متى ستجري الإنتخابات في المغرب؟
لعل أن كل مواطن مغربي في مثل عمري تزدحم في ذاكرته العشرات من الأحداث السياسية منذ أواسط الستينات إلى اليوم سوف يدرك جيدا أبعاد ودلالات هذا السؤال الإستنكاري الماكرمكر السياسة في المغرب وفي العالم العربي برمته .
ما زلت أذكروقتئذ وأنا طفل صغيرلم ألج بعد الصف الدراسي الأول صوت الراديو الخشبي الضخم يتحدث عن شيء إسمه الديموقراطية ... طبعا لم أدرك ولم أفهم ماذا يعنيه هذا المفهوم وما هو لونه ومذاق طعمه ، وهل هو يشبه لعبة خاصة للكبار فقط أم للكبار والصغار على حد سواء أم هوسلوك إنساني محصورعلى العقلاء من القوم من دون المجانين ...
وبعد عشر سنوات تقريبا ألفيت أن هذه الديموقراطية ظلت تكرر نفس رنتها الرتيبة ونفس قلقها الستيني في تفكيري ولم تتحرك قيد أنملة بل هبت عليها عاصفتان كاد حريقهما أن يشعل جغرافيتنا الجميلة ويجعل نارالثورة المزعومة تستمر في أكل أبنائها منذ تلك الرعدتان القاصفتان إلى اليوم .. وأعتقد جازما أنه لو قدر لواحدة منهما أن تقلبا الأرض من تحتنا ، فإن وضعنا اليوم سوف لن يكون من دون شك أفضل إن لم يكن أسوأ حالا من ليبيا أوسوريا أو أي نظام من تلك الأنظمة البائدة التي حكمتها رؤوس عربية عنترية ستالينية وشمولية لا مؤسسات سياسية شرعية تقوم عليها سوى آليات القهروقمع الحريات الفردية والعامة ... هبت إذن تلك العاصفتان من دون أن أفهم مرة أخرى لغز هذه الديموقراطية التي مازال الراديو الخشبي القديم يحدثنا عنها كل عشر سنوات ومن حيث لم أدر وجدتني ذات يوم نازلا إلى الشارع مع الحشود أواسط السبعينات في الحملة الإنتخابية ، مؤازا أحد الأطباء المرشحين باسم حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ، كنت أقتفي خطواته في الحومة وأردد وراءه كالببغاء ماكان يهتف به من شعارات يوزعها على الناس المستضعفين فوق الأرض .
وانتهت تلك الحملة الإنتخابية السبعينية وظل بوق الديموقراطية هو نفسه يجلجل من صندوق الراديو الخشبي القديم ووجدت صاحبنا الطبيب اليساري قد قلب معطفه اللينيني الأسود وحلق ذقنه وامتطى حصان الحزب الجديد الذي إخترعته السلطة ، ثم إختفى عن الأنظارجهة اليمين باحثا عن خيمة الزردة وحصته من الكعكة البرلمانية .
وظللت أنا واقفا مع الديموقراطية في نفس خط الأنطلاق وكبرسؤالها في ذهني اليافع وصارت للسؤال لحية وشعرا هيبيا أشعث مسدولا على الكتفين وينظر إلى الوطن بنظاراة تشبه قعر كأس الصينية الغيوانية وبدأت بالكاد أفك طلاسم هذا السر الأزلي الذي جعل الديموقراطية ببلادنا رابضة كالصخرة بين ترددها في أن تكون أو لاتكون ...
في مطلع الثمانينات أسندت لي مهمة مراقبة مكتب الإنتخاب في إحدى القرى الجبلية العميقة ، وفي فترة التدريب تعلمنا كيف نمارس هذه الديموقراطية باحترام جميع الألوان ، لكن مرة أخرى كانت الكلمة الأولى والأخيرة للسلطة التي إقتحمت علي فجأة مكتب الإقتراع وأمرتني بإتلاف جل أوراق الإقتراع من أجل إخلاء الملعب للون يميني واحد ... وكنت في ذلك الموقف الكوميدي بين خيارين لا ثالث لهما : إما أن أنفذ أمر القايد أو ...
