ أباك قد ملّكها ثروته، أم أنها إشاعة تروّجها زوجة أبيك لغاية في نفسها؟
- لقد أرتني الوثائق التي احتفظت بها في خزانة مقفلة.. سامحه الله.
- لا يحقّ له ذلك.. ظلمك بفعله.
أثناء الحوار، قرصتني هيفاء بيدي، وهمست بأذني كي أكفّ عن هذا الحديث.. أرادت أن تغيّر دفّة الحوار، فطرحت على "سناء" مجموعة من الأسئلة:
- لقد تعلق قلبك بالمسجد، وفيه حفظت كتاب الله، ماذا يعني لك القرآن؟
بابتسامة أنارت وجهها أجابت:
- إنه غذاء لروحي، لا أستطيع أن أستغني عنه لحظة من ليل أو نهار، وإن أمكنني الاستغناء عن الطعام والشراب.
- وماذا تعني لك القراءة؟
- هي مفتاح سعادتي، وحياة قلبي.
- والأخلاق؟
أطرقت برهة، ثم قالت:
- أرى الأخلاق والإيمان متلازمين، فالأخلاق ثمار شجرة الإيمان، ولا خير في خلق لا يرتكز على أساس من الإيمان الصادق.
أردفتُ:
- عندما سئلت عائشة رضي الله عنها، عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: كان خُلُقه القرآن.
قالت هيفاء:
- إنّ زوجة أبيك، لا تؤكّد إنسانيتك، وتنتهك حقوقك لابتعادها عن القرآن.
- إنها أميّة، كثيراً ما دعوتها إلى حضور دروس الدين، لكنها ترفض، لا تريد أن تسمع إلا صوتها، أما صوتي فتعمل على إخماده.
- هداها الله، هي في جهل، لا تؤاخذيها على تصرفاتها.
- أصبر، رغم أنها كثيراً ما تغيّبني في زاويتي القصيّة في البيت، مما يدفعني أحياناً إلى الانكماش.. وقد أدخل معها في محاولات هوجاء للدفاع عن نفسي، ولكن دون جدوى.
- سببه الاختلاف والتناقض فيما بينكما.. لذا تعاملك كإنسانة هامشية على وشك الخروج من عندها.. هيّئي نفسك لمثل هذا الموقف.
قالت، وشفتاها ترتعشان:
- كنت أحاول أيضاً أن أصلح ما يحدث بيننا من خلاف، قبل أن يستفحل، ولكني كنت كمن يكتب على الماء.. حتى كثرت أحلامي في النوم، وتجيئني مشوّشة وبلا موعد، وأحياناً تكون كالإلهام.
في المنزل، انتصبت زوجة أبيها أمامها فجأة بضخامتها وابتسامة غامضة تغطّي وجهها، وهي تشير إلى باب الغرفة.. كانت كمن تحدّث نفسها بصول عال، وابتسامتها الغامضة تتسع شيئاً فشيئاً.. هلعت "سناء" رأتها كخفّاش ليلي أعمى، تعصف بجناحيه الريح، ويرتجف خوفاً من حصى الأطفال، وصرخاتهم، بهلع سألتها:
- ماذا تريدين يا خالة؟
- فقط ادخلي إلى غرفتك.
ما إن دخلت، حتى حبستها، صارت "سناء" تطرق الباب كمن يدقّ جوانب نعشه في فزع، مما أثار حيرة إخوتها، وابتعث دهشتهم.. سكنت.. ثم قالت:
إنها سحابة صيف تمر، ويصفو بعدها الجو.
نظرت إلى المرآة المعلقة على الجدار، بشوق عميق، كمن في حالة انتظار، تساءلت في قرارة نفسها:
هل أنا أنظر إلى المرآة، أم هي تنظر إليّ؟
أأنا أتكلم معها، أم هي تكلمني؟
كان بينهما إشارات، ومزاح وضحك، والصوت ينعكس على صفحة المرآة، ويرتدّ في صمت خافت.. ليس يبدو سواهما فيها.. والخواطر في نفسها تلملم أجزاءها، فتضمّها "سناء" في نشيد عذريّ حزين، يدقّ على أحلامها.. فتحت النافذة، كان القمر غارقاً في صفيحة زرقاء، ابتهجت، وقالت:
- إذن لست وحدي، أنا مع القمر، والنجمات، فلأتأبط أحلامي، وأسافر في الفضاء الواسع.
سمعت من وراء الباب، صوتاً هادئاً، في نبرات حزينة يقول لها:
- سأفتح لك..
- وأمك؟
- خرجت، لا أدري إلى أين.
سألتها ليلى:
- لماذا حبستك أمي، أصحيح أنك..
- لا تصدقي كلامها، فقط كنت في نزهة مع صديقتي، وتأخرت قليلاً، هذا كل ما في الأمر.
- نحن نحبّك، ونتضايق من معاملة أمي لك بهذه القسوة.
- حبيبتي، وأنا احبكم.
رفعتها إلى صدرها، ضمتها بحنان، والدموع تتساقط من عينيها، وهي تقول:
- لا يمكن أن تكره أخت إخوتها مطلقاً.
اعتكفت "سناء" في البيت لأيام عدّة، كانت تختلي مع نفسها في ركنها، وتسبح إلى جزيرة الذكريات، التي تتكاثر وتتسرّب ببطء إلى داخلها، تطلّ حيناً بجراءة، وتتلاشى حيناً آخر، وتتلوّن بألوان وخصائص، يستدعي بعضها بعضاً، ويتكرر سؤال في ذهنها:
إلى أين ستقودني هذه المواقف وقد تجاوزت الثانية والعشرين من عمري؟
هل تؤدي أعمالي المتواصلة في البيت، والاهتمام بإخوتي إلى لا شيء؟
كانت الوحدة والعتمة والوحشة، تساعدها على لملمة الذكريات، وتراها تزداد بسرعة، فتتساءل بحيرة:
لماذا لا تتلف مع مرور الزمن كأيّ شيء؟
لماذا لا تنفسخ وتريحني من الأرق؟
ضحكت ساخرة وقالت:
توقّفها علامة توقّف حياتي، أنا أفكر فأنا موجودة.
قد تتراجع الذكريات أمام هدير أصوات إخوتها كالموج.. يلعبون، أو يتشاجرون في أرض الحوش، ثم تخرج إليهم وفي داخلها ثورة مكتومة، ورغبة ملحّة، في تغيير واقعها، وبأن تعيد صياغة حياتها.. هذا ما كانت تشعر به، وكأنها امتلأت وعياً يحركها، ويثوّرها، للتغيير إلى الأفضل، والمواجهة المظفرة مع خالتها.. شدّت يديها في الهواء بانفعال، كأنهما جناحا كطائر، وقالت:
- كرهت الانعزال في الماضي، والتعامل معه للحاضر.. لا أهرب من الحاضر، بل أريد أن أحيل الماضي إلى قوة نشطة دافعة للحاضر في علاقته بالمستقبل.
