أين الحقيقة(3)
أين الحقيقة؟؟
(3)
رواية: ابتسام الكيلاني
الفصل السادس
اللغة عنصر هام في انتماء الإنسان
صلاة المسلم تعبير عن شمول الإسلام
التحدي:
وجاء اليوم الموعود، ها هم يتوافدون، ويستقبلهم المشرف على ظهر المركب وتم التئام الشمل، وعلت الضوضاء وعلا صوت المشرف:
- لا تنسوا أن لغتكم فرنسية، إياكم أن تستعملوا أية لغة أخرى.
واطمأن عمر بعد أن جال ببصره، لقد حضر الجميع ولم يتخلف أحد من مجموعته التي ألفها والتي تمنحه العون ليقاوم ويتماسك، ها هي الفتاة الهولندية سلفا في قمة التبذل والإغراء، تنظر إليه من بعيد، وتشير بيدها محيية، رد التحية.. ووكزه سامي وهمس:
- إنها مصممة على أن تنال منك..
رد عمر: سيحميني ربي.
اقتربت آن وحيت المجموعة وخصت عمر بسؤالها عن حاله، ربما أحست بما يدور في أعماقه من صراع، وها هي الدكتورة سماح مع مجموعة من مريديها، وبرفقتها ابنتها منال، وانفرجت أسارير سامي، واقترب منهم وألقى التحية، وسأل منال عن أخيها طارق قالت:
- إنه يقوم ببعض المهمات مع أبيه.
قال: ولكن اليوم عطلة.
قالت: أبي طبيب جراح يعمل في مستشفى كبير وأخي يهوى الطب الجراحي لذلك يبقى غالباً في صحبة والده.
وجاء صوت المشرف يدعوهم للاجتماع في القاعة التي سيمارسون فيها بعض النشاطات، وهناك قسمهم إلى مجموعات وخص كل مجموعة بمهمة، كما ذكر لهم عدة أنشطة سيمارسونها، والهدف تقوية اللغة، وقد خصص وقتاً لعرض بعض الأفلام، ووقتاً لمشاهدة عرض مسرحي، وهناك أوقات سيكونون فيها أحراراً، وعاد مرة أخرى يذكرهم باستعمال اللغة الفرنسية دون غيرها، وسيطوف بينهم ويتأكد من ذلك وأكد ذلك قائلاً:
المهم اللغة، وكل العاملين على السفينة يتكلمونها، ولن يتساهلوا في ذلك. كلهم خدم للغتهم وعليكم أن تكونوا مثلهم.
وأحس عمر بغصة وتمتم:
"ليت قومي يهتمون بلغتهم ويعتزون بها كما يفعل هؤلاء".
وتساءلت الدكتورة سماح:
- كم عربياً عنده استعداد ليكون خادماً للغته..! ما أبعدنا عن هذه الروح.. حتى ندرك أن موت اللغة هو موت للأمة، وأن الاعتزاز بها هو حماية للأمة.. خاصة والتغريب يلاحقنا..
وتذكرت منال فتيات عربيات كن يتباهين بمزج لغتهن بلغة أخرى وهن يتحدثن، واقترب منها سامي وسألها:
- بماذا تفكرين؟..
قالت: ذكرتني كلمات المشرف بلغتنا العظيمة التي نتخلى عنها منقادين لضغوط التغريب المنهالة علينا من كل جانب، بينما هم يفرضون لغتهم على الدنيا ويعملون ليل نهار على نشرها.
قال سامي: صدقت، ليتنا نتمسك بلغة القرآن الكريم كما يتمسكون بلغتهم ويتباهون بها، فهناك من يدعو إلى هجر الحرف العربي.. واستعمال الحرف اللاتيني عوضاً عنه، وهناك من يدعو لهجر اللغة الفصيحة والانتقال إلى اللهجات العامية، وكثير من الفضائيات العربية حريصة على ذلك كما هي حريصة على الميوعة والإثارة في برامجها.
قالت منال: يعجبني ما قلت، ليتك تستمر في نفس الاتجاه.
ابتسم ورد: سأحاول.
وجاء صوت المشرف يعلن:
- إن السهرة ستكون على ظهر المركب للتمتع بضوء القمر وإن فقرات مختلفة ستقدم لكم خلال سهرتكم وتناولكم للعشاء، كما يستطيع أي منكم أن يقدم ما عنده من متعة وتسلية لرفاقه..
وتفرقوا بعد ذلك؛ كل إلى غرفته، يضع أمتعته ويهيئ نفسه للسهرة، وبعضهم كان معه شريك في غرفته، وبعضهم لم تحو غرفتهم إلا سريراً واحداً، وكان نصيب عمر غرفة منفردة، سماح وابنتها غرفة مزدوجة وكذلك آن وأنديرا، وأحمد وسانج، وهكذا.. وبعد أن أمنوا أمتعتهم وأماكن نومهم اجتمع الباحثون عن الحقيقة مرة أخرى.. يتسامرون ويتناقشون وتطرح آن بعض الأسئلة وكذلك سانج وأنديرا.. ويصغي الجميع للجواب..
وعرض أحمد أن يؤدوا الصلوات خلال رحلتهم في جماعة على ظهر المركب، ووافق الجميع على ذلك، وعرض سامي أن يكون المؤذن لهم، فهو يهوى الأذان منذ طفولته، ولعل أول كلمات رددها في تلك السن هي كلمات الأذان متأثراً بصوت المؤذن الشجي، وأذن سامي أمامهم ونجح في الامتحان ونال الموافقة.
واختاروا أحمد ليكون إمامهم فقد لمسوا أنه أكثرهم فقهاً ومعرفة بالإسلام وأحكامه، كما أن له صوتاً مؤثراً في تلاوته القرآن الكريم، وكانوا يأملون أن تلفت صلاتهم اهتمام الآخرين، وأن تكشف عن جانب من جوانب الدين الحق، الذي يحاط بستر وموانع من كل جانب حتى لا يسمع له صوت.
وقال عمر: بقي أمر واحد سأقوم به وهو أخذ الإذن من المشرف.
قالت منال: لعله يقول هذا ممنوع لأن صلاتكم ستكون بالعربية.
وضحك الجميع..
وقالت الدكتورة سماح:
- لا أظن ذلك إنه إنسان جيد.. وقد زارني في المعهد وطلب مني بعض التفسيرات ووجه بعض الأسئلة. إنه يريد التعرف على الإسلام فهو يبحث عن الحقيقة، وقد أرشدته إلى موقع للإسلام أقيم حديثاً على الإنترنت، ويشرف عليه مجموعة ممتازة من العلماء، يمكن أن يمده بما يريد..
وقال عمر: إنني ذاهب إذن لأسأله السماح لنا بإقامة الصلاة على ظهر المركب.
قالت آن: أتمنى لك التوفيق..
ولوّح بيده مبتسماً ومضى، وبعد فترة أحسوا أنها طالت.
عاد عمر يحمل لهم البشرى:
- لقد أذن لنا بأداء الصلاة وقد اكتشفت أمراً كنت أحس به.
سامي: ماذا اكتشفت؟
عمر: اكتشفت أن الدكتور جون مؤمن بوحدانية الله، لقد أخبرني هو بذلك، وذكر صفات للإله الذي يؤمن به تشبه ما ورد في قرآننا.
قالت منال: ما أغرب هذا، اذكر لنا بالتفصيل ماذا قال لك؟..
قال عمر: لقد أخبرني أن صلاتنا هذه ستسعده، لأن كلامنا السابق عن الإله شده ولفت انتباهه، لأنه يؤمن بإله يتصف بهذه الصفات، الإله الواحد الذي لم يلد ولم يولد، والذي ليس كمثله شيء، لقد أجلسني بجانبه وأخبرني عن سر إيمانه هذا، وأنه نشأ من خلال دراسته للأحياء والتجارب التي كان يقوم بها، مع أن جدته عندما علمت أنه سيدخل الجامعة ويتخصص بمادة العلوم، بكت ورجته ألا يفعل خوفاً من أن يحوله العلم إلى إنسان ملحد، فطمأنها وقال لها: "سأعرف ربي من خلال دراستي" وفعلاً كانت دراسته للأحياء طريقه لمعرفة خالق الأحياء، الذي بث في كونه أنواعاً لا تحصى من الحياة.. تعرض على العقل البشري وتفرض على أولي الألباب أن يعترفوا بوجود الله وعظمته وقدرته.
قالت الدكتورة سماح:
- سبحان الله قوله هذا تفسير للآية الكريمة:
(.. إنما يخشى الله من عباده العلماء..).
قال عمر: لقد ذكرت له هذه الآية فدهش وتساءل:
- هل ورد مثل هذا الكلام في كتابكم؟ سأحاول أن أطلع عليه.
قالت آن: لاشك أنه يبحث عن الحقيقة لذلك اختار تلك الموضوعات للمناقشة خلال الدورة.
قال عمر: لقد التقيت سلفا في طريق العودة، فأوقفتني وأعطتني إنذاراً، قالت: انتبه إنك مراقب، أعلم كل حركاتك وسكناتك، أخبرني ماذا كنت تقول للمشرف، وماذا كان يقول لك؟.. فأجبتها: وإن كان هذا لا يعنيك فقد استأذنته أن نؤدي الصلاة على ظهر المركب، وأذن لنا بذلك.
قالت: الصلاة!.. على ظهر المركب!.. ما أعجب هذا؟..
وانصرفت.
قالت آن: إنها مسألة غريبة فعلاً، ولكن مثلها كثيرات، في ظل الحضارة التي طلّقت الروح واهتمت بالمادة فقط.
وتفرق الجميع ليستعدوا لصلاة العشاء التي ستقام على ظهر المركب.
