ما الجديد في خطبة عبّاس؟
أثارت الحملة الإعلامية الترويجية لخطبة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، شعورًا لدى كثيرين بأنّه سيشتمل على جديد، وأنّ هذا الجديد سيتضمن بالضرورة قرارات مصيرية بشأن العلاقة مع الاحتلال الصهيوني، ومع الولايات المتحدة ومشروع رئيسها "صفقة القرن". جديد ينقل الموقف الفلسطيني من إطار الرفض المبدئي للمشروع الأميركي إلى حيّز المواجهة العملية للاحتلال، عبر اتخاذ قرارات وإجراءات عملية، تنقل الوضع الفلسطيني برمته من مرحلة إلى أخرى.
شملت الحملة الدعوة إلى تفويض عباس عبر إطلاق شعار "فوضناك"، والدعوة إلى إصدار بيانات التأييد والخروج إلى الشارع قبل الخطبة وبعدها، وبدا وكأنّ الأمر بمثابة استفتاء جديد على شعبية الرئيس وشرعيته، في خضم الصراع المحتدم مع حركة حماس التي أعلنت مسبقًا رفضها هذا التفويض في اجتماع لأعضائها في المجلس التشريعي، وتطوّر الأمر إلى اعتقالات متبادلة، طاولت عشرات في غزة والضفة الغربية.
بعد الخطبة، بدا وكأنّ الشارع الفلسطيني أُصيب بصدمة، فهي لم تحقق ما كان يرجوه منها، وذهب بعضهم إلى المقارنة بينها وبين خطبة الرئيس ياسر عرفات في العام 1974، حين توجّه إلى الأمم المتحدة حاملًا غصن الزيتون بيد والبندقية باليد الأخرى، مناشدًا المجتمع الدولي عدم إسقاط غصن الزيتون من يده، بينما يجدّد عباس تعهده غير المبرّر أو المطلوب، والذي جاء خارج السياق، بعدم الذهاب إلى أساليب كفاح أخرى وصفها بـ "العنف والإرهاب"، "مهما كانت الظروف". وفي ذلك إدانة للنضال الفلسطيني في مراحله السابقة، وفي تصدّيه للاجتياحات في غزة أو مدن الضفة، وفي هبّاته المتكرّرة، وبطولات أفراده، ووسمها بالإرهاب، فضلًا عن أنّه يُفقد النضال الفلسطيني حقه المشروع في اللجوء إلى جميع الوسائل المتاحة للمقاومة ودحر الاحتلال، ضمن الظروف المتاحة، ويجعل العدو مرتاحًا إلى فقدان الفلسطينيين تلك الوسائل، ولو حتى بالتلويح بها.
ثمّة تكرار في خطبة الرئيس لمواقفه السابقة التي بات واضحًا أنّ التجارب والأيام، وربع قرن من المفاوضات والتنسيق الأمني، وتطمين الجار الصهيوني، لم تفلح في حصوله على سلطةٍ
بات يردّد أنّها "بلا سلطة"، فهو يدور في الدائرة نفسها، دائرة المفاوضات التي كرّر أنّه لم يرفضها قط، ودعا إلى العودة إليها، وإلى إطار حل الدولتين الذي التهمته المستوطنات، والتي لم يتعرّض لها الرئيس في خطبته إلّا بكلماتٍ محدودة لدى انتقاده مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو التكرار الإيجابي ضمن مواقفه السابقة، حين أكّد رفضه هذا المشروع.
ولكن ثمّة ما هو جديد أيضًا في الخطبة، وما يختلف قليلًا أو كثيرًا عن مواقفه السابقة، فعلى إثر "صفقة القرن" كان الرئيس عباس قد أعلن، في ذروة رفضه لها، أنّ الولايات المتحدة لم تعد مؤهلة لرعاية عملية السلام، أمّا الآن فهي لم تعد الراعي المنفرد الوحيد. كما أنّه لم ينفض اليد بعد من العلاقة معها، ويتعدّى ذلك إلى دعوتها إلى إعادة النظر في موقفها، ليؤكد وجود اتفاقات مع الولايات المتحدة جرى التوقيع عليها سابقًا، وقد سبق أن أعلن ذلك في خطبته أمام المجلس الوطني، حين تحدّث عن اتفاقه مع الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، على عدم الانضمام إلى منظمات دولية، منها محكمة الجنايات، وقال في حينه إنّه في حِلّ الآن من هذه الاتفاق، لكنّه أمام الجمعية العامة قال إنّه "إما أن تلتزم (الولايات المتحدة) بما عليها، وإلّا فإننا لن نلتزم". بوضوح هذا يعني أنّ الرئيس محمود عباس ما زال ضمن دائرة التلويح بنقض الاتفاقات والخروج عنها، ولم يصل بعد إلى مرحلة اتخاذ القرار بذلك، وهذا يفسّر سبب تلكؤ السلطة الفلسطينية في اتخاد إجراءاتٍ فعليةٍ لدى محكمة الجنايات الدولية على سبيل المثال.