هدأت، وهي تحاور نفسها، قائلة:
لقد كبر إخوتي، يمكنهم الاعتماد على أنفسهم، عليّ أن أشقّ طريقي.. لم تتح لي زوجة أبي الفرصة لذلك، أشياء تنقصني.. وضعت كفّها على صدرها، خفق قلبها.. من يسكنه؟. ومن يمزج مشاعره مع مشاعري؟.. هل أبقى مجرد خادمة، ومحرومة مهن العطف؟.. إن عزائي الوحيد أنها زوجة أب، وليست أماً لي.
غامت عيناها بالدموع، وهي تستكين إلى تالات شجرة النارنج، لمستها بكفّها برقة، وقالت بصوت خافت:
سأبحث عن أمي.
سخرت من هذا الخاطر.. أبحث عن أمي.. أين؟.. كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، وبما يشبه القسوة، قالت:
أمي هي المسئولة عن تفقّدي.
تضايقت من إحساسها هذا، وبدا لها أنّ قلبها بدأت القسوة تستولي عليه.. لا، لا، سأبقى في انتظارها في فرصة واعدة.. ستأتي مهما حلكت الظروف.
جلست تتصفح كتاباً كنت قد قدمته إليها منذ أيام.. ألقت جسدها فوق الفراش.. فركت جبينها غير أنّ حديث النفس ظلّ يثير أعصابها، شعرت بحاجتها الشديدة كي تتنفّس الهواء المنعش بعيدة عن البيت.. ولم تبال بتحذير ووعيد.
في المنتزه تحت ظلال شجرة الصفصاف، جلست على المقعد الخشبي، كانت نسمات تهفهف، تتخللها برودة لذيذة، تسري إلى جسدها.. ومن بعيد لمحت الضباب يحجب رؤية الأشياء.. أراحت الجلسة الهادئة أعصابها، ثم أحسّت بيد تلمس كتفها، وصوت هيفاء يناديها:
- أهذه أنت يا سناء؟.. لم أرك منذ زمن طويل، يبدو أنك تحبسين نفسك.
- ليس بيدي حيلة، خرجت بإرادتي، وليس بإرادتها، لا أكتمك، أني أتوجّس الخوف، وسوء العاقبة.
- لا داعي للخوف، لسوف تنتهي الأمور على خير.. ثم إنّ قضيتك ليست اليتيمة في البلدة، بيئتنا تحوي الكثير من المنغّصات، السبب هو..
- أعلم.. الوازع الديني قد أصبح ضعيفاً في النفوس.
اقتربت هيفاء منها، وهمست:
- بدرية وحليمة العمياوان، طردتهما زوجة أخيهما بعلم منه، منذ سنوات.. أحالك أصعب، أم حالهما؟
- أعلم أنهما تسكنان معاً بلا معيل في بيت قديم، في الحارة، وتعملان على كسب رزقهما، بنقل الماء من البئر إلى السكان.. أف، لماذا أصبح المجتمع بهذا الشكل المخزي؟
- ظروف صعبة، تمرّ بها أمتنا بعد الاستعمار، ولم تزل تتعثّر في النهوض، ويحاول المخلصون تدارك الوضع وترميم الصدع.
- لقد حمّلتني هموماً فوق همّي، مأساتي الخاصة ومأساة الوطن عامّة، مرّت لحظات صمت، ثم هزّت هيفاء برأسها قائلة:
- الشيء الغريب أن تتعذّب امرأة بيد امرأة أخرى.. نعرف أنّ حكاية المرأة المعذّبة تكون جراء تسلّط الرجل في مجتمعنا العربي، وليس العكس.. لقد تغيّرت الموازين، وأصبحت الحياة كالموت، ومن هنا يأتي ألم المرأة.
ثم قالت "سناء" وهي تنظر بعيداً:
- انظري إلى الضباب ما أكثفه!
- إنه كغيمة رمادية، هبطت من السماء نحو الأرض تمازحنا، وتحجز عنّا رؤية الأشياء.. ثم تتلاشى رويداً رويداً، في صراع مع شعاع الشمس والريح.
كانت الشمس تظهر ثم تختفي خلف الضباب، نهضنا، نسير في طريق تحف الأشجار على جانبيه، نتّجه داخل الحيّ، ونحن نتحدث بشتى الموضوعات.. ثم تسلّلت "سناء" من مدخل المنزل إلى ركنها خلسة، وتفكر بالأحاديث التي دارت مع هيفاء.. آثرت العزلة، ثم الاستسلام لليل من النسيان، أو ما يشبه النسيان.
في صباح أحد الأيام، استيقظت مع أنفاس الكون، تتسلّل إلى صدرها، انتشت الحياة في جسدها، امتدت عيناها إلى الخربة المهملة، تراقب المكان، وتتأمّله، كأنها تراه لأول مرة، النباتات البريّة، تختلط خضرتها، بهشيم الأشواك، ونحلة تمتص رحيق زهرة، وهرّتان تتناجيان بصوتين رخيمين، سرح خيالها، وفي انعتاق خلوتها همست:
مشاهد تستجيش المشاعر، أليف يناجي أليفه، في جانحي قلب يرفرف، وحسّ رقيق، يبحث عمن أبثّه أشجاني، في فرحي، وأحزاني.. رحلت عيناها إلى صفحة السماء، تبحث عن قمرها، ولكن قد غاب في تموجات الأنوار، وأحضان النجمات، متدثراً بضياء الشمس، ثم ليعود مع الليل هزيلاً، قد أضناه السفر، كان الهوى يثور بين جنبيها، تأملت نفسها في المرآة، تسلّل إليها شيء من الإعجاب، أحسّت به هاجساً ممتعاً، تضافر مع الحنين، والتفاؤل.
كانت وتراً يبحث عن صنوه في أعماقها، ونجمة تائهة، تفتقد قمرها في مدارها، ومسراها، ومن عمق الوحدة والوحشة، والقيود تكبّلها، سكبت من إحساسها في كلمات تحملها خواطرها.
