مدائن التيه 2
مدائن التيه
الرؤية الرابعة -رواية-
ذ. حسن الرموتي – المغرب
عندما لا تكون لنا حياة حقيقية
فإننا نستبدلها بالسراب .
أنطوان تشيكوف
هل تستطيع الآن و أنت وحدك أن تدرك كيف يتولد هذا الحنين ؟ هذا التوق الذي يملأ الجوانح ، حنينك للطبيعة البكر ، والتي فقدت عذريتها في زمنك الموبوء ، ووطنك الذي يحتاج لمن يقوم اعوجاجه ، وهذه المدينة التي أنجبتك ذات فجر ، كيف تخلت عنك ذات مساء ، وأنت حين تعود كل مساء إلى ما يشبه بيتك ، تعود متأخرا ، تسير وحيدا ، الشارع خال من المارة ، فقراء المدينة ولصوصها ... أووا إلى مضاجعهم ، يسترجعون في أسى سواد يومهم ، بعض الضوء ما زال يتسلل من بعض الشبابيك ، تتخيل أشياء كثيرة تجري خلف هذه النوافذ ، تواصل سيرك ، مرات كثيرة استوقفك رجال الشرطة ليتأكدوا من هويتك ، مرة نسيت بطاقة هويتك في ما يشبه بيتك ، و عندما استوقفك رجلا أمن، تحسست جيوبك ، لم تعثر على شيء ، قال أطولهما بنبرة حادة :
─ إلى أين أنت ذاهب ؟
─ إلى ما يشبه بيتي
─ بطاقة هويتك
─ نسيت أن احملها معي اليوم
─ أين كنت إذن ؟
─ في المكان الذي يقصده كل من فقد هويته الحقيقية من منبوذي هذه المدينة ، حيث تسعفني الكأس
و لا تسعفني العبارة .
نظر هذه المرة أقصرهما إلى أطولهما ، و يبدو أنه أرقى منه رتبة . فقال الأقصر :
─ ما اسمك ؟
─ عروة بن الورد
نظر إلى نظرة أحسست أن فيها كثيرا من الشك ، لكنه تظاهر بالفهم . لا أعرف كيف خرج هذا الاسم من فمي، لم أفكر في عواقب ذلك، نظر أطولهما إلى رفيقه ، أشار له هذا الأخير بإشارة لا شك أنه يدرك معناها . قال أطولها :
في المرة القادمة لا تنس بطاقتك الشخصية ... في أعماقي لعنت بعض رجال الشرطة الفاسدين، و انفرج فمي عن ابتسامة صغيرة عندما تذكرت اسم عروة بن الورد، فقلت مع نفسي ما أغبى هؤلاء ! ثم تذكرت عبارة - تسعفني الكأس و لا تسعفني العبارة – فزاد يقيني من جهل هؤلاء
للشعر و الشعراء . بخطى وئيدة تتابع سيرك في هذه المدينة ، تسترجع أحلام الطفولة ، الأماكن المعتمة في هذه المدينة ، أماكن تئن من وجع السنين مازالت قائمة ، كم كنت تحب التسكع ليلا بين مفاصلها وحيدا أو مع رفيق الطفولة ، رفيق دربك الذي لم تعد تراه فقد اختطفته ذات يوم امرأة الجنون ، من يدري ، أختفي فجأة من المدينة . عقدين من الزمن بنهاراتها و لياليها مرت مثل قذيفة في الحرب ، لكنه لم يعد ، أحيانا تتوهم أنك تسمع خطوات قدميه ، حين تلتفت لا شيء سوى الفراغ ، فقط البحر وحده يبدو أمامك عصيا على التفسير ، فكم احتضنت أمواجه جسدك وجسده وأنتما مازلتما طفلين ، ثم فجأة رحل دون أن يودعك ،( أ . محند ) اسم أمازيغي قح ، كان رفيق دربك منذ البداية يبوح لك بأسراره الطفولية ، ثم حين ضمتنا مدرجات كلية الآداب كبرت أحلامكما ، منفتحان على الحياة ، سلاحكما الضحك و السخرية لمقاومة الفقر ، و أنتما بعيدان عن هذه المدينة ثم افترقت بكما السبل ، حين تخرج من مدرسة المعلمين بعد ذلك مع صديقه مصطفى ، اشتغل شهورا بتفان وصدق ، ثم إختفى ، مازال يحمل سر اختفائه معه، لم يظهر له أثر ، احتمالات عديدة وضعت ، قتل و دفن ، جرفته السيول، أعتقل .... لا أحد له الخبر اليقين ، لكن محند لازال حاضرا بينا لن ننساه أبدا . و هذا الشاطئ الذي تعرفه و يعرفك شبرا شبرا فقد لاذ للصمت ، وحدهم الغزاة الجدد ينتشرون على رماله مثل الطحالب .
