طارق رمضان وغدر الزّمان (الجزء الأوّل)
أثار أستاذ الأخلاق السّياسيّة ومقارنة الأديان في جامعة قطر؛ الدّكتور محمّد المختار الشّنقيطيّ؛ صداعاً فظيعاً كان قد أرهق العقل والقلب معاً، ثمّ جنحت وطأتُه إلى السّلم والسّكون، مذ تلقّينا نبأ خروج المفكّر والدّاعية طارق رمضان، من سجن الظّلم والعدوان؛ فقد أذاع الشّنقيطيّ مقالاً نعى فيه لجمهور المسلمين، من جوف الشّمال إلى أقصى الجنوب، سقوط طارق رمضان سقطةً مروّعةً لا إقالة بعدها، ولم أقرأ للشّنقيطيّ مقالاً حوى من التّجنّي على الأعراض، والرّجم بالغيب، والتهوّر في الحكم، والانتقام من صديقٍ قديمٍ مثل ما حوى هذا المقال، وليته ما فعل! ولعلّ لهذا الأمر كلّه اعترف صاحبنا في مستهلّ مقاله قائلاً: (ولا بدّ من الاعتراف ابتداء أنّي لم أتردّد في نشر مقال مدّةً مديدةً مثلما تردّدت في نشر هذا المقال، الذي ظلّت مسوّدته الأولى تنتظر على حاسوبي شهوراً عديدةً قبل أن أخرجه للنّور...)، ويذكر لذلك أسباباً منها: سابقة لطارق رمضان في نصرة الإسلام يحترمها، وصحبةٌ قديمة معه يقدّرها، وما رأينا في مقاله احتراماً ولا تقديراً!!!
ثمّ يقول في فقرةٍ تالية: (ومن أسباب تأخير نشر المقال أيضاً أنّي لم أجد من المروءة أن أنشر إدانةً أخلاقيّةً لشخص سجين، خصوصاً أن سجنه لم يكن له داعٍ ولا مسوّغ قانونيّ مقنع قبل اكتمال إجراءات التّقاضي في قضيّته)، وهكذا يواصل الشّنقيطيّ في التّسويغ والتّبرير لنشر هذا المقال المحيّر الخطير.
قد بدأ هذا التّجنّي بعنوان المقال الذي استولى عليه الهوى: (طارق رمضان... كان صرحاً من خيالٍ فهوى)، وهو عنوانٌ سخيفٌ سخافةً بالغة، قد يستخدمه صبيان المتطفّلين على الأدب، الغائبين عن فهم الألفاظ ودلالاتها، وأمّا أن يصدّر به أستاذٌ جامعيٌّ قضيّة حسّاسة بالغة الخطورة مثل هاته القضيّة، التي أقامت وأقعدت الرّأي العامّ، فمن العجب في العجب، والعجائب لا تنتهي من هذا الشّنقيطيّ الذي هاجم طارق رمضان منذ اندلاع التّهم المكيلة، معتمداً على مجلّاتٍ فرنسيّة تستبيح الكذب، وتتعبّد بها في إسقاط العدّو الذي يزيّف قيمهم وخرافاتهم عن علمٍ، ودرايةٍ، وبصرٍ مثل ما يفعله طارق رمضان.
إنّ طارق رمضان ليس صرحًا خياليّاً، بل قامةً فكريّةً إسلاميّةً شامخة، يعترف الغرب والشّرق، وما دونهما من الأصقاع والبقاع ببلائه الحسن في الإسلام، ودفاعه عنه، وصموده أمام خصومه، ومناظراته التي يجلو بها الشّكّ والرّيب، وغير ذلك من جهاد الكلمة الذي قام به في العربيّة، والفرنسيّة، والإنجليزيّة؛ ليبلغ صوته كلّ الآفاق.
ثمّ إنّه لا يخيف اسمٌ أعداء الإسلام في الغرب مثل هذا الاسم الذي ما هوى نجمه خلال آمادٍ رحبةٍ متطاولة، فطارق رمضان هو الذي يجرّعهم الحنظل، ويسكتهم بالحجّة، ويدحض شبهاتهم العاطلة، وخرافاتهم الباطلة ضدّ الإسلام والمسلمين، فهل يُقال عن رجلٍ هذا شأنُه ومقامُه: (كان صرحاً من خيالٍ فهوى)؟! إنّه لمن العجب كما أسلفتُ لا غير، وما انطلق الشّنقيطيّ إلّا من فكرةٍ مجازفةٍ لا تقدّر العواقب، ولا نستغرب هذا إذا علمنا أنّه صديقٌ قديمٌ لطارق رمضان، وبينهما عداوةٌ خفيّةٌ لا نعرف مأتاها، ولله الأمر من قبل ومن بعدُ.
ليست تحت مقال الشّنقيطيّ أيّة منفعةٌ تعود على العقول التي أذاعه لها؛ لا منفعة إنسانيّة، ولا أخلاقيّة، ولا ثقافيّة، وليته وأد المقال، وأراحنا من القيل والقال.
