من نتنياهو إلى «الشيخ مونّس»!
تحت عنوان «مقياس الصدق»، نشر رئيس تحرير جريدة «الاخبار» النصراوية محمود ابو رجب، في افتتاحية جريدته، ما نصّه: «يقول الخبراء ان هناك للصدق مقياسا له ثلاثة أركان: أولها الكلام وله فقط نسبة 7٪ من المقياس. اما الباقي فلنبرة الصوت وموسيقاه بنسبة 38٪. وللغة الجسد وتعابير الوجه نسبة 55٪. فإذا كان الانسان صادقا في كلامه فله سبع درجات من مئة، واذا تلاءم الكلام مع نغمة الصوت ولغة الجسد، حظي المتكلم بثقة السامعين، واكّدوا صدقه».
تصادف ان كانت هذه الافتتاحية امامي وانا اتابع خطاب رئيس الحكومة الاسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مساء يوم الخميس الماضي، في الجمعية العامة للامم المتحدة. وكان طبيعيا جدا ان اعمل على تطبيق نظرية «مقياس الصدق» هذه، على ما اسمعه من خطاب نتنياهو، واركّز، (رغم ما اعانيه من ضعف في السمع)، على نبرة صوته، وعلى لغة جسده، وازيد التركيز على تعابير وجهه التي يحاول جاهدا، وعبثا، فرضها ورسمها اراديا.
خلصت من هذه التجربة الى قناعة اكيدة، ان نتنياهو لم يكن صادقا بأكثر من نسبة 7٪ فقط. إذ رغم قدرات نتنياهو البلاغية المعروفة، ولغته الانكليزية السليمة، واتقانه «فن» الخطابة وتمرّسه فيه على مدى عقود، فإن تعابير وجهه ولغة جسده كانت تقول «بصوت جهوري»: الحقيقة ان ليس ما اقوله صحيحا، الصحيح هو ان مشكلة اسرائيل الحقيقية والثابتة والدائمة مع فلسطين وشعب فلسطين، وليست مع ايران، ولا مع شعب ايران، ليست مع لبنان، ولا مع حزب الله في لبنان. وذلك رغم اقتصار تطرقه الى القضية والمشكلة الحقيقية، قضية فلسطين وارض فلسطين وشعب فلسطين، بنسبة لا تكاد تشغل الـ7٪ من ذلك الخطاب.
نجح نتنياهو في تقديم عرض مسرحي بهر به سامعيه، ومشاهديه طبعا. لقد أدّى دورا تمثيليا مُعزّزا بمؤثرات وصور وخرائط، نال بسببه شهادات تقدير من صحافيين وكتاب رصينين وعاقلين، عادة، في اسرائيل، وفي غير اسرائيل ايضا. لكن الحقيقة هي المنتصرة دائما في النهاية. وكما يقولون، فإن «حبل الكذب قصير». الا ان حبل كذب نتنياهو هذه المرة كان قصيرا جدا. وقبل ان تمر 24 ساعة على «كشفه» مخزنا ذريا في العاصمة الايرانية، «طهران» وتحديد موقعه بدقة، وعرض صورته، قطع «مقص» البنتاغون والادارة الأمريكية الحليفة لنتنياهو وحكومته اليمينية العنصرية الابرتهايدية «حبل» كذبه، وقالت بوضوح انها تعرف ذلك المبنى وتراقبه وهو مجرد مخزن لا علاقة له ولا تخزّن فيه أي من النشاطات ذات العلاقة بالطاقة الذرية الايرانية، وعزز هذا التكذيب الأمريكي المدوي لنتنياهو، موقف عاقل ومعتدل للوكالة الدولية الرئيسية المسؤولة عن منع انتشار السلاح الذري والنووي، ولحق بكل ذلك اصطحاب وزير الخارجية اللبنانية للسفراء الاجانب في بلده، لبعض المواقع التي تحدث عنها نتنياهو، «مؤكدا» انها مواقع سرية لحزب الله، يخزّن فيها صواريخ تطال العمق الاسرائيلي، ويُجري عليها عمليات تطوير تحولها الى صواريخ دقيقة.
ثم، بأي حق يمكن لاسرائيل، وهي الدولة الوحيدة في المنطقة، التي تمتلك وتصنع اسلحة ذرية، (كما تؤكد ذلك كل المصادر ذات العلاقة)، ان تتصدى لحرمان غيرها مما تنعم به؟.
يجدر بكل دولة في المنطقة، طالما بقيت اسرائيل على ما هي عليه، ان تخجل وأن يتم تعييرها، ليس اذا حاولت ان تمتلك اسلحة ذرية، بل اذا هي لم تحاول ذلك.
