مدائن التيه
3
ذ. حسن الرموتي – المغرب
الرؤية الخامسة
ذ حسن الرموتي - المغرب -
و أنا امتداد الحلم و الموت المؤجل
كلما نبتت بقلبي وردة
أحسست أن جراحه تزداد شبرا
عبد الله راجع
في هذه المدينة ، و هذا الزمن الرخو ، يذوب الصمت و يتراخى الجسد ، يكثر الهمس لم يعد أحد يجهر بالحقيقة ، الخوف أصبح يسكننا ، يستوطن عيوننا ، أحلامنا ، حكايتنا ، و كل شيء فينا ، كأن بيننا و بين هذه المدينة حرب ضروس ، و من في النهاية سينتصر على الآخر ، أو من سيصلب على حافة الانتظار؟ ، و يعترف بالهزيمة ثم تنسكب الدموع شلالا من المآقي ، تنتشر كما تتموج مياه البحيرات الراكدة بحجر طائش ، في هذه المدينة الخائبة وجدنا ، كم هي مرّة هذه الخيبة عندما تتحول إلى سلوك يومي نعيشه ، القبح أصبح جزءا منا ، و السنوات العجاف تستهلك ما تبقى من أيامنا ، لكن من يعترف بهذه الحقيقة الآن ، لا احد ، الجراد الملون القادم من وراء البحار و حده يعرف الحقيقة ، حقيقته هو ، أما حقيقتنا نحن فقد انصرفت عنا منذ عقود ، كأن ذاكرتنا غدت مشلولة ، أين ستمضي بنا هذه الذاكرة المثقوبة مثل غربال قديم ؟ و أين تمضي بنا سفن الهم هاته و إلى أين تأخذنا ؟ و الربان نفسه لا يستقر على ساحل ، من مرفأ إلى آخر ، و كلما بدت له اليابسة حملته رياح التيه قسرا ، من يقترب من الآخر و من يبتعد ؟ كلما اقتربنا من البر بدا لنا بعيدا ، كل الأشياء الجميلة في هذه المدينة تنأى ، وحده الخريف يعشقنا و يظل و فيا لنا .هل تستطيع أن تمتشق سيفا و تخرج للناس لتقوّم هذا الزمن الداعر كما فعل أبو ذر الغفاري ، أم تدع نفسك تغرق في بحر التفاهات و تسير وراء الأوهام و تتيه كما تاهت أحلام الكثيرين في لجة هذا اليم الذي لم يغير مكانه ، وهذا الزمان الذي استباحنا ، استباح كل شيء فينا .
ملعون هذا الزمان الذي لم يعد فقط صداه يتردد في دواخلنا بل أعطانا ظهره ، من يعيد لك هذا الزمان ؟، من يبدأ الرحلة ؟ رحلة البحث عنك ، عن ماضيك ، عن تاريخك المدفون بين المخطوطات ، في الكتب... بالأمس القريب و أنا أساعد صديقا لي في ترتيب مكتبة أبيه العتيقة ، و كان أبوه فقيها و عالما، توفي منذ سنوات ، وقعت يدي على مخطوط نادر ، لم يكن لصديقي علما به ، كم كان اندهاشنا كبيرا ، مخطوط قديم و بخط مغربي جميل ، نسينا ترتيب المكتبة لنفك لغز هذا المخطوط رغم أن بعض كلماته غير واضحة ، لكن دهشتنا ستزداد حين اكتشفنا أن المخطوط يتحدث عن هذه المدينة ... فكان لا بد لي أن أنقل لكم منه ما يلي : <<الحمد لله وحده وكفى و الصلاة و السلام على رسوله الذي اصطفى ، أما بعد ، أحمد الله رافع السماء كما نراها، والذي دحا الأرض ثم سواها ، و ألهم الناس مبتغاها، أحمده على نعمته ، شاكرا منته ، و استغفره عن سهو وقع مني ، و زلل بدر عني .