ما ينطبق على الموقف من الاتفاقات المبرمة مع الولايات المتحدة، ينطبق بشكل أوضح مع الكيان الصهيوني، فعلى الرغم من قرارات المجلس الوطني، وقبله بعام قرارات المجلس المركزي، "بإعادة النظر في الاتفاقات الموقعة مع الحكومة الإسرائيلية، السياسية والاقتصادية والأمنية، وفي مستقبل السلطة الفلسطينية، وتعليق الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل إلى حين اعتراف إسرائيل بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو"، إلّا أنّ الرئيس عباس اكتفى بالتلويح بها مجدّدًا، ولم يعلن أي قراراتٍ حاسمة في هذا الاتجاه، تاركًا الكرة مرة أخرى، مثلما كانت ربع قرن، في الملعب الإسرائيلي، من دون تحديد أي خطوات عملية أو سقف زمني.
على الرغم من إدانته قانون القومية اليهودي، إلّا أنّ الرئيس عباس لم يلتقط مخاطره الكاملة، فقد تساءل عن حدود دولة إسرائيل، ورأى فيه انتقاصًا من حقوق الفلسطينيين في مناطق 1948، وتمييزًا عنصريًا ضدهم. لم يدرك أنّ مخاطر هذا القانون تمتد إلى ما هو أكثر، وأنّ نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري الصهيوني يشمل الكل الفلسطيني؛ في مناطق 1948، والضفة والقطاع عبر الاحتلال واعتبار الاستيطان قيمة قومية عليا، وفي الشتات حيث يُمنع الفلسطيني من العودة. ولعل هذا يفسّر قلة اهتمام سلطة رام الله بالتحرّك ضدّ هذا القانون، وعدم رؤيتها له باعتباره يشكّل مادة موحِدة لنضال الشعب الفلسطيني ضدّه، ولحشد جميع أحرار العالم في تحالفٍ عالمي لمواجهة نظام الأبارتهايد الصهيوني.
الطامّة الكبرى في الخطبة رفع الخلاف الداخلي مع حركة حماس إلى مصافِّ تناقض رئيس، لم تكن منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة قطعًا المكان الملائم للحديث عنه، فالانقسام على علّاته
شأن فلسطيني داخلي، وأساس حلّه هو الاتفاق على المشروع الوطني الفلسطيني. ومن المستغرب الحديث عن سُبل مواجهته، ومن على منبر دولي، بهذه اللهجة التي فاقت في حدّتها ما تحدّثنا به عن سُبل مواجهة الاحتلال الذي سنواجهه بالامتناع عن العنف، أمّا الانقسام فسيواجه بحزم، وبإخلاء طرفنا، والتنصّل من واجباتنا، وعدم تحمّل أي مسؤولية. تُرى هل توجد أي سلطة في العالم تقرّر ذلك بالنسبة إلى جزء من أرضها، ولبنة أساسية في شعبها، مهما كان الخلاف والصراع؟ فما بالك والكل يواجه عدوًا محتلًا واحدًا!
خلاصة القول، الجديد في الخطبة أنّ الرئيس ما زال مستمرًا في سياسته نفسها، لم يغيّر منها قيد أنملة، يرفض المشروع الأميركي الصهيوني، لعلمه أنّه لا دور له ولا للسلطة الفلسطينية فيه، لكنّه لا يتخذ أي خطواتٍ عملية ضد هذا المشروع، وما يزال يتعلق بذيول مرحلةٍ ولّت، وبأوهام سلام متخيّل، وبدلًا من أن يسعى جهده إلى تحقيق وحدة شعبه، وأن يرى أنّ "صفقة القرن" تهدف إلى ابتلاع الضفة، وتحييد غزة في مرحلتها الأولى، فإنّ السياسات العملية التي تُمارس تساعد على تحقيق هذه الأهداف.
ما تزال هنالك فرصة في البناء على موقف الرئيس الرافض "صفقة القرن"، إذا ما اتخذ المجلس المركزي في اجتماعه المقبل قراراتٍ حقيقية باتجاه إعادة النظر في الاتفاقات المعقودة مع الكيان الصهيوني، وأولها التنسيق الأمني واتفاق أوسلو. إذا ما تمّ ذلك، فإنّ عقباتٍ وخلافاتٍ كثيرة في الساحة الفلسطينية ستزول، وقد نكون على أبواب مشروع وطني فلسطيني جديد، يوحّد مكونات الشعب كلها. وإذا ما لم يتحقق ذلك، فالمسؤولية كلها تقع على عاتق الذين يبيعون الأوهام لشعبنا.
وسوم: العدد 792