وحان الوقت وعلا صوت سامي مردداً كلمات الأذان من خلال مكبر الصوت، وكان الأذان مؤثراً وجميلاً، وها هم يتوافدون على ظهر المركب، كل منهم يحمل سجادة صلاته، بينما أحاطت بهم نظرات الاستغراب، وخلف أحمد انتظموا في صفوف، وكان عددهم لا بأس به، وقد أصرت آن على مشاركتهم الصلاة، بعد أن حفظت تسبيحات الركوع والسجود وفهمت معناها، وها هي تلف رأسها بخمار وتقف إلى جانب الدكتورة سماح، وعلا صوت أحمد:
- الله أكبر.
وشمل الصمت كل من على المركب إلا صوت الأمواج، حتى إن هذا الصوت بدأ يختفي إجلالاً لذكر الله، وتلا أحمد آيات من سورة البقرة.. وكانت تلاوته رائعة ومؤثرة، وبدا ذلك على وجوه كثيرة، وإن بدا الغيظ على وجوه أخرى، ولاحظت الدكتورة سماح دموعاً في عيني المبشرة نورما، التي بدا التأثر واضحاً على محياها، وظن البعض أن الصلاة كانت موجهة للقمر الذي بدأ يظهر من وراء الأفق، وأن المسلمين يعبدون الكواكب خاصة أنهم يضعون الهلال كمركز لبعض مؤسساتهم الخيرية، وانتهت الصلاة وتولى أحمد تصحيح هذا المفهوم العجيب قائلاً:
- لعلكم قستم الأمر على شعار الصليب الذي تقدسونه، ولكن هذا القياس بعيد عن الحقيقة:
أولاً: القمر كان خلفنا.
ثانياً: القمر وغيره من مظاهر الكون آية وشاهد على وجود الله الخالق وعظمته، ونحن المسلمين لا نعبد ولا نصلي إلا لله تعالى.
وجاء المشرف يهنئ المجموعة على النجاح الذي حققته من خلال تأدية الصلاة، وأردف:
- إن هناك أموراً تحتاج إلى توضيح، وسأطلب من أحمد أن يوضحها لنا خلال هذه السهرة.
وبدأت الموائد تمتلئ على ظهر المركب، لتبدأ السهرة في صحبة القمر والنجوم وموسيقى الأمواج وانتظر الجميع ما سيقدم على المسرح من فقرات ستشمل التسلية والفائدة، كما ذكر المشرف، واقترب المشرف من طاولتنا وتوجه إلى أحمد بالحديث:
- لقد طلب مني عدد كبير ممن على المركب أن تعيد على مسامعنا ما رددته في الصلاة بتلك النغمة المؤثرة، وهناك أسئلة ستطرح عليك، وتتولى الإجابة عنها، وستكون تلك الفقرة الأولى، بعد فاصل موسيقي، وإذا شئت رافقتك الموسيقى خلال صلاتك.
قال أحمد: ذلك لن يكون صلاة، وإنما مجرد تلاوة للقرآن الكريم، فلكتابنا أحكام خاصة يرتل من خلالها، بينما تصمت كافة الأصوات، ومرافقة الموسيقى حرام. ونكتفي بروحانية الأحرف والكلمات القرآنية، وسأجيب عن أسئلتكم إن شاء الله قدر استطاعتي.
قال المشرف: اتفقنا، وأرجو أن تكون جاهزاً بعد أن تنتهي الفرقة الموسيقية وعندئذ يدعوك عريف الحفل.
وحياهم وانصرف.
قال أحمد: ما رأيكم؟ هل أصبت عندما وافقت على طلبه؟.. أم أنه لا يليق أن أتلو قرآناً في حفل قد يضم منكرات؟..
قالت الدكتورة سماح:
- بل أحسنت إن شاء الله، إنها مناسبة جيدة ليتعرفوا على ديننا من خلال تصرفاتنا وقناعاتنا، لا من خلال صحفهم ووسائل إعلامهم ومبشريهم، والله سبحانه علمنا وشجعنا أن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، والحكمة تكون باستغلال الجو المناسب واللحظة المناسبة، والموعظة الحسنة تكون باختيار الوسيلة الجيدة المفيدة وتجنب العنف والعصبية.
أحمد: الحمد لله، أدعو الله أن يسدد خطاي.
وعلا صوت عريف الحفل يقدم أحمد:
- السيد أحمد سيلبي طلبكم فيتلو الآيات التي سمعتموها أثناء القداس الذي أقامه مع جماعته، ثم لكم أن توجهوا له ما تشاؤون من أسئلة.
وبدأ أحمد التلاوة بصوته الخاشع المؤثر، ترافقه موسيقى الكون، الكل يصغي وفي نفس كل منهم مشاعر وأحاسيس ما، وقد بدا التأثر على كثير من الوجوه، وترقرقت دموع في عيني أنديرا والمبشرة الإنكليزية، وبدا الضيق على بعض الوجوه وخاصة وجه سلفا، وكانت تسترق النظر إلى وجه عمر، ثم تعود إلى ما هي فيه من استياء وضيق، ولاحظ عمر دمعة تنطلق من عين آن وتسارع إلى مسحها، وقد تعلقت بها عينا عمر، وأشار لها بيده:
- ما بك؟..
قالت: لست أدري ماذا حدث لي؟ لم أشعر بمثل هذا من قبل.
وظهرت أنديرا على المسرح وبادرت قائلة بصوت مرتجف:
- أرجوك يا أحمد أخبرنا من أين أتيت بهذه الكلمات التي تلوتها في صلاتك؟ ومن علمك أن تؤديها بهذا الشكل؟ لقد حضرت مالا يحصى من قداس وصلاة فلم أشعر بما شعرت به الآن، مع أنني لم أفهم كلمة مما قلت! إلا الكلمة الجليلة "الله".
قال أحمد: إنه كلام الله، إنه القرآن الكريم، ولتلاوته أحكام خاصة تناقلتها الأجيال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقارئ القرآن يشارك قلبُه المؤمن الخاضع لله لسانه في التلاوة.
قالت: ولماذا تأثرت هذا التأثر دون أن أفهم؟
قال: إنها موسيقى روحانية عجيبة ترافق التلاوة، ولها تأثيرها على من لا يزال على فطرته مفتوح القلب والوعي للإرشاد الإلهي..
شكرته وانصرفت.
وقال المشرف: أرجو من أحمد أن يفسر ما قرأ من الآيات بلغتنا الفرنسية.
قال أحمد: سأحاول بقدر استطاعتي، لأن معاني القرآن الكريم العميقة لا تحملها إلا اللغة العربية.
وفسر أحمد الآيات الكريمة..
ووقفت المبشرة نورما قائلة:
- أود أن أفهم سبب قيامكم بتلك الحركات أثناء الصلاة.
أحمد: الصلاة لا يمكن أن تؤدى بدون هذه الحركات، وهي تعبير عن خضوع كل ذرة في كيان العبد لله عز وجل، هذا الخضوع أعبر عنه بالركوع والسجود، ويعبر عنه لساني بالكلمات، وقلبي بالخشوع وروحي بالانطلاق إلى خالقها، فالصلاة دعاء ومناجاة لله تعالى، وفي نفس الوقت إعلان عن عبودية الإنسان لربه، والمؤمن لا يضع جبهته على الأرض إلا لخالقه ومالك أمره.
قالت: هل معنى هذا أن الإنسان لا يستطيع أن يناجي ربه ويدعوه من دون هذه الحركات؟
قال: لا.. إن أبوابه سبحانه مفتوحة لمن أراد أن يناجيه أو يدعوه، مفتوحة للتائبين الراجين لعفوه وعطائه، وقد أخبرنا سبحانه أنه قريب:
(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).
قالت المبشرة: ألا يحتاج التائبون إلى الاعتراف أمام رجل دين؟.. هل تلجون الباب هكذا دون واسطة ولا استئذان؟
قال أحمد: ولماذا الاستئذان، وقد منحنا الله سبحانه الإذن مسبقاً؟ قال لنا سبحانه: إنه قريب، ولماذا الواسطة؟ وكلنا عبيده وكلنا خطاؤون، ومن هذا الذي آمنه على سري؟ وما الدليل على أنه أقرب مني إلى الله؟ لماذا لا أبوح بسرّي للسميع المجيب الذي يسمعني أينما كنت وهو صاحب الأمر.
وشاركت منال: أي الملوك والرؤساء أفضل؟ الذي يفتح بابه للجميع فيسمع الشكوى ويرفع الظلم، أم الذي يغلق أبوابه ولا تفتح إلا لفئة معينة تقدم له ما تريد؟ وتستأثر بعطائه ونفعه؟ والله سبحانه فوق الملوك والجبابرة والقساوسة، لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، هذا هو الإله الحق الذي نعبده ونلوذ به.
المبشرة: شكراً لكم، لقد أنقذتني كلماتكم من تساؤلات تعذبني.
وارتفعت بعض الأصوات تطلب الانتهاء من هذه الفقرة، فبعضهم ملأهم الغيظ، وبعضهم يطمع بنوع آخر من الترفيه والتسلية، وتعالت أصوات:
- نريد أن نسمع الموسيقى ونحرك أجسادنا لقد مللنا الجلوس..
وانسابت الموسيقى، وقام البعض إلى حلقة الرقص، وعاد أحمد إلى مكانه بين أفراد مجموعته، وحيته أنديرا بحركة من يدها توحي بأنه حقق نجاحاً، والتفت عمر إلى آن وسألها:
- كيف أنت؟
قالت: أشعر أنني اقتربت من الحقيقة.
قال سانج: وأنا أيضاً أشعر أنني وضعت قدمي على بداية الطريق.