حنيني عذاب وألم
وشوقي لهيب وحمم
ووحدتي ضياع وسقم
ونفسي تموج بالهمم
ترى:
ماذا بعد الانتظار؟
هل مرارة، ثم انهيار؟
يا زمن:
لا تكن معي في خصام
انتشرت الأنوار، والدفء في كل مكان، فصعدتُ إلى علياء السطح المطلّ على البلدة، كان الهدوء يحمل شقشقة العصافير، وأمام عيني البحر يمتدّ بلا نهاية، وزوارق الصيّادين تلمع تحت أشعة الشمس، كنجمات هوت من السماء في صفحته، وأخرى تسرع نحو جزيرة أرواد، كنت أتأمّل ما يحيط بالبلدة، من جبال تنحدر من قممها الشلالات، وغابات داكنة من خضرتها، وطيور مختلفة الألوان، والأشكال، تجول في الأجواء، ثم تحطّ على ذوائب الأغصان، ضامّة أجنحتها، مترنمة بألحانها.. كنت أتجول فوق السطح الواسع، وأتنقل من جانب إلى آخر.. وقد اقترب إلى الجهة المطلّة على البيوت المتراصّة، ينقل الهواء بعض أحاديث كأنها لم أدر كم مرّ عليّ من الوقت، وأنا في تجوالي وتأمّلي.. من خلال السكون، والمتعة والمناجاة، انبعث صريخ، وأنين روّعا متعتي، وخدشا سمعي، كان يصدر من بيت أم خالد، شاهدت منظراً مريراً، "سناء" متقوقعة كالسلحفاة في أرض الحوش، تخفي رأسها بين يديها، تحميه من ضربات القبقاب الخشبي.. ثارت غيرتي وصمّمت أن أدفع عنها المهانة، والألم، في لحظات صرت في بيت أم خالد، كان قلبي يجف وينفطر ألماً، ولسان حالي يقول: آن الأوان الذي ننتظره.
بأسى قلت:
- انهضي يا "سناء" لا بأس عليك، بشفقة ضممتها إليّ، تدلّى رأسها فوق كتفي، ودموعها تنهمر بغزارة، ونشيجها يتقطع بصمت.. سوّت شعرها المنتفش من جور اليد الظالمة عليه، وبصوت خافت، قلت لها:
- دافعي عن نفسك، اجهري بصوتك.
ثم التفتّ إلى أم خالد، التي وقفت مبهوتة من مجيئي المفاجئ، وعقدت الدهشة لسانها، كانت نظرتي إليها مزيجاً من اللوم، والكره قلت:
- "سناء" قد غدت شابّة، ولم تعد سهلة الانقياد، ولا تستحقّ هذا الضرب المهين.. اتقي الله يا خالة، إنها تحتاج إلى رعايتك وكلمتك الطيّبة تجبر كسر نفسها وإلى حنانك، ألا تعلمين أنّ امرأة دخلت النار بهرّة ظلمتها، فكيف إن ظلمت امرأة قادرة يتيمة محرومة كسناء؟.. مهما كان فعلها، فلا تستحقّ مثل هذا العقاب الأليم.
- "سناء" تكلمي، قولي شيئاً.
شرقت بدموعها، ثم قالت:
- عقابها لي بسبب اعتراضي على إحضار الماء من بئر الحارة، يمكن لأحد من إخوتي أن يقوم بهذا العمل.. خالد شاب يمكن الاعتماد عليه، و..
قاطعتها أم خالد، وهي تلوّح بيدها:
- مستحيل، هذا أمر مستحيل.
وبتساؤل ساخر، قالت:
- ولدي، يحضر الماء؟
قلت:
- إنها كائن بشري، يحق لها التعبير عن رأيها... ثم لا أظن خالداً يعترض.
بإصرار قالت:
- إذاً، لسنا بحاجة إليها... الأمر قد انتهى..
سألتها "سناء":
- ماذا تعنين يا خالة؟
- افهمي ما أقول.
- لقد فهمتُ، ولكن لا أريد مغادرة البيت.
برفق قلتُ:
- لم ينته الأمر يا خالة، يمكن إصلاحه، أليس كذلك؟
- بل انتهى، يمكنها أن تغادر البيت.
كانت "سناء" ترتجف من الألم، نظرت إليها بذهول، وقالت:
- لم تخبريني صراحة يوماً ما، بأنك ستبعدينني، ولكن تصرفاتك معي دائماً كانت تشي بذلك.
بدهشة قلتُ:
- أحقاً ما تقوله "سناء".. يا خالة؟
- ....
ارتجفت "سناء" وهي تواجه هذا المصير المحزن، وتلمسه حقيقة في وجه زوجة أبيها، إذ كانت جادّة في قرارها، وكانت "سناء" تعيش هذا الوعيد، ولا ترتاب فيه، وبمرارة قالت في نفسها:
- هل أخسر كل شيء في لحظة غضب، من هذا الزمن؟
تمالكت نفسها، وقالت باستسلام:
- سيكون الله في عوني... لن أضلّ أبداً، وسأعيش حياتي، يوماً بعد يوم.
كان إخوتها مجتمعين في الليوان، يراقبون الموقف بتأثر بالغ، وقتئذ، هربت ليلى إلى الغرفة، أخذت تضرب السرير بيديها، وتصرخ، لا نريد أن تتركنا "سناء"، لا نريد...
قالت لي "سناء" بصوت خافت:
- صدّقيني، يصعب عليّ فراق إخوتي.
قلت:
- هراء، هذا هراء،
- سأفتقدهم، يمكن أن أسامحها على كل شيء، وأتحمل الألم من أجلهم، لا أقدر على فراقهم أبداً.
حاولتُ أن أهدئ الموقف، فلم أفلح، ثم سمعتها تقول باستعطاف:
- هل تجبرينني حقاً على مغادرة المنزل؟
- أجل.
- ستبقى صلتي مع إخوتي، إن سمحت...
ثم نظرتْ إليّ تسألني:
- ماذا أفعل؟.. أشيري عليّ.
ضغطتُ على يدها، وقلتُ:
- أن تغادري، خير لك من البقاء في ذلّ، ومهانة.
- آه، إنني في حيرة، بين صوت الحرية، وأنا في العذاب، وأصوات إخوتي... الموقف صعب كما ترين.
- إني أحسّ بترددك.
بلا مبالاة قالت أمّ خالد:
- لملمي أشياءك، واخرجي.
- إلى أين؟
قلتُ بعصبية:
- كفي عن الجدال معها، لا جدوى من ذلك، أنا متأكدة أنك ستحصلين على ما تريدين من الحياة، وأنت بعيدة عن هذا المكان.
اتجهت إلى ركنها، خفق قلبها وهي تنظر إلى النافذة الأثيرة لديها... كم ناجت منها القمر، وسمرت مع النجمات، وسافرت مع الأحلام!!.. ألقت نظرة وداع تجلب إليها خدر النوم، والرؤى، لملمت ذكرياتها من الأشياء، كان من بينها منديل أمّها، يعبق بالذكرى، ضمّت إليه أجزاء من لحاء شجرة النارنج، نقشت عليها كلمات، وتصاوير... أشياء تنبض بالحياة، والوفاء... توقفت عيناها عند زجاجة المصباح، كانت تتشح بالسواد، كأنها ترتدي ثوب الحداد على فراقها.
غمرتها فرحة وحماسة، لم تخل من ضيق، وغادرت دون أن تودع إخوتها... لا تريد أن تبكي، فربما تلاقوا، ولكنها ستتحسر على الأيام التي ضمتها معهن، وعلى كل الأشياء التي تعلمتها، وترجو الله ألا تشعر بالندم.