ونحن لا نبرّئ طارق رمضان من كلّ عيب، فهو، على جلالته، إنسان من لحم ودم، يصيب ويخطئ، ويعرض له ما يعرض لكلّ النّاس، ولكنّنا لا ندينه بشيءٍ حتّى الآن، وهذا ما نؤمن به، ولا نماري فيه أحداً.
أمّا العلل والدّلائل المنحدرة من المجلّات الفرنسيّة، والأنباء المتهافتة المنقولة من سجن طارق رمضان، التي نصّت على أنّه صدّق التّهم الذي طرحته في السّجن بشكلٍ غير قانونيّ مقنع، والتي اعتمد عليها الشّنقيطيّ في ركوب هذه المخاطر باتّهام صديقه القديم، فسوف أدفعها في الجزء الثّاني من المقال، وبالله نستدفع البلايا يا قوم.
طارق رمضان وغدر الزّمان (الجزء الثّاني):
أردتُ لهذا النّقد لمّا شرعتُ فيه أمس أن ينحصر في جزءين لا ثالثَ لهما، أعرّي فيهما الصّرح الذي أقامه في خياله أستاذُ الأخلاق السّياسيّة ومقارنة الأديان في جامعة قطر؛ الدّكتور محمّد المختار الشّنقيطيّ، ثمَّ أهواه في هاويةٍ لا خروج منها في نظره الذي لا شكّ في انطلاقه من مقامٍ معادٍ لصديقه القديم، وذلك بنعيه إلى النّاس أنّ المفكّر الإسلاميّ طارق رمضان قد هوى نجمُه، وغاب سعدُه، ولم يعد له في القلوب المخلصة مكانٌ ولا مكانة.
بيَّنتُ بالحجّة والدّليل في المقال السّابق أنّ الدّكتور طارق رمضان لم يكن صرحاً من خيالٍ فهوى، بل كان - وما يزال - قامةً إسلاميّةً وفكريّةً عاليةً ترتعد منها فرائص أعداء الإسلام في الغرب، وكان هذا البيان الذي جنحت إليه نفسي، وأبديتُه للنّاس منثبقاً من اليقين الذي لا تخالجه شائبة الارتياب، وقد اشتدَّ يقيني، وازداد صفاءً لمّا قرأتُ حول القضيّة نفسها مقالاتٍ كثيرةً من أهل الحقّ الذين نحسبهم لا يكتبون إلّا للضّمير الحيّ، ولا يكتبون إلّا لتبيين الرّشد من الغيِّ، فقد وقفوا مع طارق رمضان، وردُّوا على مقال الشّنقيطيّ، وبيّنوا بُعدَه عن المنهجيّة والموضوعيّة، فضلاً عن روح الإسلام التي تدفعنا إلى الحذر في معالجة القضايا الشّائكة التي تخالطها الشّبهات والشّهوات.
لكن مع ذلك، لمّا أفقتُ هذا الصّباح، رأيتُ أنّ الخطر الذي كنّا نخشاه من مقال الشّنقيطيّ، على ما فيه من التّجنّي والاتّهام بلا سلطانٍ مبين، قد كادَ يداهمُ بعض العقول، فلئن كان أكثر المسلمين لم يميلوا إلى ما أملاه عليهم في مقاله، فإنّ أعداء طارق رمضان في الغرب اهتزّوا لهذا المقال طرباً وفرحاً، وعدّوه انقلاباً إسلاميّاً على الرّجل، وبراءةً منه توشكُ أن تكون تامّة من المسلمين، أو من دولة قطر على الأقلّ التي ظنّوا الشّنقطيّ ممثّلاً لها بلا تمثيل! فظهرت صحيفةٌ فرنسيّةٌ من جحرها، تسمّى صحيفة ليبراسيون Liberation، وترجمتْ شطراً من مقال الشّنقيطيّ، ثمّ أتبعته بهذيانٍ حاقدٍ لا أكلّف نفسي بذكره هنا، لكنّ المهمّ أنّ قولنا أمس بأنّ الشّنقيطيّ صدر في مقاله عن فكرةٍ مجازفةٍ لا تقدّر العواقب كان صحيحاً، فما أرجح عقلك يا أستاذ الأخلاق السّياسيّة ومقارنة الأديان!! فأنا لستُ أدري كيف غاب عنك معترك العدوان بين الأديان، الذي قد يضحّي بكلّ شيءٍ في سبيل إسقاط الخصوم وإسكاتِه إلى الأبد، ولست أدري كيف خفي عنك أنّ صديقك القديم كان صوتاً مزعجاً لهؤلاء النّاس، وأنّهم كانوا جاهزين بكلّ وسيلةٍ خبيثةٍ لتشويه صورته، وتشتيت جمهوره، وتخفيف وزنه الثّقيل على المسرح الدّينيّ والفكريّ.