وفي مطلع التسعينات مرة أخرى ينهض في ذهني نفس السؤال عن الديموقراطية ، لكن في هذه العشرية بجوقة سياسية أوسع بعد أن كانت البلاد تطيش على حافة السكتة القلبية ... كانت هذه المرة قصتي مع الديموقراطية أعمق وأقرب إلى الفهم بعد ثلاثة عقود من سؤالها الذي مكث رابضا في خط الإنطلاق .
وساقتني ظروف الكتابة والسياسة والإهتمام الإعلامي إلى الإنخراط في حزب منظمة العمل الديموقراطي الشعبي . كان الحزب أواخرالتسعينات يعيش دينامية البريستريكا والغلاسنوست .. يعيش في منعطف النقذ الذاتي والبحث عن أجوبته للأسئلة الأساسية من أجل الخروج من مرحلة قطيعة المؤسسات السياسية إلى مرحلة الإنخراط التام في الورش الديموقراطي الذي دشنته البلاد منذ أوائل التسعينات ...
كانت كل مقرات الحزب عبارة عن خلايا نحل لا تهدأ النقاشات السياسية العميقة بها بين فصيل الأوفياء لمنطلقات وجذورالتأسيس الستينية وبين فصيل الواقعية السياسية والقبول بلعبة الإصلاح السياسي وذلك بالإنخراط في المؤسسات القائمة بغض النظر عن نواقصها وعلاتها وشكلياتها وصوريتها ...
في سنة 1997 ضممت صوتي إلى صوت المرشحين في حزب (الواديبي) منظمة العمل الديموقراطي الشعبي وكان علي أن أمتثل لقرارات الحزب وأنزل كمرشح في الدائرة الحادية عشرة ..
لقد غمرتني الكثيرمن الشكوك في نوايا المخزن في إنجاح اللعبة الديموقراطية حتى نجنب وطننا العزيز السقوط في حافة السكتة القلبية .. وبعد أن كنت أغازل سؤال الديموقراطية من بعيد وجدت نفسي هذه المرة في معمعان أتونها اللاهب .. في عين رحاها التي تطحن السياسيين السذج مثلي ...
كان حزب (الواديبي) يعارك المشهد السياسي من دون مال ولا وسائل دعائية ولا مرجعية سياسية في أذهان المواطنين مثل أحزاب حلقات الكسكس والتعريجات ، ولذلك وجدت نفسي أخوض الحملة الإنتخابية وحيدا وأعزل ، بل كثيرا ما كنت أشعر بغربة في وطن مازال لم يعزم وقتئذ على نيته القوية والحقيقية في تكريس الديموقراطية كخيار لارجعة فيه من أجل ولوج عصر التقدم والحداثة ...
إن تجربتي الإنتخابية هاته قد مكنتني من الإقتراب أكثر من المادة الرمادية للمجتمع المغربي الذي علمه ضنك العيش أن يناصر طبقة الأقوياء من سماسرة وتجار الإنتخابات وليس طبقة الراسخين في أحلام وأوهام نظريات الستينات والسبعينات ...
أسدل الستار إذن مرة أخرى على مسرحية أخرى إسمها الإنتخابات وما ميزها أنني كنت أحد شخوصها المأساوية .. وجدت نفسي على خشبتها منعزلا في الركن القصي بعيدا عن بروجيكتور اللعبة .. غير أنني إن كنت أفخر بشيء حققته في حياتي فإنني ما أزال أفخر وأعتز بأن الحزب الذي أنتمي إليه قد تمكن من إدخال بعض الشرفاء من الناس إلى المعزل والتصويت له لا ضده .. التصويت لشيء إسمه الديموقراطية الحقيقية التي تشبعنا بالنضال من أجلها وما نزال نحلم بها ...
وسوم: العدد 776