الوعي الاختياري لشعوب دول الجنوب
لم يعد خافياً على احد بأن الشعوب التي لاتمتلك انظمة حكم ديمقراطية تعيش في حالة من الفوضى على جميع المستويات الداخلية والخارجية، فضلاً عن كونها تعيش حالة من ضياع الامن والاستقرار بدرجة ان فوبيا الازمات تلاحقها في كل لحظة تمر من تاريخها، ولاتقتصر الازمات على صعيد محدد انما تُطال جميعها خاصة حين يتعلق الامر بحاجيات الشعب، وذلك ما يفرض بقوة قضية الاختيار الشعبي لقادته ولمن يتحمل مسؤولياته امامهم.
ان تلك الفرضيات التي دائما نتناقلها عبر الكتابات ووسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة تعد في الكثير من الاحيان رسائل مبطنة الى الشعب كي يدرك بأن الوقت قد حان لفهم العملية الديمقراطية وفق معايير مغايرة ، مفاهيم تستند على العمل لا على الاقول، على المنطق لا على الشعارات، فعلى الرغم من ايماننا باننا نعيش في واقع نحتاج فيه الى قاعدة متلاحمة وسلطة منظمة، نجدنا في الوقت نفسه نحاول تجاوز الكثير من الامور التي هي في مضمونها تشكل معالم السلطة وملامحها،
وبنظرة سريعة الى الانظمة السلطوية في الشرق الاوسط وغالبية دول الجنوب التي تتميز بتعدد مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية وعلى هذا الاساس سميت بدول الجنوب وفق خط وهمي يفصل الدول المتقدمة عن الدول الفقيرة منذ السبعينيات من القرن الماضي ، نجد هذه الدول تعيش حالة من الفوضى السلطوية بجميع تصنيفاتها سواء العلمانية منها او الثيوقراطية " الدينية " ، فليس هناك اية ضوابط تتحكم بها هذه الدول وهي منغمسة تماما في العدمية السلطوية ولايمكن اعتبار الدكتاتورية والقمع وحتى الاحتلال " الاستعمار " هي فقط الاسباب التي جعلت هذه الدول تعيش في تلك الدوامة الفوضوية، لان الشعوب ايضا تساهم وبشكل كبير ومباشر في ترسيخ تلك الانظمة وفق مسارات قد تكون مخططة لها من قبل تلك السلطوية احياناً، ومسارات اخرى تتعلق بوعي الشعوب بمفهوم السلطوية ضمن دائرة النعرات القبلية والانتماءات المذهبية والدينية .
ولو قارنا بين تلك الانظمة وبين غيرها في دول الشمال سنجد فارقاً واضحاً في البنية الاساسية التي تعتمدها الشعوب لمفهوم السلطوية، بحيث يكون الوعي في الاختيار هو الاساس في الشمال، والانتماء القبلي العشائري او حتى الجغرافي هو الاساس في الجنوب وبين الوعيين يكمن القيمة الفعلية للسلطوية نفسها، فحين تكون مختاراً لانك او حزبك يملك مشروعا قوميا يحافظ به على قوة الدولة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وقتها سيكون ذلك الوعي الاختياري كالرقيب على جميع افعالك واعمالك وعلى ما تقدمه للدولة وما تنتجه للشعب، وسيكون لديك اعتبارات قد يراها البعض قمعية لكنها تخدم في الاساس المصلحة العامة للدولة والتي هي فوق جميع الاعتبارات الاخرى فالامن القومي مثلا لايمكن المساومة عليه في هذه الدول، وقد تمارس الدولة احيانا قمع فيئة او جماعة او حزب او شخصيات من اجل تثبيت دعائم الامن القومي، وهذا ما قد يراه الاخرون لاسيما في دول الجنوب بانه ايضا قمع ودكتاتورية ولكنهم يتجاهلون تلك القاعدة الاساسية التي تبنى الدول المتقدمة عليها فيما يتعلق بالامن القومي لديها، فهذا الامن لايمس السيادة السلطوية فقط انما يمس الدولة باكملها وهذا ما يعني بالتالي ان حماية الشعب " الدولة " هي القيمة الفعلية للانطمة لديها، في حين تتجاوز دول الجنوب تلك القيمة الفعلية لانظمتها، التي الاساس الفعلي لديها هي قوام السلطوية وقدسية الاشخاص والاحزاب السلطوية بعيداً عن المعايير التي يمكن تتماسك بها الدولة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، ومن ذلك يظهر ماهية الاختيار لدى شعوب الجنوب بحيث اللاوعي الاختياري يتسبب في خلق جدران وهمية يتم من خلالها تقديس الاشخاص " السلطوية " وتمجيدهم بشكل يتنافى كلياً مع ما تقدمه السلطوية للشعوب ، فالشمالي يختار السلطة وفق معايير ما تقدمه السلطة للشعب لاسيما في اهم حقول الحياة لديهم ولدى جميع المجتمعات ،المؤسسات التعليمية والمؤسسات الصحية باعتبارهما اهم عنصرين لبناء الفرد والشعوب والاوطان، والتي تعتبر اكبر فارق بين كل من دول الشمال و دول الجنوب حيث شعوب الاخيرة تختار وفق مسار لا يخدم الا فيئة صغيرة من فيئات المجتمع، ناهيك عن تجاهلها لاهم مقومات الحياة لدى الشعوب لاسيما على الصعيدين التعليمي والصحي.
ان تلك الفوارق ليست عرضية او هامشية يمكن تجاوزها من اجل سيادة السلطوية، وليست منعدمة القيمة للشعوب، بالعكس تماما فهي التي ترسخ مبدأ الديمقراطية الشعبية قبل السلطوية ومن خلالها يتم غرس المفاهيم الاخرى التي تعطي الدولة قيمتها الفعلية سيادياً وشعبياً، فالفرد في دول الشمال يعيش مقتنعاً بالسلطوية لديه لانه في الاصل صحياً مُهيأ وذهنياً ونفسياً مؤهل، وهذا ما تفتقر اليه دول الجنوب حيث الاولوية لديه تقديس السلطوية الدكتاتورية" القومية " او الدينية، حتى ان خروجها احياناً على السلطوية ليس الا لترسيخ قيمة انتمائية حزبية او عشائرية او مذهبية دينية اخرى تأخذ مكان الاولى، مما يعني الخروج من دائرة دكتاتورية قديمة الى خلق وصنع دائرة دكتاتورية جديدة وفق معطيات مستحدثة ظاهرياً، لتحقيق اهداف ومصالح فيئة على حساب الفيئات الاخرى داخل المجتمع الجنوبي.
وسوم: العدد 799