وسألت منال سامي: ما رأيك فيما رأيت وسمعت؟
سامي: لاشك أنني ألمس عظمة ديني من جديد، وقد غابت عني أمور كثيرة في بلد يعتبر الالتزام بالدين خطراً يهدد دعائم السلطة.
وجاءت سلفا تعرض على عمر أن يراقصها فقال:
- لا أعرف.. ولا أريد أن أتعلم.
قالت: لماذا تنفر مني؟ لقد عرض عليّ كثيرون أن أراقصهم.
قال: لا أنفر منك.. وقد بينت لك السبب أنني أنفر من هذا الرقص.
وأشارت إلى سامي فنهض معها، وانضما إلى مجموعة الراقصين والراقصات، وبدا الضيق على وجه منال، ولحظت الدكتورة سماح ذلك، وعلق عمر:
- إن التغلب على حبائل الشيطان ليس سهلاً، المهم أن لا نيأس ولابد من إنقاذ سامي.
وجاء الساقي بكؤوس الخمر على الجالسين، وتناول سانج كأساً صغيرة ووضعها أمامه ورفض عمر وأحمد ما قدّم لهما.
وسأل سانج: لماذا رفضتما الخمر؟.. لأول مرة أرى في هذه البلاد شباباً يرفضون الخمر.
قال عمر: الخمر محرمة في ديننا، وهي رجس من عمل الشيطان.
واقترب المشرف منهما، وقد لفت نظره امتناع عمر وأحمد عن تناول الخمر، ويبدو أنه وضعهما تحت المراقبة، وتدخل في الحديث:
قليل من الخمر أظن أنه ينفع ولا يضر.. وفي المسيحية: قليل من الخمر يريح المعدة.
قال أحمد: حرّم الإسلام الخمر قليلها وكثيرها، لأن القليل يستدعي الكثير ويؤدي إلى الإدمان.
قالت الدكتورة: أظن أن أضرار الخمر لا تخفى على أحد، ويكفي أنها تذهب العقل، وتفسد الوعي وتشتت الذهن، والإسلام يعتمد على العقل، وقرآننا في وصاياه يركز على أصحاب العقول وأولي الألباب.
قال المشرف: في كل لحظة أزداد اقتناعاً بصحة اتجاهكم، وسأبذل جهدي لأطلع على دينكم، فقد تكون فيه الحقيقة التي أبحث عنها.
وتناول سانج رشفة من كأسه ثم أبعدها عنه، وأخذها أحمد ثم سكبها في البحر..
وكان الصحافي الأمريكي الأسود لويس يصغي لما يدور من نقاش، فقال:
- أرجو أن تذكروا لي أموراً أخرى يحرمها دينكم.
قال أحمد: ديننا يحرم كل الخبائث ما ظهر منها وما بطن، يحرم الزنا، والربا، والخيانة، والظلم، واستمتاع الرجال بالنساء دون ضابط ولا هدف.
قال الصحافي: وما الضابط؟.. وما الهدف؟..
قال أحمد: الضابط لكل علاقة: الاحترام والأدب.. والهدف: تكوين الأسرة واستمرار الوجود الإنساني.
وتمتم الصحافي لويس:
- أذكر أن جدتي لم تكن تذوق الخمر، وكانت تنهانا عن شربها، وتذكرنا دائماً بأضرارها، لاشك أن أجدادي كانوا مسلمين.
وبدأ عرض مسرحي يحكي بعض أحداث الثورة الفرنسية من خلال علاقة حب، وعاد سامي إلى جماعته، ولاحظ نوعاً من الاستنكار في وجوههم، وخاصة منال، وبدا عليه الندم.. قال: ماذا بكم؟.. هي التي دعتني.. ووجدت نفسي ألبي، وها أنا أعود إليكم سالماً، لم ينقص مني شيء.
ولم يجبه أحد، ومر الزمن، وتوالت فقرات البرنامج، ثم أعلن ختام الحفل، وحان الوقت ليذهب كل منهم إلى فراشه.. ولاحظت آن وهي في الطريق إلى غرفتها أن سلفا تسير خلف عمر دون أن يدري، وتساءلت:
"ترى ماذا ستفعل؟ ولماذا تتبعه؟"..
وذكرت لأنديرا ذلك، قالت أنديرا:
- أراك متعلقة به، ولكن اطمئني لن تستطيع أن تنال منه.
قالت آن: أخشى أن تؤذيه، فقد أصبحت المرأة تنافس الرجل في الجريمة، لقد قرأت اليوم عن حادثة اقشعرّ لها بدني: ثلاث فتيات قتلن شاباً رجماً بالحجارة، لأنه رفض ممارسة الجنس معهن.
قالت أنديرا: هذا فظيع..
وبعد لحظة صمت قالت آن:
- أرجوك تعالي معي أريد أن أطمئن أن شيئاً لن يحدث..
وخرجتا معاً باتجاه غرفة عمر.
دلف عمر إلى غرفته، وأشعل النور، وهمّ بتبديل ملابسه، وفجأة فتح الباب، ووجد سلفا تدخل مسرعة وتغلق الباب وتضع المفتاح داخل ثيابها وتقول:
- سأبقى معك هذه الليلة، ولن تستطيع إخراجي.
وبهت عمر ورجاها أن تغادر الغرفة، فهو لا يريد أية مشاكل.
- أرجوك أعطيني المفتاح، لقد اخترت غرفة منفردة، أريد أن أخلو بنفسي، لماذا تفرضين نفسك عليّ؟..
- حاول أن تمد يدك وتأخذ المفتاح، وعندئذ سأخرج.. هيا.. حاول.. امدد يدك.
- لن أفعل.. لا أريد أن أمس جسداً حرّمه الله عليّ، من سلّطك عليّ؟.. لماذا أنا بالذات؟..
- إنك تعجبني، ولم يستعص عليّ أحد من قبل، وليس فيّ ما ينفر، ولقد افتتن بي الكثيرون.
واعترف عمر في أعماقه أنها فاتنة، بل صاروخ من الفتنة، يمكن أن توقع أي إنسان، ولكن تحركها روح شيطانية بشعة، تشعره بالنفور والبرود، وحتى العجز، وعجب أين ما كان يشعر به عندما يرى نماذج الفتنة المعروضة في كل مكان؟.. يا للغرابة لقد شاخت مشاعره فجأة!!
وعادت تدعوه وتقترب منه، وحاول أن يبتعد عنها، ولكن الغرفة ضيقة، والمفتاح أخفته في منطقة لا يمكن أن تمتد يده إليها، ووجدها تلتصق به وتغرز أظافرها في عنقه، وتكاد تكتم أنفاسه، ودفعها بعنف فاصطدمت بالجدار وسقطت على الأرض، وفي هذه اللحظة دفع الباب بقوة فانخلع، وظهر المشرف وخلفه آن وأنديرا، وجاء صوت المشرف:
- ما الذي يجري هنا؟.
ونهضت سلفا واندفعت خارجة من الغرفة، ولفت نظر آن دماء تسيل من عنق عمر، وقد تهاوى على سريره عاجزاً عن الكلام.
قالت آن: القضية لا تحتاج إلى شرح، سوف آتي بما أزيل به هذه الدماء.
قالت أنديرا: الحمد لله الذي حماك من شر أكبر، والحمد لله أنك لا تزال على قيد الحياة.
ثم تابعت ضاحكة:
- وإلا لنشرت الصحف غداً خبر وفاتك.
قال المشرف: فعلاً الحمد لله على سلامتك، سأتركك لرفاقك.
وحياهم وخرج، ونهض عمر قائلاً:
- أريد أن أصعد إلى ظهر المركب، أكاد أختنق، كأن الجو خلا من الهواء.
وساعدته أنديرا وآن على الصعود، والتفت بقية المجموعة حوله، وراح يقص ما حدث:
- لا أدري ماذا أسمي ما حدث، ولن أستطيع وصف مشاعري، ولا تعليل ما أقدمت عليه تلك الفتاة.
قال أحمد: هذا هو حصاد الحضارة التي خلت من القيم وداست على الفطرة، وانطلقت باسم الحرية تحول الإنسان وخاصة المرأة إلى إنسان مشوّه.
قالت آن: صدقت في وصفك.. هذا ما أحسست به منذ زمن بعيد.
وعرض أحمد أن يصلوا الفجر فقد حان وقته، قبل أن يعودوا إلى أسرّتهم، وقد بدأ المركب يقترب من نهاية الرحلة، ولكن لابد من بعض الراحة، قبل استئناف يوم جديد، وحيا بعضهم بعضاً بعد أن أدوا الصلاة، وانصرف كل منهم إلى غرفته، وفي أعماقه حديث حافل.
وفي طريق العودة من تلك الرحلة المثيرة، جلس كل منهم في مقعده صامتاً، وقد لجأ إلى عالمه الخاص، ودارت في أعماقه الأفكار، وبعضهم أغمض عينيه، كأنه لا يريد أن يرى إلا ما يدور في داخله، ترى ماذا في خبايا نفوس تبحث عن الحقيقة؟.. تبحث عنها في خضم الحياة الزاخر بالرؤى والاتجاهات، سنحاول أن نطلع على ما يجري داخل هذه النفوس، ولنبدأ بسامي، ففي داخله يصطرع اتجاهان، الأول أن ينساق وراء شهوته ونزواته، والثاني أن يمتلك زمام نفسه ويتحكم برغباته قبل أن يهوي إلى القاع، ولم تفارق خياله تعبيرات ارتسمت على وجه منال، بعد أن عاد من حلبة الرقص، لقد انصرفت عنه تماماً، ولم يدر ماذا يفعل؟ وكيف يتصرف. ومع ذلك فهو يود أن يصل إلى الموقع السامي الذي وصلت إليه منال، ويتخلص من قوى في داخله تشده نحو الهاوية، لن يستسلم.. وسيتابع طريقه إلى أعلى، ولكن يجب أن يساعده رفاقه.