في هذا السياق، وقبل الانتقال الى ملاحظة تالية في هذا المقال، لا بد من تسجيل قناعة راسخة، ان أي سلاح ذري او نووي بيد ايران، الآن او في مستقبل قريب او بعيد، لا يشكل باي حال، خطرا على أي دولة عربية، اكثر، او حتى مثل، امتلاك اسرائيل له. ويجدر بنا هنا ان نلاحظ ان الفلسطينيين ليسوا مستهدفين بهذا السلاح الاسرائيلي، فإلقاء قنبلة ذرية على نابلس او الخليل او غزة، يعني تدمير تل ابيب وانهاء الحياة فيها. انه سلاح اسرائيلي موجّه للدول العربية جميعها، وكلما كانت تلك الدولة ابعد، كانت مهددة اكثر.
حربنا مع الحركة الصهيونية العنصرية الاستعمارية لم تنتهِ بعد. تنتهي الحرب، كل حرب، بلا استثناء، وعلى مدى التاريخ، باستسلام المهزوم. كل مواجهة عسكرية هي معركة. وهناك معارك غير عسكرية ايضا لا تحصى. واذا اردنا التدقيق في التعابير، فإن في كل معركة غالبا ومغلوبا، وفي كل حرب منتصرا ومهزوما. كان العرب، والفلسطينيون منهم، في خانة المغلوب في اكثر تلك المعارك، وكانوا في خانة «اللاغالب واللا مغلوب» في بعضها، مثل معركة الكرامة في آذار/مارس 1968، وفي تشرين الأول/اكتوبر 1973، وفي صيف 1982 (اجتياح لبنان وحصار بيروت)، وفي تموز/يوليو 2006، في تصدي حزب الله للجيش الاسرائيلي، دون ان ننسى ارغام المقاومة اللبنانية لاسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان سنة 2000. غير ان كل ما شهده هذا القرن من الصراع، هو مجرد معارك في حرب واحدة، لم تنتهِ بعد، في حين ان الغزوات الصليبية دامت مئتي عام، وانتهت الى هزيمة الغزاة.
كادت اسرائيل تتيقن ان زيارة الرئيس المصري، انور السادات، لها، والقاء خطاب في الكنيست (البرلمان) الاسرائيلي، سنة 1979، هي بدء «الإستسلام العربي». لم يحصل ذلك. ولم تتمكن اسرائيل من فرض شروطها على العرب، ولا على مصر. واضطرت، بمفاوضات جدية وحقيقية الى الانسحاب من كل شبه جزيرة سيناء المحتلة، باستثناء بضعة كيلومترات مربعة في منطقة طابا، انسحبت منها نتيجة تحكيم دولي.
كادت اسرائيل تتيقن ان قبول الفلسطينيين باتفاقية اوسلو، هي بدء «الإستسلام الفلسطيني». لم يحصل ذلك. وبدل ان تبدأ اسرائيل مفاوضات جدية مع القيادة الشرعية الفلسطينية، حولت كل لقاء يسميه الفلسطينيون «جولة مفاوضات»، الى لقاء لفرض إملاءات، وكانت النتيجة المنطقية والحتمية، ان انفجرت في وجههم، وفي وجهنا ايضا، «الإنتفاضة الثانية».
لإسرائيل ان تتيقن: لن يستسلم العرب.
لإسرائيل ان تتيقن: لن يستسلم الفلسطينيون.
لإسرائيل ان تتيقن: حتى لو استسلم العرب،( وهذا مستحيل)، لن يستسلم الفلسطينيون.
من المفارقات الطريفة، ذات الدلالة، انه في يوم الخميس ، 27.9.2018، واثناء القاء نتنياهو لخطابه في الامم المتحدة، كانت طائرة شركة «سوِيس إير» من طراز بوينغ 777، في رحلتها رقم إل إكس 252، من زيوريخ الى مطار اللد، (مطار بن غوريون حاليا)، وعند دخولها المجال الجوي الاسرائيلي، لاحظ ركابها ان اسم «الشيخ مْوَنِّس» ظهر على الشاشات امامهم بدل اسم «تل ابيب»، وعندما تقدمت اسرائيل بالشكوى من هذا الحدث الطريف، وعدت شركة الطيران السويسرية التحقيق بالامر.
لمن لا يعرفون: قرية الشيخ مْوَنِّس هي قرية من «قضاء يافا» وهي الآن حي من احياء تل ابيب، اقيمت وبنيت عليه «جامعة تل ابيب».
أقول، و(رزقي على الله): لا يسعى، اللاجئون من ابناء قرية الشيخ مْوَنِّس إلى هدم وتدمير جامعة تل ابيب، لكن لهم حقوقا لن يتنازلوا عنها ابدا، وفي «الشرع»: «هناك ما يسترد، وهناك ما يُعوّض بمثله، وهناك ما يُعوّض بقيمته»، ذلك اننا خرجنا من عهد شريعة حمورابي البابلي، وقانون الإنتقام والأخذ بالثأر، قانون «السن بالسن، والعين بالعين». لكن ذلك لا يعني ابدا التنازل عن الحقوق المشروعة.
وسوم: العدد 793