أزمة الخدمات والمظاهرات في العراق
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
مظاهرات مدن الجنوب، تطالب بمعالجة عجز الخدمات العامة وخاصة الكهرباء وابنية المدارس ونظافة المدن وسواها وهي احتياجات ملحة اتخذها المتظاهرون منذ عام 2011، من بين مطالب اخرى، موضوعا اساسيا للإصلاح. لكن هذا الخلل الكبير غالبا ما يختزل الى مشكلة الفساد المالي او يحال الى التوافقية السياسية او تمسّك احزاب وقيادات بمواقعها على حساب الحاجة الى التداول والتجديد... دون تناول نظام الإدارة الذي يتولى مهام البناء التحتي والخدمات العامة ليساعد في الكشف عن نواقصه القاتلة وكيفية مواجهتها.
لقد بقيت قدرة العراق على البناء والإنشاء والتطوير وما اليها، والتي يحتويها مضمون التنمية، ضئيلة بعد ان تآكلت زمن الحصار، ولم يتعهدها السياسيون والخبراء والمثقفون بالاهتمام الذي تستحقه. بل ان مفهوم التنمية يكتنفه الغموض والانفصام عن المجري الفعلي للوقائع والتسطيح والاستعجال في الوسط السياسي، مع التقليل من اهمية امتلاك العراق ذاتيا للقدرة على التطوير، وفي النهاية انغراس فعل التطوير في قوام النظام، وفي هذا الخضم كان البرنامج الاستثماري الحكومي ضحية العجز والفشل.
ان بناية المدرسة ومحطة توليد الكهرباء والطريق وشبكة الإرواء... هذه منتجات للنظام الاقتصادي مثلما ان الحبوب والخضروات منتجات زراعية والسيارات واجهزة المنزل منتجات صناعية. وكما توجد طاقات انتاج زراعية وصناعية لا بد ان يمتلك أي بلد في العالم مثلها لإنتاج الطرق والمساكن وابنية التعليم ومنظومات الصرف الصحي وسواها. وهدف التنمية بلوغ الاقتصاد الوطني القدرة الذاتية الكافية والمتنامية على انتاج وسائل الانتاج والبناء التحتي، هذه هي التنمية التي يُمسخ مفهومها لترتسم في اذهان الناس على انها عملية شراء تقوم بها دوائر الدولة بموارد النفط.
جميع المشاريع الكبرى قبل الحصار انجزتها شركات اجنبية مقتدرة، والتي امتنعت عن دخول العراق منذ بدء الحصار، ولم تستأنف العمل في العراق بعد عام 2003 لأسباب منها الاضطراب الامني، وايضا السمعة السيئة عن سوق الاعمال والبيروقراطية في بلادنا. والتي اشاعتها الكثير من التقارير التي تستقي معلوماتها من عراقيين تعمدوا المبالغة بسوء الاوضاع لدوافع سياسية او لإحتكار التعاقد مع الدولة. وبقي الموقف السياسي من العراق سلبيا في الخارج وتأثرت به الشركات الأوربية والأمريكية، ويعرف المتابعون ان تغذية هذا الموقف مستمرة ولو انها انحسرت في الثلاث سنوات الأخيرة لكن التراكم ضخم، واشتغلت عليه مؤسسات اعلام ومراكز نشر ممولة جيدا.
ولا يعني ذلك التقليل من الفساد المستشري في اوساط متنفذة سياسيا وفي دوائر الدولة وتجاوزت اطماعها الحد، ولذا تتوقع الشركات الرصينة الابتزاز فتُحجِم. ومن المعروف ان اسواق المال والاعمال الدولية ترفع المخاطر المتوقعة في دول مثل العراق، ما ينعكس على تكاليف التأمين والحراسات والفوائد على القروض والدفع بالآجل، فترتفع كثيرا اسعار المشاريع لتضاف صعوبات اخرى تعيق حضور الشركات الأجنبية.
تمس الحاجة الى شركات متخصصة عالية الكفاءة التقنية والمالية والإدارية تقيم في العراق بإمكانات متكاملة لكل ميدان من ميادين البناء التحتي: توليد ونقل وتوزيع الكهرباء؛ منظومات مياه الشرب الكبيرة؛ منظومات الصرف الصحي؛ الطرق والجسور؛ ابنية المدارس والتعليم العالي؛ المستشفيات ووحدات الخدمات الطبية؛ الري والبزل؛ السكك الحديد؛... وهكذا.
ويتطلب انتقاء هذه الشركات، والاتفاق معها، اتصالات دولية نزيهة وخبيرة، اقتصاديا وماليا وهندسيا، ومفاوضات ماهرة، ورقابة دقيقة وحازمة على الاتصال والتفاوض والتعاقد. وسيكون حضور هذه الشركات مقدمة لمغادرة قواعد العمل الحالية لاستدراج المقاولين والتعاقد معهم، لان تلك القواعد لا تناسب العراق ابدا وتفسح المجال لوباء الفساد وخيانة الامانة.