أما منال فتشغلها حقيقة هذه الدنيا، إنها دار امتحان، ينجح فيها من ينجح ويرسب فيها من يرسب، المهم أن يتابع الإنسان طريقه إلى أعلى، ولو تهاوى في بعض الأحيان، ويبدو أنها تلتمس العذر لسامي، بعد الثورة التي اجتاحتها ضده، وستساعده ولن تتخلى عنه.
وتشعر أم أنديرا بإعجاب نحو أحمد وعلمه الغزير، وتشدها ثقته بنفسه وإيمانه بالطريق الذي اختاره.
هي الآن مطمئنة.. إنها وضعت قدمها على بدالية الطريق نحو الحقيقة، إنها تشعر أن الحقيقة تقترب منها، ولن تتراخى عن طلبها.
وفي أعماق الدكتورة سماح استقرت مشاعر الحب الكبير لهذه المجموعة من الشباب، الذي أهمتهم الحقيقة وهم جادون في البحث عنها، وكم يسعدها أن يصلوا إليها، ويسعدوا في رحابها.
وكان عمر في وادٍ آخر، فهو يراقب أمراً بدأ ينمو قوياً في أعماقه.. إنه اهتمامه بكل ما يصدر عن آن.. ورغبته بأن تدوم هذه الزمالة وتستمر، وأن يكون بينهما رباط لا ينفصم، سيرسل لوالديه يستشيرهما في هذا الأمر.
وأما آن فقد توقفت عند الحادثة التي أثارتها، بل أثارت كوامن مشاعرها نحو عمر.. فوزه في تلك المعركة.. التزامه بمبادئه أمام كل هذا الإغراء والتحدي؛ انشغالها عليه وقلقها.. شعرت بشيء من الخوف من عاطفة تغلبها.. هي تسعى إلى الحقيقة الكبرى وتكاد تمتلكها.. لا لن يغلبها شيء.
وجلس المشرف يستعرض أحداث الرحلة، وطفت على السطح تلك المجموعة التي شغلت اهتمامه بتميزها في كل شيء، وخاصة تلك الطمأنينة والرضى الذي ينبعث من كلامهم وتصرفاتهم، لقد عرف الطريق إلى الحقيقة بعد أن فتح له العلم الباب على مصراعيه.. سيستعين بالدكتورة سماح فهي تستطيع أن تُمدّهُ بمعلومات كثيرة هو بحاجة إليها، سيعقد معها جلسات مناقشة في الأيام المقبلة.. وسيستعين بالإنترنت فقد أرشدته الدكتورة إلى خط على الإنترنت، يعرف بالإسلام ويلبي كافة الطلبات حول هذا الموضوع، ويتم ذلك بعدة لغات.
أما سانج؛ فقد بدأ يشعر بالراحة، إنه يقترب من العدالة التي بحث عنها طويلاً، ولا وألف لا للخبائث والعبودية..
وهكذا انتهت الرحلة ولكل شيء في الكون نهاية..
الفصل السابع
الشمول والتوازن في الكتب المقدسة
الرسل في الكتب المقدسة
ولن ينطفئ النور
وجاء الموعد وضمتهم ندوة جديدة، ولكن أين الدكتورة سماح وابنتها؟.. إنهما لم تحضرا، وشغلهم هذا الأمر وقرروا الذهاب لزيارة الدكتورة بعد الندوة. وظهر المشرف وأعلن بدء الندوة وذكرهم بأن الموضوع هو الشمول والتوازن ثم الرسل في الكتب السماوية، وأضاف:
- لا تنسوا أن ما يهمنا هو إتقان اللغة وإن كانت تلك المناقشات قد كشفت لنا أموراً كثيرة، والآن من سيبدأ!؟..
وتقدم أحمد قائلاً:
- إن القرآن الكريم – حسب اطلاعي – هو الكتاب السماوي الوحيد الذي شمل بتعاليمه كل جوانب الحياة بالنسبة للإنسان، كما شمل بإيحاءاته كل جوانب الكون، ثم وازن بين هذه الجوانب كلها فلا تطغى ناحية على أخرى، ومع ذلك فكل ما ورد في القرآن الكريم ينبعث من عقيدة التوحيد وينتهي عندها، تلك العقيدة الواضحة الناصعة التي تصبغ كل كلمة وكل جملة في كتاب الله، فالله واحد لا شريك له ولا مثيل..
قالت المبشرة نورما:
- أرجو أن تذكر لنا بعض الأمثلة.
قال أحمد:
- لقد اهتم القرآن بالإنسان في كل أحواله فرداً وأسرة وجماعة، وسأذكر بعض الآيات الكريمة؛ ففي إشارة إلى خلق الإنسان وعلم الأجنة قال تعالى:
(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) (المؤمنون 12 – 14).
وفي إشارة إلى طبيعة هذا الإنسان قال تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإذا مسه الشر فيؤوس كفور). (فصلت49). ويقرر سبحانه حدود مسؤولية هذا الإنسان:
(من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد). (فصلت 46)، وخصَّ القرآن الكريم الأسرة بوصايا وأحكام كثيرة، لتكون الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات السليمة، واعتبرها آية من الآيات المبثوثة في الكون، ومما ورد في كتاب الله قوله تعالى:
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). (الروم 21).
ونهض شاب يبدو أنه عربي قال:
- سبق لأن قلت لكم: أنا لست مسلماً لكني عربي، واسمي إبراهيم وأدرس اللاهوت، وأقوم بدراسة دقيقة للقرآن الكريم والجهة التي أرسلتني تريدني أن أجد في القرآن ثغرات توجه إليها سهام النقد والتجريح، ولكني حتى الآن لم أجد هذه المنافذ، بل لمست فيه شمولاً لكل جوانب الحياة، كما لمست فيه توازناً عجيباً بين الاتجاهات، وسأذكر آيات شدتني وحفظتها لأعمل بها منها هذه الآية:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك في الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين). (القصص77).
ومنها الآية:
(فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون). (الروم21)
قالت آن: يسعدني ما سمعته منك ولعلك تبحث عن الحقيقة مثلي إنني أدرس ترجمة لمعاني القرآن الكريم وسأدرسه بلغته الأصلية قريباً إن شاء الله، وقد أثار اهتمامي هذا الشمول والتوازن في القرآن.. ولا شك أن هذا مفقود في الكتب الأخرى، بل كل الأنظمة التي تعم العالم اليوم تعتني بجانب أو بعض الجوانب بينما شمل القرآن الكريم كل جوانب الحياة، فبعض الأنظمة يهتم بالجانب الاقتصادي والتنمية، وبعضها بالجانب العلمي المادي.. بعضها يشبع البطون، وبعضها يثير العقول لتكشف ما يلبي من الشهوات والرغبات، ولكن لن تجد النظام الذي يشبع البطون والعقول والأرواح إلا من خلال القرآن الكريم وهذه شهادتي..
وملأ الانشراح صدر عمر وروحه، وابتسم سامي وتمتم: الحمد لله، وظهرت الدهشة على بعض الوجوه. وقال سانج لآن:
- شهادتك مقبولة وقد أرشدتني إلى الطريق.
وقالت أنديرا: وأنا معك يا أبي..
وبدا الارتياح على وجه أحمد وقال:
- سأزوركما لعلني أشد السيدة سانج إلى الطريق التي تودّان السير فيه..
شاركت المبشرة نورما قائلة:
- لا شك أن الإنجيل قد ركز على الجوانب الروحية، لآن الإنسان بطبعه يميل إلى الجانب الآخر ولا داعي لمن يرغب فيه، وفي هذا حكمة.
قال عمر: هذا صحيح إذا اعتبرنا أن المسيحية جاءت لزمن معين ولقوم محددين وليست ديناً عاماً، وإنها جاءت لتخفف الغلو الماديّ عند اليهود.
قال إبراهيم: ومع ذلك فالإنسان بحاجة لمن ينظم الجانبين المادي والروحي، والقرآن شمل في تعاليمه الناحيتين ومن الآيات التي لفتت نظري وشدتني في القرآن هذه الآية:
(المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). (التوبة 71).
فالآية كما هو واضح شملت النساء والرجال، فالقرآن يحمل المرأة تكاليف الولاية كالرجل، وبجهودها يقوم المجتمع الصالح.
قال عمر: لاشك أن كلمة مؤمن وكلمة إنسان عندما تردان في القرآن الكريم تشملان الرجل والمرأة سواء وردت بصيغة المفرد أو المثنى أو الجمع.
قال سامي: لاشك أن كل تعاليم القرآن الكريم موجهة للرجل والمرأة على السواء.
قالت آن: بينما الملاحظ أنه لا دور للمرأة في الإنجيل والتوراة، ففي التوراة تبدو المرأة مجرد جنس يثير الرغبات والشهوات أو كزوجة تنضم إلى زوجات أخريات قد يصل عددهن إلى المئات لتنجب الذرية الكثيرة ثم تنحرف ببني سليمان إلى عبادة الأصنام كما يدعون.
قال عمر: ولاشك أن النصرانية عُرفت في الروحانيات، ولم تعط أي دور فاعل لرجل أو امرأة، ولم تأت بما ينظم فاعليته للإنسان ودوره على الأرض، فهي بعيدة عن الشمول كما أنها بعيدة عن التوازن إذ ركزت على ناحية واحدة وتناست فطرة الإنسان، وهذا يؤكد أنها لفئة معينة ولزمن معين.