أسندت رأسها إلى جدار في الحارة، سكنت كسكون الموت، خافت من المجهول.. قلت:
- لقد كنت ضائعة، مشوّشة الذهن.
- علمتني التجارب أن أتخذ قراري.
- أراك متعبة.
- أشعر بدوار، لا أستطيع أن أتحكم بالألم... آه: كم كان أبي مغفلاً حين طلّق أمي، وتركها ترحل!
كانت تنظر إلى موقع قدميها بذهول، تغوص في أعماق الصمت... فجأة فتح باب البيت، وأطل خالد، وبيد مرتجفة، وعينين قلقتين، قدّم لها تالة شجرة النارنج، وفي تهدج مؤثر، وكلمات مرتبكة بين شفتيه قال:
- أختي سناء، أحبك، والله أحبك.
كان خالد في تصالح مع نفسه، في لحظة ود، ونقاء فطري طوتهما الضغوط، وتراث من الخوف... انبهرت أنفاسها، فأوشكت على البكاء... وفي لهجة صافية، ندية، قالت له:
- وأنا يا أخي أحبّك، والله أحبكم جميعاً.
كان وقع الكلمة على نفسها عذباً، إنها المرة الأولى التي تسمع فيها كلمة أختي، من قلب سليم، لم تحفر فيه الأحقاد،لم تدر بعدها ماذا قال لها، وهي في قمة التأثر، ثم لا مست أذنها كلماته، يتباهى فيها برجولته، وهو يتحسس بأطراف أصابعه زغباً فوق شفته. وبصوت خشن، يثنيها عن الرحيل، بهدوء قالت:
- إنّك يا أخي تفكر بقلبك، وليس القلب حكيماً دائماً، ولكنّه بين الحين والآخر، يدفعك لأن تقول شيئاً رائعاً... الرجولة يا أخي ليست بالشارب المفتول، والصوت الخشن، والعضلات القوية، هذه ذكورة.
باستغراب سألها:
- وما الرجولة؟
- هي قيم، وأخلاق، وشهامة، واحترام للمرأة، وفضائل في تراث إسلامي بعيد عن الجاهلية... وصيتي لك أن تلازم دروس الشيخ عبد الله المجذوب في المسجد، تتعرف من خلالها على معنى الرجولة، كما جاءت في القرآن الكريم، وسيرة سيد المرسلين.
تراخت يدها من يده، جاشت عيناها بالدموع... ثم توقفنا نتحاور، أطرقت صامتة، تفكر في وسيلة تنقذها من الموقف الصعب، لكن الانفعال مازال يستولي عليها... رأت في الفراق شيئاً من معنى الموت... ردّدت كلمتين تحملان فيضاً من المشاعر: أختي، أخي وقالت: ما أعذب وقعهما في القلب، وهما تفيضان بصدق المحبة، في لحظة احتضار الوداع، ستبقيان زاداً في حياتي... كثيراً ما كنت أستجدي هاتين الكلمتين، وأستجدي معهما شيئاً من الحرية.
هززتها من كتفها، وكأني أوقظها من غيبوبة، قائلة:
- لا ترحلي بعيداً مع تصوّراتك... هيّا معي إلى بيتنا.
بحدة قالت:
- مستحيل، أنسيت الرجال في بيتكم، أباك، وإخوتك، وأعمامك.. لا أريد أن أعرض نفسي لعلاقات مرتبكة، تسيء إلى سمعتي.
- بلى، أنت محقة، وبلدتنا تتحكم فيها التقاليد، ونعوذ بالله من شر خالتك، وسوء ظنها.
هاجت في ذهني فكرة، فقلت:
- عند خديجة، بيت بلا رجل، نساء ثلاث فقط، خديجة، وأم مصطفى، وفاطمة... أسرة بلا مشكلات، حب، وئام، وأمان.
بسرعة قالت:
- موافقة.
- تمشينا قليلاً، قبل أن نصل إلى غايتنا، قلت:
- بيت خديجة لا يتعدى الغرفة الواحدة، مع فناء صغير.
- سبق أن شاهدته، مساحة صغيرة في زاوية الغرفة تكفيني.
كان ترحيب الأسرة حاراً، بشوشاً، كن يتوقعن مجيء "سناء" بين يوم، وآخر. كانت ألفاظ خديجة تقطر بالمحبة، وتقسم إنها وفاطمة ابنتها سواء بسواء، وتأخذ بيدها قائلة:
- يسرنا أنك جئت، انظري، لقد هيأنا لك المكان الملائم. وتمسح على رأسها، وتضمها بحنان، وهي تدرك مدى العلاقة التي كانت مع فاطمة، علاقة حميمية، مرت بطفولة واحدة.
بامتنان، قالت "سناء":
- لجوئي إليكن يشعرني بالأمان، والقوة، والثقة بنفسي.
سيكون كل شيء على أحسن ما يرام.
ثم بلهفة سألتها:
- كيف تقبلت أمر الطرد؟
- كما لو أنه فنجان سم.
- انسي كل شيء... لا بد من لملمة شتات حياتك، والتخلص من القلق، وستبقى الحقائق في طيات الكتمان، وأروقة الصمت.
تأوهت وهي تقول:
- لقد نلت نصيبي من المعاناة... كنت أبكي كطفلة، كانت جلفة جافية، بعيدة عن الإنسانية في تعاملها معي، صبرت كثيراً، أما الآن فأنا في وعي، ولم أعد مغلقة على نفسي.
- أمثالك كثيرون يا ابنتي، إن ما تفعله زوجة أبيك ليس عيباً خاصاً بها، إنها عيوب اجتماعية عامة تقريباً، والهموم تؤرق الكثير من البائسين، والبائسات.
- حدثتني المعلمة هيفاء بذلك، وكلما اندفعت في التفكير بالبائسات أراني أفكر في مساعدة من كانت مشكلتهم كمشكلتي.
- هكذا هيفاء، تبحث عنهن، بتوجيه من أبيها، لتخفف عنهن.
كانت عيناي تجولان بينهما، ثم نظرت إلى "سناء" بجزل قائلة:
- أعتقد أن اللون قد عاد إلى وجهك، بعد أن زال منك الدوار.
- أجل..
كانت الأيام تمضي في هدوء، مع الأسرة الصغيرة، و"سناء" تشعر باطمئنان.. قالت لخديجة:
- تصوري يا خالة مدى امتناني لك، إنك طيبة جداً.
- فضفضي عما في نفسك.
- سأخبرك بأمنيتي... أريد أن أعمل، وأكسب، كي لا أكون عالة عليكن... لقد طويت صفحة الماضي، وأرى أن العمل والنشاط يعطيان حياتي معناها، ويؤكدان الإيمان الصحيح في بيتك الصغير، ستنفتح أمامي الآفاق المغلقة، التي أتطلع إلى تحقيقها منذ زمن بعيد.