فأنا العبد الضعيف الفقير إلى الله ، جعلت هذا الكتاب واضح العبارة وافي الإشارة لهذه الحاضرة ، ناشدا الإيجاز لأن الإطالة تفضي إلى الملالة وبعد :
فقد ذكر السلف الصالح أن هذه البقعة أرض مباركة ، خصها الله بالإعتدال في المشتى و الخريف و الربيع و المصيف ، و رزقها يأتي من بعيد ، وفناؤها يوم جمعة أو عيد ، وغازيها يقضي بالحديد ، وطالب القرب منها في الرغد السعيد .......... و هذا الثغر جمع محاسن من الندى و الجود،. و الوفاء بالعهود ، و أهلها خبروا لطف الجوار مع أهل الذمة و الكفار ، يرحبون بالأضياف و يقنعون بالكفاف .......وهذه المدينة أحاطها السلطان بالأسوار حصنا لها من القراصنة و الثوار ، تغلق أبوابها بعد صلاة العشاء ، يحرسها فتية أشداء ، لهم ألأرزاق جارية من قبل السلطان مولانا الشريف ، الغني عن التعريف ........ وذكر سلفنا الصالح أن هذه الحاضرة لها من المحن ما تبتلى به، ومن صروف الدهر ما تمتحن عليه ، لكن العزيز القهار يعصمها من الهم ، و يقيها من الغم ، فهي ملاذ لعباده الصالحين ، و ملجأ المؤمنين الخاشعين . ................ وقال صاحب كتاب إيقاظ السريرة أن من أحسن طبائع أهلها المأثورة و أخلاقهم المشهورة أنهم من أهل التوحيد ، و المعاملة الطيبة ، و الليونة و اللطافة و كامل المروءة و الأنافة ، فلا خصومة و المنازعة ولا مدافعة و لا مرافعة معتزين بالقناعة و إن قلت البضاعة ، يلبسون ما ألفوا و يتعيشون بما احترفوا لا يجمعون ولا يدخرون و على ربهم يتوكلون .... انتهى كلام صاحب ايقاظ السريرة ...
و ذكر سلفنا الصالح من أهل الرؤيا و البصيرة أنه سيأتي يوم – و الله أعلم به و هو علام الغيوب – يقهر فيه الناس ، و يشيع القبح و الفساد في القمة و الأساس و يكثر التهافت على الإعمار، و يستوي في المنزلة الأخيار و الأشرار ، وتقل الحرف و الصنائع و يغالي التجار في سعر البضائع ........ و يتولى شأن رعية هذه البقعة الأغراب ،من النصارى و الأعراب ؛ فيفسد حالها ، و يقل رزقها ، و يستكين إلى أنفسهم أهلها ،....... و تضل حالها و على ما هي عليه ، حتى يبعث الله من يوكل أمرها إليه ، ويصلح من شأن هذه البقعة ، و يجعل حاضرها خيرا ، وغدها فخرا ، ..... فاللهمّ أعنْ أهلها على أمورهم ، و صنهم من كيد الغزاة و شرورهم ......
و قد فرغت من هذا الكتاب في ليلة القدر المباركة من شهر رمضان، و أحمد الله رب العالمين ، وعلى من اتبع الهدى من الخلق أجمعين ، وعلى آل محمد و صحبه و التابعين ، و العاقبة للمتقين ....>> هذا مقتطف لما جاء في المخطوط ، حاولت معرفة صاحب المخطوطة لكني لم أفلح ، ولا سنة كتابته ، فالصفحة الأخيرة كانت الأرضة قد أتت عليها .
وأنت الآن ما تقول ، ما نبوءتك عن هذه المدينة ؟، أي مستقبل ينتظرها ، متى تكتب تاريخها ثم متى يتحقق هذه النبوءة. ؟ لا تستطيع الإجابة مادمت عاجزا ومادامت خناجر البرابرة الجدد تنغرس في القلب ، كم ذات تمتلك الآن ؟ أي ذات على قادرة
تحمل هذا الحزن ؟ و أي ذات تنشد الفرح و الأمل ، أي ذات عليها أن ترقص عارية تحت المطر لتصل لهذه الحقيقة ؟ لهذا الحلم . ففي ظل هذه المدينة القاسية حتى على نفسها لم يعد للقيم مكان ، فقط الفظاظة و الفقر و القبح ... هو الرائج ...يا للهول ... لو كنت وحدي لتخليت عن كل شيء عن كل ما يربطني بهذه المدينة ، و تمنيت من أعماقي لو أصبحت يبابا و خرابا ، و انتهى
كل شيء ، وهذه الريح التي تصاحبك أينما وليت وجهك ، أتساءل مرات عديدة ، كيف اختار الناس هذه البقعة وسكنوها ، أصبحت بيتا لهم ، ثم تناسلوا و جعلوا لهم ذرية ، أرض الله واسعة ، لماذا لم يختاروا مكانا آخر، لكن مرات أخرى و بنوع من اليقين تقول في هذا الاختيار حكمة لا تعلمها . وعليك أن ترضى بالواقع و تناضل من أجل تغييره ..
يتبع.... تحياتي