قال أحمد: هذا صحيح وهناك أمر آخر هو أن تعاليم المسيحية لم ينفذها أحد، وبقيت مجرد كلمات مقروءة أو مكتوبة، مثل قول المسيح عليه السلام:
"سمعتم أنه قيل لكم عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الأيسر أيضاً، ومن أراد أن يأخذ ثوبك فاترك له الرداء ومن سخرك ميلاً فاذهب معه اثنين، أحبوا أعداءكم وباركوا لأعنيكم" حتى الخامس.
هذه الدعوة من السيد المسيح لم يلتزم بها أحد لأنها جانبت الفطرة.
قال سامي: بل أكثر من ذلك فقد جاؤوا وحاربونا باسم الصليب والمسيح، وبمباركة الكنيسة، وجعلوا شوارع القدس تمتلئ بدماء الألوف من الأبرياء الذين لم يضربوا لهم خداً أيسر ولا أيمن.
وهنا تدخل المشرف قائلاً:
- لا داعي للخوض في هذه الأمور، لا داعي لنبش التاريخ وإثارة هذه الذكريات المؤلمة، ولنعد إلى موضوعنا.
قال أحد النيجريين:
- لاشك أن المسيحية جاءت لتحد من غلواء المادية اليهودية، ولاشك أنها أثرت تأثيراً كبيراً.
قال أحمد: هذا غير صحيح وقد أكد المسيح عليه السلام خصوصية رسالته في قوله:
"إني لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل".
وعندما أرسل حوارييه للوعظ قال لهم:
"إلى طريق الأمميين لا تمضوا وإلى طريق مدينة السامريين لا ترحلوا بل بالحري إلى خراف بني إسرائيل الضالة.."
وأما أنها أثرت تأثيراً كبيراً فهذا غير صحيح فحضارة اليوم المادية تقوم على أنقاض المسيحية، وتحل كل ما حرمه المسيح ونهى عنه، فتعاليم المسيحية في واد وأتباعها في واد آخر.
قالت آن: ولكن القرآن يختلف، فهو موجه للناس كافة، كما أنه شامل لكل جوانب الحياة، ولقد وجدت فيه أخيراً جواباً لسؤالٍ شغلني سنين طويلة وهو لمذا خلقت؟.. وجاء الجواب:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون..).
ولذلك سوف أعبد الله وأطيعه في كل قول أقوله وعمل أعمله.
قال عمر: جميل جداً أنك فهمت معنى العبادة في الآية الكريمة، وأنها تشمل كل تصرف يلتزم فيه المؤمن بطاعة ربه.
وتدخل المشرف قائلاً:
- يكفي ما قيل بالنسبة للتوازن والشمول ولندخل في موضوع الرسل.
بدأ الكلام شاب عراقي يدعى كريم قائلاً:
- إنني مسيحي وحسب علمي الرسل في الإنجيل بشر مكرمون ينفذون أوامر الله، وتظهر على أيديهم بعض المعجزات، وقد يكذّبون من قبل الضالين، وهم يدعون إلى الخير والسمو الروحي وينشرون تعاليم المسيح وينصرونه.
قال أحمد: ولكن لا تنس أن الكنيسة فهمت من الإنجيل أن عيسى ابن الله وهو مولود له وأنه أحد الأقانيم الثلاثة وهو بشر ولد من أنثى وختن كما يقول كتابكم المقدس، وكان يأكل الطعام ويتألم ويبكي، وهذا مالا يتقبله عقل.
قال كريم: ولكن لا تنس أن عيسى مختلف عن البشر فقد وُجد دون أب.
قال عمر: وآدم بلا أب ولا أم وحواء بلا أم خلقها الله من ضلع آدم، إنها قدرة الخالق تتجلى في هذا التنوع في الخلق، وليس في هذا ميزة لأحد.
قال أحمد: بحسب القرآن الكريم فالرسل كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله، وقد ذكر منهم القرآن الكريم خمسة وعشرين، ومنهم عيسى عليه السلام، وهم بشر، وظيفتهم تبليغ الرسالة الإلهية للناس، وخاتمهم محمد عليه السلام، ونحن نؤمن بهم جميعاً.
(إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) (فاطر 24).
قالت آن: إن قضية الرسل في الكتاب المقدس قضية كبيرة فمن يقرأ ما جاء في العهد القديم عن الرسل وتصرفاتهم يصيبه الغثيان، ويرفض بكل كيانه تلك النصوص التي لا يخلو منها سفر من أسفار العهد القديم، مملوءة بما يشين ويدنس تلك النخبة التي اختارها الله لهداية البشر، فنوح يسكر حتى يفقد وعيه ويتعرى، ولوط يضاجع بناته وهو سكران وفاقد الوعي، ويهوذا نبي اليهود المفضل يزني بامرأة ابنه، وداوود يشتهي زوجة أوريا فيزني بها، ويرسل زوجها ليقتل في الحرب، وسليمان يختم حياته بعبادة الأصنام إرضاء لزوجاته الكثر.
وهنا تكلمت سيلفا بعد طول صمت:
- وماذا في ذلك؟.. أليسوا بشراً؟.. هل هم آلهة؟.. أليس من حقهم أن يخطئوا؟.. لم تريدون أن تغلقوا الأبواب وتزيفوا الحقائق؟.. إننا بشر تحركنا رغبات وغرائز.
قالت المبشرة نورما:
- لاشك أن من أحط أنواع العبودية أن يكون الإنسان عبداً لغرائزه وشهواته، بعد أن أكرمه الله وميزه بالعقل وحرية الإرادة، ولو كان ما ينسب إلى الرسل أموراً دنيوية لهان الأمر، فهم بشر لكن ما ينسب إليهم يمس العقيدة والمبادئ التي أرسلهم الله لنشرها ودعوة الناس إليها.
قال إبراهيم: إنني مسيحي ومع ذلك ألمس التناقض العجيب في العهد القديم "التوراة" وخاصة بالنسبة لما ورد عن أنبيائها، ففي سفر التثنية (23).
"أن ابن الزنا لا يدخل جماعة الرب إلى الجيل العاشر".
ومع ذلك فأكثر الأنبياء كما تصورهم التوراة زناة بل يرتكبون أبشع أنواع الزنى وهو زنى المحارم.
قال الشاب العراقي كريم:
- أرجو أن تذكروا لنا بعض النصوص لنتأكد من صحة ما تقولون.
قال أحمد: سأذكر بعض ما أورده العهد القديم عن تآمر داوود عليه السلام على أنبل ضباطه أوريا الحثي، لينال من زوجته ثم يأمر بقتله والتخلص منه، تقول التوراة:
"وفي وقت المساء قام داوود وتمشى على السطح فرأى امرأة تستحم، فسأل عنها فقيل إنها امرأة لأوريا الحثي، فأرسل داوود رسلاً وأخذها واضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها، وحبلت المرأة، وأرسلت وأخبرت داوود، فأرسل داوود لأوريا: انزل إلى بيتك، فخرج أوريا ولم ينزل إلى بيته بل نام على باب بيت الملك، وعندما سأله داوود لماذا لم ينزل إلى بيته قال:
كيف أنزل إلى بيتي وتابوت العهد وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي قائد الجيش وعبيده يحاربون في الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟! وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر". (صموئيل الثاني 11).
فكان أن تآمر عليه داوود علية السلام كما زعموا، وأرسله ليموت ويقتل ليتخلص منه.
قال عمر: بينما نجد القرآن الكريم يرسم للأنبياء جميعاً ومنهم داوود عليه السلام صورة مختلفة، فهم هداة للبشرية ويجب على كل إنسان أن يقتدي بهم، وإليكم ما ورد في سورة الأنعام، فبعد أن تذكر الآيات عدداً من الأنبياء من إبراهيم حتى عيسى عليهم السلام تختم بقوله تعالى:
(وكلاً فضلنا على العالمين) (الأنعام 86).
ثم تأتي الآية الكريمة:
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده..) (الأنعام 90).
لتؤكد أنهم النور الهادي في أقوالهم وأفعالهم وشتان بين ما جاء عنهم في القرآن وما جاء في الكتب الأخرى.
وأعلن المشرف انتهاء الندوة قائلاً:
- أحسنتم لقد باتت القضية واضحة والفرق بين، وسنناقش العلم والكتب في ندوتنا الأخيرة.
واقترب الدكتور جون من المجموعة يسألهم عن الدكتورة سماح وابنتها:
- لماذا لم تحضرا هذه الندوة؟
فأجابه عمر: إننا لا نعلم السبب وسنذهب الآن إلى منزلهم لنستوضح الأمر، إن غيابهما عن الندوة يقلقنا، فقد كانتا حريصتين على حضورها.
وعلق المشرف: إنني قلق مثلكم، فقد وعدتني الدكتورة سماح بإحضار دراسة لأحد علماء الجيلوجيا عن الإعجاز العلمي في القرآن وهي إذا وعدت وفت.
ثم حياهم وذهب يتكلم مع المبشرة نورما.
قال سامي: إن المشرف مهتم جداً بالمبشرة الإنكليزية لا يجلس إلا بجانبها، وحديثه معها لا ينتهي.
قال عمر: لعله وجد فيها ضالته فهو غير متزوج، وله توجه مختلف عن الكثرة التي تعيش هنا، إنه يبحث عن الحقيقة ولا يعوم مع العائمين على السطح.
قالت آن: لعل نورما اكتشفت نفسها الآن، لقد كانت مدفوعة مع التيار التائه من خلال دراستها وما قدم لها من معلومات ولكن ذوي الفطر السليمة لا بد أن يصحوا ويراودهم الشك، ثم يندفعوا للبحث عن الحقيقة.