برفق قالت لها:
- أنت هنا بمأمن، وستجدين الرعاية والتشجيع.
كانت أم مصطفى عجوزاً حكيمة، تراقب وتسمع الحوار، بوقار قالت لسناء:
- إنّ التجارب تعلّم الإنسان شيئاً مهماً، فحواه أنّ في العالم لغة يفهمها الجميع، استخدمها الإنسان لتطوير حياته، وهي لغة الحماسة، ولغة العمل الذي يؤديه بشغف واندفاع، لتحقيق نتيجة يتمنى بلوغها، أو نتيجة يؤمن بها.
تساءلت "سناء":
- هل كلّ من يعرف حلمه، يسعى لتحقيقه يا ترى؟
* * *
كان الشتاء قد جرّح كفيّ أم مصطفى، صار ملمسها كعيدان القش الخشنة، الحقول في الصيف تحتضن الحصّادين رجالاً ونساء، يحنون رؤوس السنابل، فتستسلم للمناجل الحادّة، كانت "سناء" تنظر إليها بشفقة، ورأفة عجوز تحمل السنين العميقة على كاهلها وفي صدرها تجارب جرحى، ومواسم الحصاد تدور، والمناجل فوق أكتاف النساء كالرجال، وجفونهن مقرّحات بغير دموع، يمسحن الغبار الكثيف عن وجوههنّ بعرق الحياة، يسيل من جباههنّ كاللآلئ، يهيّجه شعاع الشمس، بمرارة تساءلت:
- أهذه هي الحياة، أم هو بؤس الحياة؟
يزدن الغنيّ غنىً من معاناتهن، ونصيب أسرهنّ من فضلات الحقول، وحفنات من الليرات.
بلهفة اقتربت من خديجة قائلة:
- أريد الحقيقة عارية، حدثيني بها.
بلطف أجابتها:
- لا ترهقي ذهنك بكثرة التفكير.
- أحاول أن أتصوّر.. ولكن لا أتصوّر شيئاً.
كانت الرغبة تلحّ عليها، وتدفعها لمعرفة شيء عن حياة هذه الأسرة، نساء بلا رجل.. بهدوء أخذت خديجة تحدّثها عن ماض أصبح ذكرى:
كان "صدّيق" والد فاطمة من الجنود المغاربة، المرتزقة في الجيش الفرنسي زمن الاستعمار، عزّ عليه أن يحارب أهل ملّته، فكان مع الذين ينسلّون ليلاً من الثكنة العسكرية إلى البلدة، ليعلموا المسلمين بأخبار العدو، وخططهم، حتى إذا أوشك أمرهم على الانكشاف، انضمّ "صدّيق" مع إخوانه إلى المجاهدين، وشاء القدر أن يستقر بالزواج مني ثم لتتم الأسرة بفاطمة.
قطع حديثها غصّة، ثم قالت:
- لم تطل حياته معنا، فقد توفاه الله.. هذه حكايتنا.
- وبعد ذلك؟
- اضطررنا أنا وأمي للعمل، لنربي فاطمة، ولشراء هذا البيت.
كان صوت ابنة فاطمة يمزّق سكون الغرفة، ويحلّق في فضاء البيت، تنادي أمها بصوت متلهّف، وقد اقترب موعد مجيء فاطمة لتأخذ الصغيرة معها إلى منزلها.
قالت "سناء" بأسف:
- الحياة لا تخلو من المتاعب، نقهرها بالأحلام، فالحلم جنين الواقع، وثورة على المعاناة، نسعى به للوصول إلى غايتنا.
سرحت بخيالها بعيداً، سألتها خديجة:
- بم تفكرين؟
- بالعمل، كيف يمكنني أن أتدبر الأمر؟
التزمت خديجة الصمت، ثم قالت:
- أنت محقّة، العمل سيمنحك لمحة جميلة في حياتك، فيه كسب، وتغيير في نفسك.
- إنه أفضل من تضييع الوقت، ككثير من النساء، بالثرثرة مع النارجيلة، وفنجان القهوة، وأسخر حين أرى البعض ينفقن أموالهن على المظاهر الخادعة، يستجدين الجمال، فالجمال يشع من داخل النفوس.
سألتها خديجة:
- أي نوع من العمل تهوين؟
- لديّ هواية في خياطة الثياب، تحتاج فقط إلى أدوات بسيطة، ووقت فراغ، وصبر وإتقان.
ثم بابتسامة أردفت:
- بحيث لا تثنيني عن تغيير مساري، عن الخط الذي نهجته لحياتي، ففي ذهني أحلام أسعى لتحقيقها.
- سيكون لك ما تريدين.
ازدادت ثقة "سناء" بنفسها عن طريق العمل، وجعلها ترتبط وتتواصل مع البيئة، وتتكيّف معها، وتتعرف على الكثيرات من النساء ولم تعد تحسّ بالغربة والعزلة، أمور أشعرتها بالجذل وهي في بيت خديجة.
كانت المعلمة هيفاء تزورها بين الحين والآخر، تراقب حالها عن كثب، سألتها في إحدى المرات:
- بم تحسّين وأنت مع ماكينة الخياطة؟
بثقة أجابتها:
- فيها منفعة، وهي وسيلة اتصال مع الآخر، وتشعرني بإنسانيي.
تأملتها هيفاء وقالت:
- لقد ورثت الكثير من صفات أمك.. كانت متميزة بذكائها وإقبالها على العلم، وعلى التعرف على البيئة المحيطة بها.. هذه صفات تجعل الإنسان قادراً على تطوير نفسه.. ألا تزالين تقبلين على القراءة، أم شغلك العمل؟
- العمل وسيلة، كما أشغل وقت فراغي بالقراءة.. على فكرة، أقرأ في هذه الأيام لنازك الملائكة، في مجلة الآداب التي قدّمتها لي، وأنا معجبة بشعرها.
- ما سبب الإعجاب؟
- شعرها يختلف عن شعر الآخرين، فيه تفجّع على الوطن، وينبض بالألم والقلق، والمغامرة وكونها امرأة شاعرة بين الرجال. ثم علا وجهها الحبور، وهي تقول:
- وأنا مثلها أعشق الليل والقمر.
- أمك كانت أيضاً تقول الشعر، وتطلع والدي عليه.
- أخبرتني خديجة بهذا، وبأنها كانت تلحّنه، وتنشده بصوتها الجميل.
قبل أن تنصرف سألتها:
- أراك تهتمين بزيّك ومظهرك، وهذا شيء حسن.
- مظهر الإنسان وجوهره عنصران متمّمان لشخصيته وتقوية صلتك بهم.
ابتسمت وهي تقول:
- ويبقى اتصالي بنساء المسجد الأقوى.. القسوة والحرمان دفعاني للارتقاء نحو عالم القسوة والحرمان، وأيضاً الشعور بالغربة في بلدتي.. أودّ أن تشركيني بنشاط اجتماعي.
