جهاز الاستخبارات التركي.. دور متعاظم

قبل بعضة أيام فقط، قالت السلطات التركية إن جهاز الاستخبارات الوطني (MIT) قام باعتقال العقل المدبّر لتفجيرات ريحانلي التي أدّت الى مقتل حوالي ٥٢ مدنيا تركيا في عام ٢٠١٣. وأشارت السلطات الى انّ جهاز الاستخبارات قام بجلب يوسف نازيك (٣٤ عاما)، المتّهم الرئيسي في الوقوف خلف هذه التفجيرات، من مدينة اللاذقية السورية الى داخل تركيا في عملية استخباراتية دقيقة وعبر طرق آمنة.

تعدّ هذه العملية واحدة من أنجح العمليات الخارجية التي قام بها جهاز الاستخبارات التركي مؤخراً. ولا يعود ذلك الى وجود المطلوب في منطقة معادية فقط، بل الى حقيقة أنّه قد تمّ نقله منها بشكل سليم الى الداخل التركي أيضاً بالرغم من العراقيل المفترضة أمام القيام بمثل هذه العملية لناحية جمع المعلومات الاستخباراتية، وانخراط الفريق المعني بتنفيذ العملية.

وتسلّط هذه العملية الضوء على الدور الجريء والمتعاظم لجهاز الاستخبارات التركي في العمليات الخاصة السريّة التي يقوم بها مؤخراً خارج البلاد. إبان الحرب الباردة، ركّز العمل الاستخباراتي الخارجي للجهاز على قضايا حساسة تتعلق بالأنشطة النووية وإنتاج اليورانيوم في دول الكتلة السوفيتية المحيطة بتركيا. لكنّ كثيرين يعتبرون انّ دور الجهاز الخارجي كان شبه معدوم ليس بسبب تركيزه على الوضع الداخلي فقط، بل بسبب مصاعب كبيرة تتعلق بالموارد المادية والبشرية التي تخوله إجراء عمليات معقدة في الخارج، فضلاً عن عدم وجود قسم خاص بالعمليات الخارجية أساساً، واعتماد الجهاز بشكل كبير على تعاون الدول الحليفة.

في نهاية عهد عبدالله جول، أصدر الرئيس السابق تعليمات بإنشاء «مجموعة عمل الإصلاحات الدفاعية» لتكون الأولى من نوعها في هذا المجال، وضمّت المجموعة خبراء مدنيين وعسكريين يعملون بهدف واحد هو تحديد نقاط ضعف منظومة الدفاع في تركيا بما في ذلك المؤسسة العسكرية و«المؤسسات الأمنيّة»، للوصول في النهاية الى إنشاء قوات مسلّحة أكثر قوّة وفعاليّة وقادرة على التأقلم مع المتغيرات، مع الإبقاء على الموقف الاحترافي غير السياسي أو الأيديولوجي للمؤسسة في الوقت نفسه.

في نهاية عملها، نشرت المجموعة تقريراً من 220 صفحة موزّعة على 8 فصول عرف باسم «التقرير الدفاعي». خلاصة ما تمّ التوصل إليه هو أنّ الأجهزة الأمنيّة مجزّأة والتنسيق بينها ضعيف، وأنّ عناصرها بحاجة الى المزيد من التدريب والخبرة لكي يستطيعوا مواكبة التغيرات والتعامل مع التهديدات والمخاطر المستجدة. لكن تمّ تأجيل النظر به فيما بعد لمصلحة أولويات أخرى، ثم جاءت المحاولة الانقلابية الفاشلة لتفتح الملف من جديد، لا سيما في ظل المعلومات التي تتكشّف رويداً رويداً حول طبيعة الدور الذي كان من المفترض به أن يلعبه جهاز الاستخبارات الوطني، خصوصا أن مثل هذه المهمّة تعتبر جزءاً أساسياً من دوره الوقائي، وعادة ما تأتي على رأس سلّم أولوياته ومهامه.

إبان المحاولة الإنقلابية الفاشلة في ١٥ يوليو ٢٠١٦، تعرّض جهاز الاستخبارات التركية الى اختبار قاسٍ. وبالرغم من انّ البعض يشير الى نجاحه في القيام بمهامه، تلقى الجهاز انتقادات واسعة لفشله، كما قال البعض، في توقّع الانقلاب فضلاً عن تحذير الحكومة منه أو منع حصوله. وإثر ذلك، دفعت السلطات التركية باتجاه يقتضي بإعادة هيكلة الجهاز وإجراءات تعديلات واسعة تتعلق به، ليس لناحية الشكل فقط وإنما لناحية طريقة العمل والجهات الجديدة التي سيتبع لها.

وبناءً عليه، فقد تم نقل مسؤولية الجهاز من رئاسة الوزراء الى رئاسة الجمهورية، حيث أصبح مسؤولاً مباشرة أمام الرئاسة الاولى، كما أصبح رئيس الجمهورية صاحب الصلاحية في تعيين مدير الجهاز الذي يرسل تقاريره إلى الرئاسة فقط، الا اذا تلقى لاحقاً إيعازاً مغايراً منها.

ومن ضمن التغييرات الجديدة، تمّ إعطاء الجهاز صلاحيات واسعة تخوّله جمع المعلومات من المؤسسة العسكرية، الأمر الذي لم يكن متوافراً في السابق وأدّى في كثير من الأحيان الى نجاح الانقلابات العسكرية بسبب عدم قدرة الجهاز على الاطلاع على ما لدى المؤسسة العسكرية من معلومات.

التغيير الأهم من الناحية العملية هو إنشاء قسمين رئيسييّن لجهاز الاستخبارات الوطنية التركية، قسم متخصّص بالعمليات الداخلية ويركّز على الوضع الداخلي ومكافحة عمليات التجسس المحليّة، وقسم متخصّص بالعمليات الخارجيّة ويركّز على عمليات التجسس وجمع المعلومات الخارجيّة، على أن يكون هناك وحدة تنسيق في جهاز الاستخبارات هدفها تنسيق العمليات بين الفرعين الداخلي والخارجي.

وتشير العمليات الناجحة التي قام بها الجهاز الى انّ إعادة الهيكلة قد أعطته فعالية أكبر، لا سيما فيما يتعلق بالعمليات الخارجية. ووفقاً للمعلومات المتاحة، فقد نجح جهاز الاستخبارات التركي خلال العامين الماضيين بالقيام بعمليات سريّة استطاع من خلالها جلب ٨٠ مواطناً تركياً من ١٨ دولة مختلفة، وذلك على خلفية المحاولة الانقلابية الفاشلة التي تمّ تنفيذها في يونيو من عام ٢٠١٦. وباستثناء عملية واحدة يعتقد أنّ جهاز الاستخبارات التركي كان قد نفّذها في منغوليا في يوليو الماضي، وفشل خلالها في جلب المطلوبين أثناء محاولة إقلاع الطائرة، لم يتم الإشارة الى أي عمليات فاشلة أخرى.

لم يسبق للجهاز الاستخبارات التركي أن نشط بهذا المستوى على الصعيد الخارجي، ومن المنتظر أن يكتسب دوره أهمية أكبر في المرحلة اللاحقة، لا سيما في ظل تزايد مصادر المخاطر التي يتعرض لها الامن القومي التركي من قبل حزام الدول الفاشلة التي بدأت تنتشر بشكل غير مسبوق في محيط تركيا، وهو ما سيعني بالضرورة مواجهة الجهاز المزيد من العوائق والتحديات المنتظرة لاحقاً.

وسوم: العدد 790