قال أحمد: على كل الدكتور المشرف رجل جيد وهي فتاة عاقلة، ندعو لهما بالتوفيق، وأن يستمرا حتى نهاية الطريق.
قالت أنديرا: لقد طلبت نورما من الدكتورة سماح ترجمة لمعاني القرآن الكريم، ووعدتها بذلك، وسمعت منها أن ترجمة جيدة صدرت باللغة الإنكليزية من قبل ابن لقس يدعى مارمادوك بكثال، وقد قام بالترجمة بعد أن أسلم وأتقن اللغة العربية.
قال أحمد: نعم.. نعم لقد سمعت بهذا الإنسان الذي نشأ في بيئة نصرانية متعصبة، ولكن عقله أبى أن يستكين وجاهد حتى عرف الحقيقة فأعلنها، وسخر منها قومه وعجبوا كيف تخلى عن دين أجداده، وكيف اختار أن يعبد إله العرب.
قال عمر: تباً لهم يظنون أن لنا إلهاً خاصاً، كما يخصصون لأنفسهم إلهاً ويدعون أنهم شعبه المختار.
وانقطع حديثهم عندما أصبحوا أمام بيت الدكتورة فقد بدا لهم بوضوح أن في الأمر شيئاً ما، تجمعات سيارات الشرطة، وصعدوا مسرعين، وفاجأهم المنظر الرهيب، الباب مفتوح.. جثة مغطاة.. وجوه علتها الدهشة والذهول والحزن، ها هي منال وطارق، وها هو الزوج الدكتور علاء، ولكن أين الدكتورة؟! إنها صاحبة الجثة ما الذي حدث؟!.. أصوات تقول:
- قتلها المجرمون..
من هم.. من يقتل الدكتورة المؤمنة المسالمة؟.. إلا عبد تسيره الأيدي القذرة، التي لا تريد لمن ينشر هذا الدين أن يستمر ويبقى على قيد الحياة.
واحتضنت آن منال، وسالت دموع صامتة.. وكشفت آن الغطاء تريد أن ترى للمرة الأخيرة من كانت ستسلمها القرآن، وتعطيها الشهادة بأنها أتقنت لغته، وشدها الوجه الهادئ والابتسامة العجيبة، وجثت بجانبها وتمتمت:
- لماذا قتلوها؟.. ومن هم؟.. ولماذا واجهتهم بهذا الهدوء؟.. وهذه الابتسامة لا شك أن الموت لم يكن يخيفها.
قال أحمد: الموت لا يخيف المؤمنين لأنه انتقال إلى حياة أخرى وليس نهاية، إنه انتقال إلى أجواء الرحمن الإلهية، إلى حمى من عبدوه وأحبوه وأخلصوا له الدين. خاصة الشهداء، إنهم أحياء عند ربهم يرزقون، كما أخبرنا المولى عز وجل في كتابه العزيز.
قال سامي: إنها النهاية التي تستحقها، ربما كان هذا ما كانت ترجوه وتسعى إليه: الشهادة.. لذلك استقبلت الأمر بهدوء ورضى رحمها الله.
وجلست إحدى الجارات تذكر ما حدث وهي ترتعد:
- طرقوا بابي وفتحت لهم، هددوني بمسدس وآلة حادة كانوا يحملونها، كانوا ثلاثة ملثمين كلماتهم عربية، أمروني أن أطرق باب الدكتورة ففعلت، ويبدو أنها كانت مستعدة للخروج، وما إن فتحت الباب حتى انطلق الرصاص، ويلهم.. وويلي.. لم يكتفوا برصاصة واحدة.. بل رصاصات، ثم عاثوا في البيت فساداً وهربوا، ولم أدر ماذا أفعل، واجتمع الناس، وجاء رجال الشرطة، وانتهى الأمر،.. لماذا قتلوها؟.. إنها ملاك.. إنها قديسة..
قال عمر: لقد لاحقوها في بلدها.. أرادوا إسكاتها ومنعها من نشر الخير.. فتركت لهم البلد وما فيه، فأرض الله واسعة والأرض عطشى لدعوة الخير، وبدأت تروي الأرض هنا، وأصبح لها مكانة وذكر، فلم يعجبهم ذلك، فأرسلوا زبانيتهم ليتخلصوا منها، ولكن هيهات فالكلمة الطيبة لا تموت أبداً.
ولفت نظر آن وأنديرا الهدوء الذي استقبلت به العائلة هذه الفاجعة، وجوه حزينة غاضبة، ومع ذلك راضية مطمئنة، وسمعوا الأب الدكتور يقول:
- إنها النهاية التي تستحقها والدتكم، لذلك لا داعي للحزن والجزع فلنرض بما رضيه الله لها، وأقول لكما ما قاله رسولنا الكريم لصاحبه أبي بكر "لا تحزن إن الله معنا.."
وتعرف الأب على زملاء ابنته وتلاميذ ومحبي زوجته، ولاحظ أن سامي من بلده ويعرف أهله ويودهم، ورحب بهم جميعاً وشكرهم وعرضوا عليه خدماتهم سواء في المعهد، أو إلى جانب منال وأخيها طارق، ووعدهم أنه سيستعين بهم، وقد حدثته الدكتورة عنهم كثيراً، بينما انشغلت آن بإحساس سيطر عليها، يجب أن تسرع وتمسك الحقيقة التي باتت ظاهرة لها، الموت آت ولم تعد تخافه، إنه انتقال إلى حياة أخرى أوسع وأرحب لمن سكنت الحقيقة قلبه، الحياة دار امتحان والموت ينهي فترة الامتحان.. وتأتي معه البشرى إنك فائز.. أو خاسر.. أما الجزاء أو العقاب، فهناك في الآخرة.. الأمر واضح.. ولا داعي للخوف، بالرغم من الوحشية التي مورست في تنفيذ القتل.. خمس رصاصات!.. اثنتان في القلب، ومع ذلك.. الوصول إلى الحقيقة يملؤها بالراحة.. كما شعت الطمأنينة في الوجه الذي أضحت صاحبته في العالم الآخر..
وفي ساعة متأخرة من الليل غادرت المجموعة المنزل، بعد أن حددوا أماكن وأوقاتاً للقاءاتهم القادمة، غادروا ليفسحوا للعائلة المتعبة المكلومة أن تجد بعض الراحة، وانصرف كل منهم إلى بيته وأحداث اليوم ترافقه.
الفصل الثامن
الكتب السماوية والعلم
وأشرقتالحقيقة
جلس المشرف ومعه نورما يتحادثان، قبل موعد الندوة، وهما يتناولان بعض القهوة في (الكفتريا) الملحقة بالمركز.
قالت نورما: كان في أعماقي رفض لأفكار كثيرة، كنت أبشر بها، والآن أحس أن ما كان يجري بداخلي هو الحقيقة.. لا للأقانيم الثلاثة.. لا لولادة ابن لله.. لا لألوهية المسيح..
قال المشرف: وأنا معك ويسعدني ما ذكرت، وأضيف أموراً أخرى شغلتني ولكنني أرفضها الآن، لقد بدأت تتضح لي الأمور بعد أن فتح لي العلم باباً إلى ربي الواحد الأحد، وأنارت لي تلك المناقشات التي جرت وتجري الطريق، فأصبح واضحاً، فأنا أضيف إلى ما ذكرت: لا للغفران وصكوك الغفران، فمن سأعترف أمامه ويمنحني الغفران هو إنسان مثلي يخطئ ويصيب، فمن سيغفر له؟.. ولا أنسى أبداً تلك اللحظات التي وقفت فيها أمام القس وبحت له بسري لأستجدي منه المغفرة وهو لا يملك من أمر نفسه شيئاً.
ولا لتحميل البشرية خطيئة آدم فقد غفرها الله له.. ولا لتحميل المرأة خطيئة آدم كما ذكر الكتاب المقدس، ثم اعتبار الأمومة عقوبة أوقعها الله على المرأة لأنها أغوت آدم كما يدعون، وكما ورد في سفر التكوين 3، ولا لتحميل عيسى عليه السلام تلك الخطيئة، ثم جره إلى الصلب والموت، ليخلص البشرية ويكون فداء للخاطئين..
قالت نورما: كأنك في أعماقي يا جون، فكم عذبتني تلك الفكرة.. إذا كان المسيح لم يستطع أن يخلص نفسه من الصلب والتعذيب، وهرب واختفى وصلى طالباً من الله أن ينقذه، فكيف يخلصني؟!..
وكم كنت أشعر بالضيق، وأنا أدعو المذنبين للاعتراف ونيل الغفران، وأنا مذنبة والقس مذنب، ولا يملك هذا الحق إلا الله، كما قررت تلك الآيات القرآنية التي ذكرت خلال المناقشات، وقد استقرت في يقيني آية ولا أستطيع أن أنساها أبداً..
(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان...).
قال الدكتور جون: لا شك أننا استفدنا من تلك الجلسات مع الدكتورة سماح والدكتور علاء، فقد فجرا فينا عوامل الرفض لعقائد سخيفة، وحياة خالية من القيم والسمو، وقد شدتنا بل سحرتنا الطريقة التي تحيا بها تلك المجموعة المؤمنة..
قالت نورما وهي تبتسم: شكراً لله فقد وجدت أخيراً من يفهمني وأفهمه.
قال جون: كنت أعيش وحيداً بمشاعري وأفكاري طوال سنوات مرت، بعد أن فتح لي العلم نافذة أرى فيها الحقيقة ولا أصل إليها، والآن أدعوك لنسير معاً ونزيل العقبات الكثيرة، التي تحول بيننا وبين ما عرفناه من حقائق، سنجد في ظلها السلام والرضى.