- بكل سرور، سيكون لك يوم لمساعدة المحتاجين.. هل لديك الاستعداد للتواصل مع الأختين الكفيفتين، بدرية وحليمة؟.. إنه عمل إنساني تؤجرين عليه.
- موافقة.. ولديّ أيضاً رغبة تراودني منذ حفظت كتاب الله في تعليم الأطفال التلاوة كالشيخة بدرية رحمها الله.
أين المكان؟
قام خيال "سناء" بملء الفراغات، وظلّت الفكرة تغزو تفكيرها فثمّة شعور فطريّ يربطها مع الأطفال، وتتساءل: هل الواقع يئد حلمها؟
قالت هيفاء:
- لا تفكّري كثيراً، سأدبّر الأمر قريباً.
بعد انصرافها، سرحت قليلاً، والبشاشة تغمر وجهها، سألتها خديجة:
- هل بك شيء؟
- أفكر بمعاملة الناس لي بطيبة شديدة، كانت أمنيتي أن يكون لي مكانتي بينهم، حين كنت أبحث عن مغزى حياتي، في الماضي والحاضر.. لقد شاء القدر أن تقدم لي هيفاء وأختها، بدراية أو دون أن تدريا دوراً هاماً في إنقاذي من الظلم، ثم تنهدت وهي تقول:
- الحياة من غير حب جافة، كأرض قاحلة، لا ماء فيها، ولا مطر، ولا نداوة.
- الفضل يعود إلى والدهما، الذي يوجههما نحو ذلك، ويبالغ في تصوير دورهما.. كنا نخشى عليك دائماً، فما كنت تخرجين من حفرة إلا لتقعي في حفرة أخرى.
- هل صحيح أن هيفاء ستتزوج، وترحل عن البلدة؟
- اسأليها غداً.
في الغد سألتها، فأجابتها:
- ما رأيك يا "سناء" لو وجّهت إليك نفس السؤال؟
- موافقة ولكن..
- ماذا؟
- يصعب عليّ رحيلك، الفراق مرّ.. متى سيتم الزواج؟
- بعد شهرين تقريباً.
اختلطت الفرحة مع الحزن، تهدّج صوتها، وهي تلقي برأسها بين كفيها، قائلة:
- رحيلك سيذكّرني برحيل أمي.
- دعي التفكير بما لا يجدي، وتابعي التقدم في تغيير حياتك، ولا تيأسي.
ثم لوّحت بيدها:
- سأراك لاحقاً.
في الليل كانت "سناء" تتأمل صفحة السماء كبحيرة زرقاء، يتلألأ فيها القمر والنجوم، أحسّت بالرهبة، وتداعت التساؤلات في ذهنها:
أيّ إدراك لعظمة الخالق الذي أبدع هذا الكون؟!
أين نحن منه؟
لماذا لا تسقط النجوم على رؤوسنا؟
ظلّت نفسها في حيرة، خلفتها حيرة ثم تساءلت:
إلى متى وأنا أرتاد الفضاء بخيالي وتفكيري؟
ثم فتّق الأمل نفسها بأمنيات ووعود، أخذت تقتفي آثارها في جوف الليل، وتطير بأجنحة، في آفاق بعيدة المدى.. تحاول أن تبعد الأرق، ولكنه كان عصياً، ثم غفت وفي صدرها حلم يجول.. نهضت في الصباح على طموحات، اقتربت منها، وعدها بها الخيال.. استهزأت حين تذكرت ناطحات السراب التي بناها الليل، ثم يأتي النهار ليمحو ما بناه.
أعطاها العمل المال الكافي، وعرّفها على رؤية القسوة المؤلمة، وجدت أن قسوة الحياة لم تكن من نصيبها وحدها، أصابت الكثيرين، ولكن رأت أن الفقر في معظمه كان من نصيب المرأة، وقد تتعرض للموت بسبب تردّي الرعاية الصحية، وانخفاض المستوى الاقتصادي.
آمنة التي تعرفت عليها، كانت ظاهرة للفقر، متكررة، كان هيكل جسدها يوحي بالجوع والحرمان، جعلت منها شأناً محزناً، تتقرح منه الجنون، وترنو إلى ثغرة فرج تبلل الشفاه الظمأى، وتملأ البطون الخاوية، وبقي الأمل يراود الجميع بمستقبل يحمل البشرى، بعد رحيل المستعمر الذي أهلك الحرث، والنسل، وبقيت آمنة ومثيلاتها أمانة في صدور الغيورين على أعراض الأرامل، يأملون في نهضة، تقهر الذعر، والفقر بعد أن أصبح الموت زائراً يومياً للبائسين.
بمنتهى الأسى قالت خديجة:
- بالأمس، قضى السلّ على جارتنا أم عبده.
باستغراب قالت:
- منذ أيام شاهدتها تغزل الصوف بالمغزل، وحولها صغارها.
- كانت تعمل لتعيلهم، بعد استشهاد زوجها.
- وماذا يفعل البكوات، والأغوات بأموالهم؟
- يشيدون القصور، والحدائق خارج الأحياء القديمة.
- الألم ينغرس في صدور المتألمين، ويركن إليها.
صار للبيئة امتدادها النفسي لدى "سناء" وفي ضميرها، ووجدانها، حتى صارت كهفها تجول فيه مع هيفاء، وبدونها هي غصن ذابل فصل عن أصله.
قد تسأل "سناء" الغادين، والرائحين عن أمها، عسى أن تلتقط خبراً، أو إشارة تسرّها، ولكن الكلمات تبقى متعثرة في معانيها.. وقد يلحّ عليها خاطر مجنون في سفر، وبحث في الدروب، تهتف باسمها، ثم يرتد الخاطر مخذولاً.
في أحد أيام الصيف، والمناخ يغري بالتنزه، انطلقت "سناء" إلى الشاطئ، كان أولاد يعلّقون فتات الخبز بطرف السنارة، ويلقونها في فجوة بين الصخور، يرصدون حركات السمك المغفّل وهو يدور حول الطعم بنظرات متردّدة، يبدو في حالة جوع شديد.. ما إن اقتربت سمكة تنهش الخبز حتى التقطتها السنارة، أخذت تضطرب، وتحاول الفرار، وأنّى لها ذلك، فالخيط بيد الولد يجرّها إليه.
كانت "سناء" تراقبهم، فالبحر عندها وسيلة للمتعة، والتأمّل، وعنده تقوم برحلة غامضة عبر السنين، تراه يلغي المسافات والأزمنة، وتبحث عن هدف، ومستقر فتتساءل:
- أهو العمر ينفرط فيه الوقت، وتسقط حباته كهشيم الرمال، وتوحش الأمكنة؟
كان الرمل يوشك أن يحترق من الشعاع، والطيور تهرب باحثة عن فضاء جديد، فتتساءل:
أين تفرّ الوجوه، والقلوب الحزينة وهي تراجع أحزانها؟
هل كانت أمي طيراً شارداً ممعنة في الهرب إلى مستقرّ جديد؟
آن لها أن تستريح من العذاب الذي كان يطاردها.