والبديل الأفضل هو التعاقد الدائم مع شركات كبرى رصينة على اساس "الكلفة زائد" أي الكلفة يضاف عليها هامش ربح. وهذا الاسلوب يفترض وجود وحدات عالية الكفاءة في حساب تكاليف المشاريع على اسس قياسية، أي الكلفة بشروط الأداء الأمثل، وذلك لمراقبة مجرى الكلفة الفعلية ومديات انحرافها عن المعدلات المعيارية، والى جانبها وحدات رقابة متخصصة على سلامة المواصفات والتصاميم على الارض. ويتطلب عمل هذه الوحدات، بنوعيها، خبراء من العراق والخارج في اعداد وتنفيذ المشاريع. وبذلك تعمل الشركات على اساس الكلفة المحسوبة جيدا والمدققة، ورقابة عالية المستوى ونزيهة، وهذه الشركات مقيمة بصفة دائمة في العراق.
بيد ان اعتماد البرنامج الاستثماري الحكومي كليا على شركات اجنبية يتناقض مع مفهوم التنمية، المبين آنفا، وهي الهدف الذي لا بد ان يبقى حاضرا في سياسة الاقتصاد وادارة الاستثمار الحكومي. ولذا من الضروري ان تبادر وزارات التخطيط والاعمار والصناعة وبالتعاون مع جهات اخرى على تكوين شركات في القطاع الخاص العراقي بموازاة تلك الشركات الأجنبية آنفة الذكر وتماثلها عبر تجميع امكانات المقاولات الخاصة ودعمها بخبراء وفنيين اجانب وربما بمشاركة فرق عمل اجنبية متكاملة مندرجة في ادارة الشركات الجديدة هذه. ويا ليتها الوزارات باشرت من الآن بتكوين تلك الشركات والتي سيكون لها دور كبير في ازدهار العراق وللتعويض عن فشل واضح في اعداد وتنفيذ البرنامج الاستثماري الحكومي وهدر مخجل للموارد طيلة سنين. لو فعلتها تحيي الأمل بالمستقبل لأن تكوين مثل هذه الشركات سوف يقدم دليلا على حيوية العقل الاداري والتنظيمي العراقي واستعداده للأبتكار في مواجهة التحديات وادارة التنمية.
وثمة ضرورة عملية للأنتفاع من خبرات وكوادر دوائر القطاع العام وتعبئتها لإنجاز الكثير من المشاريع. إذ توجد سبع شركات مقاولات فقط في وزارة الاعمار والذي يطّلع على انظمتها الداخلية واقسامها وصلاحياتها لا يُلام عندما يتصور انها لوحدها قادرة على اعمار العراق. وهناك الكثير من الوحدات الهندسية والمهندسين والفنيين في مختلف اجهزة الدولة باختصاصات لها صلة وثيقة بتصميم وتنفيذ المشاريع، ناهيك عن الموارد البشرية لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي وملاكات وزارة العلوم والتكنولوجيا المدمجة بها وكليات الهندسة في جامعات العراق... فمتى يبادر مجلس الوزراء بإعادة تنظيم وتنسيق هذه الامكانات المعطلة ويوظفها في بناء مدارس ومستشفيات وطرق... وتحقيق انجازات كبيرة بتكاليف منخفضة، لا ادري ما هي الموانع. لماذا الإصرار على تعطيل اجهزة تابعة للدولة، فلقد نجحت شركات البناء والتشييد الحكومية زمن الحصار ايّما نجاح، ولا بد من استجابة مسؤولة للمطالب المشروعة الآن، وهي فرصة للنجاح السياسي ايضا، على الأقل، ان لم تكن لتبرئة الذمة.
المقترحات آنفا مفردات محددة في سياق الانتقال من الوضع الحالي لإدارة برامج ومشاريع الاستثمار وعقود التجهيزات نحو صيغة مغايرة، قوامها استحداث جهاز موحّد ويدار مركزيا يتولى هذه المهام بديلا عن التشكيلات المتناثرة حاليا في الوزارات والمحافظات. هذا الجهاز الجديد تجتمع فيه ملاكات التشكيلات الحالية التي تزاول مهام ادارة المشاريع وعقود المقاولات والتجهيزات، ويصمم لضمان الكفاءة والنزاهة.
ومن المفروض ان المحافظات ترحب بهذا التحول طالما تريد فعلا توفير خدمات للمواطنين. تجميع وتركيز الإمكانات أفضل، لأن المركزية في هذا المجال اكفأ من اللامركزية بكثير واصبح هذا التغيير ملحا لتنظيف جهاز الدولة الاقتصادي من بؤر الفساد والسيطرة على التكاليف، وتقليص فجوة البناء التحتي بمدة قصيرة وبالكم المحدود من الموارد قياسا بسكان العراق والنمو السريع في الطلب على الخدمات. ومن المتوقع ان يسهم هذه التغيير المقترح بتسهيل اعادة اعمار المناطق التي تضررت من الحرب، ولا يمكن لأحد، يعرف كيف تعمل دوائر الدولة، أن يتصور امكانية اعادة الأعمار مع الأسلوب الحالي لإدارة برنامج الاستثمار الحكومي، ولذا من الأفضل اتخاذ قرارات تبدو صعبة لكنها عمليا في المتناول.
وسوم: العدد 792