إنّ النّقاط التي اتّكأ عليها الشّنقيطيّ في إدانة صديقه القديم طارق رمضان كلّها صدرتْ عن صحفٍ معاديةٍ لفكره، وأهدافه، ودينه، وقد أنكر الرّجل هذه التُّهم منذ بدايتها على العلن، ثمّ اعتقلوه بشكلٍ غير قانونيّ، فطال أمد السّجن شهوراً عدّةً تدهورتْ فيها صحّته، وكدرت عافيته، فسمعنا تسريباتٍ تقول بأنّ المريض المعاني، المسجون غصباً قد اعترف بالذّنب! هكذا سمعنا، وهذه عمدة الشّنقيطيّ، ولم نر ولا سمعنا تسجيلاً يثبتُ ذلك، وإنّما خرجت التّسريبات الخفيّة من خلف القضبان، في سجن الأعداء، على لسان الأعداء، في صحف الأعداء، أهذا يصدَّق؟
لمّا خرج الأستاذ طارق من السّجن لم يعترف مطلقاً بما اتُّهم به، بل تمادى في إنكاره مثل أوّل مرّة، وأدّى واجب الشّكر إلى الذين تعاطفوا معه، ولكنّ الشّنقيطيّ كذّب أخاه المسلم، وصدّق أنباء الأعداء، كما صدّق امرأةً خبيثةً انسلختْ من دينها الإسلام، وحجابها السّاتر، ثمّ أعلنتْ حرباً على الإسلام والمسلمين، فكأنّه يقول:
إذا قالت حذامِ فصدّقوها ** فإنّ القول ما قالت حذام
أمّا طارق رمضان فإنّنا نكذّبه ما دام هناك قولٌ معارضٌ لزعمه، هذا منطق الشّنقيطيّ! فقد صدّق هذه المخلوقة، ثمّ توصّل إلى الخلاصة العجيبة التي نصّ عليها بقوله: "وخلاصة الأمر أنّ طارق رمضان كان صرحاً من خيالٍ بنيْناه في قلوبنا، وتلقَّفه ملايين المسلمين من ذوي الفطرة الإنسانيّة والعاطفة الإيمانيّة بالتّقدير والاحترام. لكنّ ذلك الصّرح تهاوى اليوم أمام سمعنا وبصرنا، بفعل طارق رمضان نفسِه لا بفعل غيره. والمؤسف أنّ طارقا لا يزال يمثِّل دور الضّحية، ويستثير في المسلمين عاطفة التّناصر والتّعاضُد، ويصوِّر الأمر كلّه على أنّه مجرّد مؤامرةٍ وحربٍ على دين الإسلام، وكان الأوْلى به الصّدقُ مع الله، ومع نفسه، ومع الناس، والكف عن استغفال المسلمين واستغلالهم في معركة خاسرة، أشعلتْـها نارُ الشّهوات في نفسه، وليس للإسلام فيها ناقة ولا جملٌ".
ثمّ عتا وأتى بأعجب من هذه الخلاصة، وأوغل منها في التّهمة قائلاً: "ليس من ريبٍ في وجود حروبٍ على الإسلام ومؤامراتٍ ضدّه في أكثر من موضعٍ على وجه الأرض اليوم. لكنَّ أعظمَ حرب على الإسلام، وأخطرَ مؤامرة ضدّه، هي أن يحْمل رايتَه من ينشرون الفضيلة وهم غارقون في الرذيلة".
هكذا نرى الشّنقيطيّ يضرب صفحاً عن تصديق طارق رمضان، ويقول بأنّ الأولى به أن يعلن للنّاس أنّه زنى واغتصب، وإن كان ذلك كذباً، فكيف يكون كذباً إنكار فاحشة لا يساندها دليل حاسم، ويكون الإقرار بها صدقاً مع الله، ومع النّفس، ومع النّاس؟ شيءٌ لا ينقضي منه العجب.
فالمقال من مبتدأه إلى منتهاه ليس إلّا تكراراً لما سبق تداولُه في المجلّات، وليس إلّا تصفيةً لحساباتٍ قديمةٍ بين الكاتب والمكتوب عنه، وليس فيه جديدٌ إلّا أنّه أظهر للنّاس أنّ الزّمان غادرٌ، وأنّ صديق اليوم قد يكون عدّو غد، فهذا هو طارق رمضان وغدر الزّمان.
أمّا بعدُ؛ فإنّ طارق رمضان ليس ملكاً مرسلاً، ولا نبيّاً معصوماً، لكنّه عندنا بريء حتّى تثبت إدانتُه بطريقةٍ واضحةٍ لا تعلق بها شبهة، ولا تكون في سجن الأعداء خلف القضبان.
وهذا المقال - بجزأيْه - ما كتبناه بغضاً للشّنقيطيّ، ولا حبّاً لطارق رمضان، وإنّما كتبناه دفاعاً عن العرض، وحرصاً على الحقّ، وإحساساً بخطورة ما يُكاد لرموز الإسلام في كلّ مكان، فالله المستعان.
وسوم: العدد 801