هل أنا امتداد لهمومها في الغربة؟
أتراني سأبقى واقفة في درب الانتظار؟
إني أتهشم أمام هبوب أفكاري، وأتساءل: إلى متى..؟
بدأ الصيادون يلملمون عند الأصيل ما تناثر من الوقت والصيد، ألقت نظرة وداع، وهي تقول:
إنها الحياة متماوجة، متشابكة، ليت الفرح يعود للعيون والقلوب باللقاء!
قبل الانطلاق سمعت هيفاء تقول:
- جلسة لطيفة يا "سناء" أرجو ألا أعيقك عن التفكير البهيج فيما حولك.
- إنّ الطبيعة جزء من كياني، أجري إليها كلما سنحت الفرصة.
- رغم الراحة، والاطمئنان عند خديجة، لم تفلتي من قبضة التفكير المضني بأمك، أليس كذلك؟
- أجل، وينبعث فيه خيالها، وفراقها يبقى هاجساً أليماً، يهزّ وجداني، وتكرّ الذكريات نشطة بين المشاهد.
- حدثيني ببعضها.
- راودتني ذكريات الطفولة وأنا أجري خلف بنت فاطمة، تذكرت أحاسيسي ومشاعري القديمة، وأنا في حجر أمي، تمرّر أصابعها خلال شعري، وتحكي لي حكاية جميلة، وتذكرت الألم الذي كان يستحوذ عليّ حين تبتعد عني، وكلما نظرت إلى طفل، استولت عليّ أحاسيس الدهشة، والعفوية.. أحملق في براءته، يلاحق فراشة ملوّنة، أو نحلة تطير فوق الأزهار.
- لمّ الله شملك بأمك قريباً.. أنصحك أن تحرصي على أن تكوني واقعية في حياتك، وأن تغوصي في تضاريس الواقع بصبر، لتنسي متاعبك النفسية.
- الفراق شبح يطاردني بلا نهاية، حتى صرت أتمنى أن يضرب الجفاف قلبي.
- هكذا سيرة الحياة، اتصال وانفصال.
كانت الشمس توشك على المغيب، عندما اتجهتا نحو الحيّ، و"سناء" هادئة لا تخشى تأنيباً أو ضرباً يصبّ عليها صباً، سألتها هيفاء:
- هل شاهدت بدرية، وحليمة؟
- رأيت بدرية تتجه نحو البئر، تحمل صفيحة الماء، كانت حافية القدمين، تسحب ذيل ثوبها وراءها، كالريح تسحب التراب، ثم تتحسس الحبل بكفين متشققتين، جذبته لها، وأعنتها على حمل الصفيحة، كما تفقدت حليمة في البيت، واشتريت حاجياتهما.
- بارك الله لك، إنه عمل تؤجرين عليه.. لديّ نبأ مفرح.
- ما هو؟
- هيأت لك مجموعة من الأطفال، برضى أمهاتهم، والمكان في المسجد.
أشرق وجه "سناء" ورقصت الفرحة في عينيها، وتعلّقت الدموع بأهدابها، كانت هيفاء تتفحّص ردّ الفعل لديها، قالت:
- لاشك الفرحة ستغمر كل طفل يكون معك.. ابتسمي، فها هي بعض أحلامك تتحقق.. الدعوة إلى الله أشرف مهنة يقوم بها المسلم، لأنها رسالة الأنبياء، وستكونين صديقة، وأختاً لكل طفل تعلّمينه، وإن كنت لم تعرفيه من قبل، وستستقيم لغتك العربية، اللغة لسان القلب، وما فيك يظهر على فيك، درّبي نفسك على الصبر معهم، وضبط النفس، وابدئي عملك ببشر وأمل وتفاؤل، ولا تغضبي إن بدا من أحدهم تصرّف طفولي.
كانت ابنة فاطمة تملأ البيت صراخاً وضجيجاً وأمها في حيرة من أمرها، وفي توتّر أخذت تضربها، اقتربت منها "سناء" قائلة بلطف:
- آسفة إن تدخلت بنصحي، لا تستخدمي الضرب مع الطفلة كوسيلة للعقاب، والتأديب، فهذا يؤدي إلى زرع الخوف في داخلها، وبالتالي قد تفشل عندما تكبر في مواجهة أية مشكلة.
قالت وهي تضمّ الصغيرة إلى صدرها وتقبلها، قبلات اعتذار بمحبة:
- إن ضغط العمل في المدرسة يجعلني غير قادرة على تحمّل المزيد.
أمضت "سناء" أياماً عدة في العمل، أحسّت بالإرهاق، ورأت أنه لم يعد في مقدورها أن تفعل شيئاً، آثرت أن تقضي وقتاً في التمشي، وجدت نفسها تنطلق في خارج الأحياء القديمة، حيث البيوت الحديثة، متناثرة فوق الجبال والسفوح والسهول، تحيط بها الحدائق.. كانت النسمات ترفّ برقة، وعذوبة تدعوها إلى التوغّل أكثر فأكثر وفجأة أحسّت بحركة وراءها، استدارت مسرعة وهي تضع يدها على صدرها من الخوف وهنا رأتنا نقول لها في هدوء:
- مصادفة أن نلتقي هنا.
- إنها المرة الأولى، أتمشّى في هذا الطريق.. مجرد تغيير للمكان
جليسنا على سفح هضبة فوق العشب نستمتع بالهدوء، ومنظر أنوار الشمس تتسلل رويداً رويداً، نحو الأفق الغربيّ، كان الجو لطيفاً يستدعي خروج الشباب، والشابات والاستمتاع بالتنزّه، عند اقترابهم منا، كنّا نسمع أحاديثهم، ونبتسم ونحن نراقبهم، وكأنهم قد أتوا من عالم غير عالمنا، يتحدثون بلغة غير لغتنا، باستنكار قلت:
- نرى الحرية المطلقة في هذا الحيّ من كل شيء، ومن كل قيد، فالمرأة بسفورها ترمقها العيون، والبعض يبتعد، ويغيب خلال الشجر.
أجابت هيفاء:
- الفرنسية انتشرت في المجتمع، بوجود الاستعمار، واستمرّت بعد رحيله، وهي بزعمهم لغة جميلة، جميلة جداً، وكأنّ اللغة العربية صارت عادة، يتعامل معها المرفّهون بعداء شديد، ففي ذلك الزمن، أصبحوا مطالبين بابتلاع ألسنتهم، والإقبال على الفرنسية ورغم رحيله، فلم نزل نعاني من وطأة الإرث الاستعماري، ومن الشرخ اللغوي، واللساني الذي غرسه فينا عن عمد.