قالت: إنني معك.. إن شاء الله.. كما يردد المسلمون دائماً.
ونظر الدكتور جون إلى ساعته ونهض قائلاً:
- لقد حان وقت البدء بالندوة، ها هم قد اجتمعوا.. ولكن أين الدكتورة سماح؟.. لقد حضرت منال فقط.
وتوجه نحو المجموعة متسائلاً.. وصدمه النبأ.. وتهاوت نورما على الكرسي.. وعلا صوت المجموعة وهو يردد: ويلهم، لماذا يطفئون النور؟!..
وجاءه صوت أحمد:
- "لا تحزن إن الله معنا.." وسنطارد الظلام والظلم إن شاء الله.
قالت نورما: أعدها أرجوك.. هذه العبارة.. لقد لامست أعماقي.. وأيقظت روحي..
قال أحمد: إنها من قرآننا، كلمات وجهها نبينا لصاحبه، وقد أحاطت بهما قوى الكفر من كل جانب. "لا تحزن إن الله معنا".
وذهب المشرف ليعلن بدء الندوة وهو يردد: لا تحزن إن الله معنا.. ثم أمسك بمكبر الصوت قائلاً:
- لقد شارف الصيف على نهايته، وهذه ندوتنا الأخيرة، وقد يسرني أن يحضرها الجميع، ولكن يؤسفني أن تخلو من إنسانة كان لها أثرها في إغناء ندواتنا، لقد اغتال أعداء الحقيقة الدكتورة سماح وحرمونا من جهدها المتواصل في محاربة الظلام والضلال، وإنني أعلن أن وصاياها شدتني وفتحت لي الطريق للحياة الحقيقية التي تليق بالإنسان الذي كرمه الله.
وعلت الدهشة الوجوه، وظهر الأسى على البعض، وترقرت دموع في أعين المحبين.
وتابع المشرف: لنبدأ ندوتنا حول العلم والكتب، ولكم كامل الحرية في التعبير عما في نفوسكم فهي ندوتكم الأخيرة.
ونهض إبراهيم قائلاً:
- إنني مسيحي مصري كما أخبرتكم من قبل، ومع ذلك فقد هيأت لي الظروف أن أدرس كتاب المسلمين لأكون أقدر على نقده، وتنفير الناس منه، إنني أشهد وقد درست الكتب السماوية الثلاثة دراسة واعية، أن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي لا يمكن أن تجد فيه أي تعارض بين الحقائق العلمية، وما ورد فيه من إشارات ودلالات.
قال عمر: الحمد لله... لقد كفتنا شهادتك هذه شر التطويل والأخذ والرد.
قال شاب إسباني: ولكن لا بد من تأكيد ما ذكرتم بالأدلة..
قال أحمد: فعلاً هناك حقائق لا بد من إثباتها:
الحقيقة الأولى أنه لا تعارض بين الحقائق العلمية وما ورد في القرآن الكريم، بينما لا تخلو الكتب الأخرى مما ينافي العلم والعقل.
والحقيقة الثانية أن القرآن يربط بين العلم والإيمان، فالعلم يؤدي للإيمان والإيمان يؤدي للعلم ولا نزاع بينهما كما حدث في ظل الأديان الأخرى.
والحقيقة الثالثة: أن القرآن الكريم أشار إلى حقائق علمية، ثم يأتي العلم اليوم وكل يوم مطابقاً لها.
قال الصحافي الأمريكي:
- أحسنت في عرضك هذا، ولكن لا بد أن تسمعنا الأدلة على ما قلت.
قالت آن: أما بالنسبة للحقيقة الأولى، فمن الصعب التدليل عليها، إذ لا بد من عرض القرآن كاملاً.. لا بد لمن أراد الدليل أن يقرأ القرآن وأظن أن كثيرين فعلوا ذلك، وأدلوا بشهادتهم، ومنهم موريس بوكاي، وروجيه جارودي، وزميلنا إبراهيم الذي سمعنا شهادته.
قالت نورما: وهل الكتب الأخرى ضمت ما ينافي العقل والمنطق؟ اذكروا لنا ما يثبت ذلك؟..
قال أحمد: ورد في التوراة أن الله سبحانه غضب على آدم وطرده من الجنة لأنه أكل من شجرة المعرفة كما ورد في سفر التكوين3:
"وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر.. فأخرجه الرب الإله من الجنة".
بينما يذكر القرآن الكريم أن الله سبحانه فتح لآدم وذريته أبواب المعرفة والعلم.
(وعلم آدم الأسماء كلها) (البقرة 31).
(قل انظروا ماذا في السموات والأرض) (يونس 100).
وتفوق آدم على الملائكة بالعلم.
قالت منال: ولا ننسى أن شعار الكنائس المسيحية المتوارث:
"أطفئ مصباح عقلك واعتقد وأنت أعمى" أو"أغمض عينيك ثم اتبعني".
بينما أصر قرآننا على استعمال العقل وطلب البرهان:
(هل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). (البقرة 111)
قال إبراهيم: مما يحيرني ويصدم عقلي ما ورد في التوراة عن مصر، فلا يرد ذكرها مرة إلا ويتهددها رب إسرائيل بالدمار ففي الإصحاح 34 أشعيا:
"لأني أنا الرب إلهك قدوس إسرائيل.. جعلت مصر فديتك".
وفي نفس السفر يرد ما يلي:
"أهيج مصريين على مصريين، فيقتل كل واحد أخاه وتراق روح مصر.. وأغلق على المصريين في يد حاكم ظالم فيتسلط عليهم.. وتجف الحياة من البحر ويجف النهر، وتنتن الأنهار وتجف الرياض على ضفاف النيل والصيادون لا يجدون صيداً.. في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء ترتعد في يد رب الجنود وتكون أرض إسرائيل رعباً لمصر كل من ذكرها يرتعب.."
وهكذا تستمر التوراة في التنبؤ بالدمار والهلاك لمصر وشعبها، أليس في هذا ما يخالف العقل والمنطق أن يعادي رب السموات والأرض شعباً بريئاً لأن أحد حكامه ظلم في يوم ما اليهود؟! إن ما جاء في التوراة عن مصر جعلني أفكر كثيراً، وأشعر أنني أكذب عندما أدعي أنني مؤمن بها كما يأمرني ديني.
وقال العراقي كريم:
- إنك يا إبراهيم تذكرني بما ورد في التوراة عن العراق.. ففي الإصحاح 34 من سفر أشعيا:
"للرب تكون ذبيحة في البصرة وذبح عظيم في أرض العراق، وترتوي الأرض بالدم، وتتحول أنهارها زفتاً وترابها كبريتاً، وتصير أرضها زفتاً مشتعلاً ليلاً ونهاراً لا تنطفئ إلى الأبد يصعد دخانها ويرثها القنفذ والقوق والكركي والغراب، ويمتد عليها خيط الخراب ومطمار الخلاء، رؤساؤها وأشرافها يكونون عدماً، ويطلع في قصورها الشوك والعوسج، فتكون مسكناً للذئاب، هناك يستقر الليل، خراب إلى يوم الدينونة.."
لماذا كل هذا؟!.
يقول أشعيا:
"إنه انتقام الرب من أجل صهيون، استيقظي البسي ثياب عزك يا أورشليم لأنه لا يعود يدخلك أغلف ولا نجس".
قال عمر: الأغلف حسب علمي هو النصراني، والنجس هو المسلم.
قال كريم: هذا صحيح... هذا ما يتنبأونه للعراق، ولعلهم ينفذون الآن في بلدي ما تنبأت به التوراة، ثم إن ما يحيرني هو كيف تشتم التوراة النصارى ثم يؤمنون بها، ويعتبرونها جزءاً من الكتاب المقدس.
قال الصحافي الأمريكي لويس:
إن ما ذكرتموه مثير للغاية ويصدم العقل، ولكن هل من مزيد؟
قالت آن: إليك ما تريد: نشيد الإنشاد في التوراة.. حب وجنس في كتاب سماوي هل هذا معقول؟! وغزل مكشوف رخيص إليك بعضه:
"من تحبه نفسي بين ثديي يبيت، أنعشوني بالتفاح، فإني مريضة جداً، شماله تحت رأسي تعانقني إلخ..".
أما الإنجيل فقد ملؤوه بعقائد يأباها العقل، وترفضها الفطرة، مثل الثلاثة في واحد، وتحول الإله إلى إنسان، وولادة ابن لله ثم موته بعد صلبه وتعذيبه، ومما يخالف الفطرة أوامر لم ينفذها أحد مثل: أحبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم، ومن ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن سرق معطفك فأعطه إزارك... إلخ.
قالت نورما: الآن أرجو أن نناقش الحقيقة الثانية وهي أنه لا تعارض بين العلم والإيمان في القرآن.
قال أحمد: لقد نبه القرآن الكريم العقول، واستثارها لتفكر في ملكوت الله، وامتدح أصحاب العقول، وندد بمن أهمل عقله وسيرته الأهواء وقيده الجهل، ثم في الكون آيات وقوانين لن يستفيد منها ويسخرها للخير إلا أصحاب العقول، ولذلك وجهها القرآن الكريم لهؤلاء:
"لقوم يعقلون" و"لقوم يعلمون" و"لأولي الألباب" و"لأولي النهى".
ومن خلال العقول ينمو العلم ويوجد العلماء، ومن خلال العلم والعلماء تظهر الحقيقة واضحة، وهي أنه لا إله إلا الله، فآياته سبحانه مبثوثة في الكون دالة عليه، ولن يلتفت إليها إلا عالم متمكن:
(إنما يخشى الله من عباده العلماء).