آه ياصاح ! إلى أين تأخذنا هذه المدينة ، نحن الذين لم نستسلم بعد ، مدينة مشرعة على البداية و النهاية مفتوحة على الجنون ، فأين تمضي بنا ؟ فهل علينا أن نحارب كل هذا القبح ، أم نستكين لذواتنا ، هل نشرع نوافذنا للحلم أم نستسلم للجراد الزاحف على المدينة . و هذا الزمن الذي يسرع حولنا ، إلى أين يسير بنا ؟ تتساءل مرات كثيرة مع نفسك، من الذي يسرع صوب حتفه ، هل هذه الشمس التي تستسلم في النهاية لتغرق في الأفق الأرجواني ، و يبتلعها البحر ؟ أم هذه الأرض التي تدور حول نفسها ؟ أم فقط نحن الذين نسرع نحو أحلام كاذبة . أي مستقبل ينتظرك و ينتظر هذه المدينة ؟ حين ترنو إلى الأفق و تفكر مليا ، تدرك أن المسألة ليست بالبطء أو الإسراع ، لكن أن تعيد لنفسك و لهذه المدينة قليلا من الفرح ، قليلا من مجدها الموؤود ، عليك أن تقتفي أثر هذا القبح ، و هذه المساحيق الكاذبة ، تلك مهمتك رغم الحزن الذي يسري في جسدك ، و اليأس الذي تنطق به ملامح و أسارير وجهك . ْوهذا التيه الذي يوزعك بين منازع الأرض و السماء ، لكن عليك أن تقاوم أن تعيد ترميم أشرعة سفنك لتبحر من جديد في متاهات هذه المدينة ، أنت تدرك علم اليقين أنك وحدك ، و أن حياتك بلا سقف و لا نوافذ ، لكن آلاف من فقراء المدينة و صعاليكها و منبوذيها ... ينتظرون ، فقد تخلوا عن أحلامهم ، عن حياتهم البسيطة ، لأجل البرابرة الجدد ، لكن ثمة حلم مازال يراودهم وأن في قلب عواصف الأمطار ربيعا أخضر قادما و أن في سواد كل ليل صبحا آتيا لا ريب ، فمن يفتح قلوب هؤلاء على الأمل ؟ .
يا صاح ! لغة هذه المدينة لم تعد لغتك ، لغة لقيطة ، قذرة قذارة هذه المستنقعات التي تغمر دروبها كلما انهمر المطر ، أطفال البؤس يلعبون وربما يشربون منها ... أطفال اغتصبت براءتهم ، و انحبست بسمتهم على الشفاه الضامرة ، وحده الجراد الملون القادم من وراء البحر ، له الحق في الحياة ، في هذه المدينة .
يا سندباد القلاع المظلمة متى يخرج من رحم الأرض ، من رحم هذه المدينة فجر جديد ؟ فجر يشتعل بنبوءات الفقراء و المنبوذين قهرا ، متى ينساب نبع رقراق يغمر كل هذه الأحزان كاشفا أقنعة السماسرة الجدد القادمين من وراء البحر؟ ، و هذا القلب الذي يستوطن الضلوع متى يصبح برتقالة ناضجة يبدد مرارة الأفق الرمادي الداكن ؟ ، ثم تسير بفرح طفولي على مهل نشوان كأنك تتعرف على أزقة و شوارع مدينتك للمرة الأولى . وتسري في جسدك نشوة النصر الذي افتقدته لسنوات طويلة كما تدب حماسة النبيذ في العروق . لكن حلمك مر، آه لو تستطيع أن تقاوم هذا الموت البطيء ، و أن تجعل لهدير الموج الساكن في أعماقك منذ الطفولة صوت العصافير ، آه لو ترى حلم هذه المدينة و حلمك يأتي مثل أغنية تحت ظلال المطر ، يغتسل من قبح الغزاة الجدد ، و البحر العجوز يرد التحية و يطهر الهواء الممل ، و يفتح أبواب ماضي هذه المدينة المغلقة . أنت تعرف بيقين العلماء و إحساس الشعراء أن من الصعب أن تعيش المأساة حتى النهاية ، كما تدرك أن المآسي و النوائب و الأحزان في هذا العالم لا تنتهي ، عالم فقد عقله منذ عقود ، و أنت لا تستطيع أن تنبذ هذه المدينة و تستبدلها بأخرى ، هذا قدرك وتذكر ما قاله الإمام علي ، آه من قلة الزاد ، و طول الطريق ، و وحشة السفر ، هذه هي المأساة التي تجتاحك الآن ، زاد هذه المدينة أصبح بطعم العلقم ، و طريقها إلى الخلاص أصبح مستحيلا ، أما وحشة الذات فهي بركان يغلي في الدواخل .
في هذه المدينة ، عليك ألا تسمع ، ألا تري ، ألا تتكلم ، لا تتكلم ، ما تقوله هراء في هرا ء ، ولسانك عليه أن يكون معقوفا ، لا يلهث إلا بقصائد المديح ، أو لتفقد عادة الإجابة ، طأطئ دائما رأسك بالموافقة ، ولا ترى إلا هذه المساحيق ، و أسارير الغزاة الجدد و تبتسم في وجوهم ، و لا تسقط عن وجهك هذه الغشاوة التي تحجب اللحظة التي تعيشها ، وفي زمن العهر عليك ألا تسمع إلا ما يتلوه البرارة من أنغام ، ببساطة أن تدخل سردابا طويلا و تمشي ، لا تلتفت ، قوافل طويلة من المنبوذين و المتسكعين و ماسحي الأحذية و بائعات الهوى ... يمرون لا ينظر أحدهم للآخر ، وجوه متشابهة ، يجمعها التيه في رحلة لا نهاية لها تشعر بالقلوب التي أضناها التسكع تنكمش و تعصر كما تعصر البرتقالة الناضجة ، وجوه يعلوها الغبار فتسير نحو حتفها مستسلمة كما استسلمت أجيال بهدوء صامت . فكيف لك أن تعيد البداية ؟ و تكسر كل هذه الظلال ، لكن الأرض تضيق بك ، تتمنى لو فتحت أبواب المدينة ، و باب البحر خصوصا الذي أغلق منذ عقود ، فلم تعد رائحة البحر و زبده تنفذ إلى الرئتين ، مرات كثيرة تود لو تطوي هذه المدينة كما تطوي الكتاب أو الجريدة ، لكن المدينة تتمدد و تتسع و تكلل فاتيحيها ، و تسائل نفسك متى يحق لهؤلاء أن يتركوك تشتهي كما تموت ؟ ...