ثم أردفت:
- لقد كان تجهيل شعبنا أهم أهدافه.
باستغراب سألت:
- ما هدفهم من وراء ذلك؟
يعتقد الكثيرون أن فرنسا المستعمرة، كانت تعمل على طمس العربية، وفي ظنهم أنهم بتحطيمها، يخفّ إقبال المسلمين على قرآنهم، وبالتالي يقضى على الإسلام.
كنّا نلقي سمعنا إلى هؤلاء، وهم يلوكون الفرنسية بتباه، بضيق قالت هيفاء:
- إنّ الفرنسية تزاحم لغتنا العربية، وتجرح كبرياء تاريخنا، والناس سكارى في الجديد، وفي غفوة عن القديم.. ليت لتاريخنا مرايا تعكس أضواء الحضارة الإسلامية، وتوقظ المغفّلين.
صمتت برهة، ثم أردفت:
- نحمد الله أن الكثيرين في صحوة، يردّون الشاردين إلى حظيرة العروبة.
قلت:
- لا يزال ركام المستعمر يمتدّ في المدارس، والدروب يمحو تقاليد ويرسخ أخرى.
- أجل، لقد فرض علينا أشياء جديدة باسم الحضارة، وأخذنا بها، حتى تجاوزنا فيها الحدود، إذ لم نقتصر على ما هو ضروريّ، مفيد، لا غنى لنا عنه في العلم، فذهبنا إلى أمور أخرى، تتصل بعيشنا، وسلوكنا أمور تحمل الضيم على تراثنا الإسلاميّ.. باسم الحضارة جاءوا يحملون شعارات مغرية، يخفون وراءها نواياهم السيئة.
ثم استطردت:
- اللغة العربية تتعلق بذاتنا، وتعبّر عن عمق انتمائنا، وعمق هويتنا، وعن أفكارنا ورغباتنا وعواطفنا، لا يمكن أن تغني عنها أيّ لغة أخرى، وهي مستودع تاريخ أمتنا وثقافتنا.. لقد عانت أمتنا من المستعمر الأمرّين، ومزّقتها شرّ ممزّق، واستهدفت تاريخها في الماضي والحاضر، وجغرافيتها وثرواتها ودينها الذي يدعو إلى الوحدة والتسامح والعدل.
قلت:
- العربيّ المسلم، يرفض الاستعباد، ولا ننسى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)؟
- إذاً نحن مدعوون للصحوة أكثر من ذي قبل، والأخذ بأسباب القوة، وهذا أمر ربّاني، فالصحوة تجمع ما مزّقه المستعمر، ولا تفرّق، والماضي يحرّك الطاقة الكامنة في أمتنا.
باستغراب، سألت:
- لماذا نسحق ثقافتنا، ونلحق بالغرب؟.. ألم يكن تدخّله في شئوننا تطفلاً وإذلالاً لنا؟.. إن كان قد ولّى مدحوراً، فظلاله بقيت تخيّم علينا.
وجمت "سناء" ثم قالت:
- أمرهم يحار منه العقل، وكأنه ضرب من الخيال.
بلهفة قالت هيفاء:
- عندنا أنباء مدهشة للغاية.
- ما هي؟
- إنّ الغيورين المخلصين يجهدون أنفسهم لتبقى العربيّة هي الأصيلة، عملوا على وضع خطة محكمة، طويلة النفس، بعيدة المدى، ذكيّة المنهج، للحفاظ على الهوية العربية، ونضارتها، وهم يبثّون الوعي لدى الشباب، ويكشفون عهن المؤامرات المدبّرة لتنسف العربية.
أغمضت عينيّ وطفت مع الأحلام كالغيمة التي تحمل الأمطار، وكالريح تحمل حمائم السلام، سيأتي الزمان متجدّداً بأجيال زغب، سيكبرون ويحملون القناديل، ويصحو النائمون وستجري بنا الأحلام في جداول رقراقة، ويسحّ المطر على نغمات إيقاع الريح، ستغدو أوديتنا وحقولنا مخضّلة مزهوّة.
- أنت متفائلة جداً.
- وأقوى من التفاؤل والأمل، بالمحبّة والتعاون، نكون يداً واحدة.
ابتسمت "سناء" وهي تقول:
- هيّا بنا نعد إلى حارتنا.
الخندق الأثري يحيط بالأحياء القديمة والقلاع، يلملم حكايات التاريخ، وعبق بطولة المسلمين الفاتحين، ومسجد بلدتنا لا يزال شامخاً بمئذنته الباسقة، يتحدّى كل ارتفاع، ولا يزال الزمن ساهراً، يترقب خنادق وقلاعاً جديدة، ومساجد ومآذن، ترتفع نداء التوحيد، ستبقى شمس العروبة والإسلام ساطعة، مشرقة وستظل الأجيال تبني من بقايا تاريخنا تاريخاً آخر متوهجاً.
نهضنا، ونحن بشوق إلى بلدتنا القديمة، فقد ضقنا ذرعاً من رطانة الألسنة، ومن النساء الكاسيات العاريات، يلفقن التهم على الإسلام، وينسبن إليه انحسار حريّة المرأة.
عندما اقتربنا منها، شممنا عبير الياسمين، والفلّ وأنواع الورود وكأنها تتسرّب إلينا لأول مرة، وتجوّلنا بين مساكنها، كانت جنّات ململمة على الرياحين والأزاهير، تعتني بها الأمهات في أصص فخارية، متناثرة، في أفنية البيوت، وعلى حواشي السلالم الحجرية، وأطراف النوافذ وفوق الأسطح فإذا زارتها الريح النديّة برطوبة البحر، سالت معها سكباً من العطور، ونشرتها في الأجواء، تنتشي لها القلوب.
سهرت "سناء" والليل، تستعيد ذكرى النهار، تسري في الكون تجول في الظلام، وتسافر في رحلة بعيدة.. ثم يجري وراءها الفجر، تتنسّم من أنسامه، وأندائه المشعشعة بعطر الزهور، يلمس روحها بلطف، ويهمس في قلبها برقّة، فتّق لديها مشاعر الشوق والحنين لرؤية إخوتها.. بينها وبينهم حبّ تحسّ به، تأوّهت وهي تقول: لو تركت لي زوجة أبي الفرصة، لكان بوسعي أن أحبّها.
كان الفجر يلقي شباك أنواره عليها، همست:
لِمَ تجري وراءنا يا فجر؟
دعني والليل نسري، في طمأنينة، وأنس إلى من أحبّ.
تساءلت:
- بالرغم من تخلّصي من الأحداث المؤلمة الكثيرة، إلا أنّ تداعيات الشوق والحنين ملازمة لي، تفقدني الشعور بالسكينة أحياناً.
يتبع إن شاء الله..
* أديبة سورية تعيش في المنفى