و(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
و(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).
بينما رجال الكنيسة يغلقون أبواب العلم، ويحكمون بالحرق والموت على من سولت له نفسه اجتياز الأبواب التي أغلقوها.
قال سانج: والآن إلى الحقيقة الثالثة..
قال عمر: لا بد قبل ذلك أن نؤكد أن الحضارة التي بناها القرآن امتزج فيها العلم بالإيمان، واجتمع البصر مع البصيرة.. وتألق نور الإيمان مع نور العلم، والتاريخ يشهد بذلك.
فأول كلمة في القرآن هي "اقرأ" وفدية كل أسير في غزوة بدر: تعليم عشرة من أبناء المسلمين، والجزية التي طلبها المأمون من إمبراطور القسطنطينية هي المكتبة عوضاً عن المال.
قالت آن: ولا يجوز أن ننسى ما فعلته الكنيسة بالعلماء والمفكرين الأحرار، وكيف وقفت مع الخرافة ضد العلم، ومع الاستبداد ضد الحرية، إن ما فعلته الكنيسة بالعلماء بشع ومخيف، مما دفع العقلاء إلى إبعاد الدين وحصره ضمن أربعة جدران وبعد ذلك قامت تلك الحضارة التي أهملت الروح وتخلت عن البصيرة، ونظرت إلى الحياة بعين واحدة هي العين المادية.
قال أنديرا: وماذا عن التوراة والحضارة؟..
قال الصحافي لويس: لا شك أن التوراة المحرفة أبعد ما تكون عن الحضارة، فقد شوهت صورة الإله، ولوثت سيرة الأنبياء وامتلأ تاريخ إسرائيل بالدماء والعنصرية، إذ استحلت التوراة دماء البشر وأموالهم وحرماتهم وجعلتهم عبيداً لليهود.
قال سامي: وما حدث في فلسطين ولبنان يشهد على ذلك وأينما حلوا أيقظوا الفتن ومزقوا الجماعات.
قال المشرف: يكفي هذا، ولا بد من مناقشة الحقيقة الثالثة، وإن كنتم قد تجاوزتم الوقت المحدد، فأنا معكم حتى النهاية ويسعدني أن أسمعكم وأنتم تكشفون تلك الحقائق بلغة سليمة.
قالت منال: سأذكر بهذا الخصوص حادثة حدثت معي، إذ وقف الدكتور المحاضر يخبرنا بفخر أنه توصل إلى الحقيقة وهي أن الإنسان خلق عظماً ثم كسي باللحم.
فوقفت وقلت: إن هذا ورد في قرآننا منذ مئات السنين.
قال: كيف ذلك؟
قلت: لقد أخبرنا القرآن الكريم عن كيفية خلق الإنسان في آيات كثيرة منها هذه الآية:
(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين). (المؤمنون 12-14).
فبهت لحظة ثم قال: أود أن أطلع على كتابكم هذا.
وهو يدرس الآن القرآن وفي طريقه إلى الحقيقة.
قال عمر: أحسنت اختيار الآية، فكل كلمة من كلماتها تعتبر حقيقة علمية، بل ويستعمل في كتاب الطب، كالقرار المكين والنطفة والعلقة.. والمضغة.. وأذكر حادثة مشابهة مرت معي، إذ وقف المحاضر ليؤكد أنه ثبت علمياً أن الإنسان يخلق من الرجل والمرأة مناصفة بعد أن كان العلم حتى ثلاث مئة سنة خلت يقول: إن الإنسان يخلق من الحيوان المنوي للرجل فقط، وما على الرحم إلا أن يغذيه ويكبره، فوقفت وذكرت تلك الآية:
(إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه....).
وقلت: أمشاج أي أخلاط تنشأ من اختلاط ماء الرجل وماء المرأة، فدهش وقال:
- عجيب أن يقول محمد مثل هذا الكلام من مئات السنين.
قلت: إنه كلام الله الذي خلق وقدر وأحاط بكل شيء وليس كلام محمد صلوات الله عليه.
قال المشرف: سأختم نقاشكم هذا بأمر حدث معي في إحدى زياراتي للدكتورة رحمها الله، ونحن نتدارس القرآن الكريم مرت معنا آية يقسم الله سبحانه وتعالى فيها بالأرض ذات الصدع، فأصابتني الدهشة وقلت:
- عجباً هذا أمر كشفه العلم حديثاً، إنه صدع عظيم يصل بين جوف الأرض الناري وبين ماء المحيط الأطلسي، ويمتد من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، إنه صمام أمان للأرض، وأعلنت أمامها رحمها الله أن القرآن لا يمكن أن يكون من صنع محمد، إنه كلام من خلق ونظم وقدر، وكم هزتني وبهرتني كلمات وعبارات وردت في القرآن من مثل تلك الآية التي حفظتها وأكررها دائماً:
(والسماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع) (الطارق 11-12).
ويقول العلم: نعمْ.. السماء ذات رجع عن الأرض وإلى الأرض تصعد عن الأرض كل ضار من أشعة وغيرها، وتعيد إلى الأرض قطرات المطر التي كانت بخاراً تصاعد منها وصدق الله خالق الأرض والسماء، وتدهشني وتشدني بقوة، كلمات وردت في سياق بعض الآيات من مثل: "من كل شيء موزون.." و"وكل شيء عنده بمقدار" و"ما ننزله إلا بقدر معلوم..".
قال أحمد: لا شك أن إعجاز القرآن الكريم باق ومستمر، هذه حقيقة ويسعدنا أن تصل إليها.
قال المشرف: وبوصولنا للحقيقة أختم هذه الندوة، ومعي العزيزة نورما التي شاركتني البحث، وستبقى معي لنواصل السير معاً.
قالت آن: وأنا يسعدني أن أشهد أمامكم أنه لا إله إلا الله، الذي نزل القرآن الكريم، وكانت أول آياته دعوة للعلم والإيمان معاً: "اقرأ باسم ربك.." لقد اهتديت إلى هذه الحقيقة بعد بحث مضن، ووجدتها بمساعدة الدكتورة سماح، التي كشفت لي الستار عنها، فكان أن رموها برصاص الضلال والجهل، لأنهم يريدون أن تستمر البشرية في الظلام.. وهم يحركونها كما يشاؤون..
ولم تستطع أن تكمل إذ غلبتها العبرات.
ووقف الصحافي الأمريكي لويس يعلن:
- وأنا لا أستطيع بعدما ذكر أمامي من أدلة وبراهين إلا أن أعلن أن القرآن من عند الله، وأنني سأعود إلى دين أجدادي، وأسلم نفسي وقلبي وروحي لتعاليم رب السموات والأرض، وأدعو الجميع ليشاركوني سعادتي..
وقال سامي: لقد كانت الحقيقة أمامي، ولكن لم أعرها اهتماماً طوال هذه السنوات الماضية، أما الآن فهي مستقرة بين جوانحي، ولن يستطيع أحد انتزاعها، سأحافظ عليها بمشيئة الله، ومعي كل الذين ساعدوني وأناروا لي الطريق.
ووقف سانج ممسكاً بيد ابنته أنديرا قائلاً:
- شكراً لكل ما كشفتموه لنا من حقائق، لقد أبصرت النور أنا وابنتي بمعيتكم، فكل كلمة قيلت كشفت جانباً من الستار، حتى بدا النور واضحاً، لمن أحب النور وسعى إليه، أما الذين يفضلون التيه ويسعدهم الظلام فإنني أرثي لهم، وأدعو الله أن يمنحهم الهداية ليشعروا بما أشعر به أنا وابنتي من راحة ورضى.
ووقفت الألمانية ليندا ومعها إبراهيم وكريم قائلة:
- باسمنا جميعاً أشكر المشرف، وكل الذين ساهموا معه في إغناء لغتنا الفرنسية، وإمتاعنا بمعلومات كانت غائبة عنا، وأصبحنا بشوق لمعرفة المزيد منها، وسنواصل الطريق معاً إن شاء الله.
ثم ودع رفاق الدورة كل منهم الآخر، وقد ربطت بينهم عاطفة إنسانية عجيبة، كأنما ألغت ما كان بينهم من فوارق، ووقف المشرف سعيداً يراقب حرارة وصدق اللحظات الأخيرة، في ظل التعارف الإنساني والتآخي الإنساني.
وتذكر الآية الكريمة:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات 13).
ثم اتجهت المجموعة المؤمنة نحو المشرف فقد دعاهم إليه، وعرض عليهم أن يجتمعوا كل أسبوع مرة في بيت واحد منهم، أو في أحد المتنزَّهات، وأن يواصلوا السير في الطريق الذي اختاروه، وقال:
- أدعوكم الأسبوع القادم أنا ونورما للاحتفال بزفافنا..
فهلل الجميع وغمرتهم الفرحة.
وقال سامي: ونحن جميعاً إن شاء الله –سنتابع مهمة الدكتورة سماح، ونكون مع منال وطارق والدكتور علاء في خدمة المعهد وتأدية رسالته.
ونظر إليه المشرف نظرة ذات مغزى وقال مبتسماً:
- وآمل أن يستقر كل منكم إلى كنف نصفه الآخر، لتنمو في ظل الحقيقة نبتات جديدة، تنير الطريق للتائهين والغافلين.
وحيّا بعضهم بعضاً بتحية الإسلام، وانطلق كل منهم إلى وجهته على أمل اللقاء المتجدد ومتابعة الطريق المستقيم، في ظل الأمن والرضى كما وصفهم ووعدهم القرآن الكريم:
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون). (فصلت 30-31).
إن الذي خلق الحقيقة علقماً لم يخلِ من أهل الحقيقة جيلاً.
انتهت...