حراك الشعب الفرنسي انتكاسة وصفعة للمستلبين والمنبهرين والحالمين عندنا بحياة على النمط الفرنسي
التعبير عن الانبهار بنمط العيش الفرنسي لازم الكثير من المغاربة خلال فترة الاحتلال الفرنسي لبلادنا ، وبعد جلائه عنها حين اضطر العديد من المغاربة للهجرة إلى فرنسا بسبب الوضعية الاقتصادية المزرية التي خلفها هذا الاحتلال وراءه بعدما استنزف خيرات البلاد المعدنية والطبيعية ... وكان المهاجرون المغاربة إلى فرنسا كلما عادوا إلى أرض الوطن خلال عطلهم السنوية يشيدون برفاهية العيش في فرنسا ، وكان لذلك الأثر الكبير في رغبة غيرهم في الهجرة إلى الفردوس الفرنسي . ومقابل الإشادة بنمط العيش الفرنسي كان المهاجرون دائما يجرون مقارنة بينه وبين نمط عيشنا بكثير من السخرية والإزراء بهذا الأخير . وكان بعضهم بقصد أو دون شعور منهم يردد عبارة : " نحن عندنا في فرنسا كذا وكذا" كأنهم بالفعل فرنسيون . أما الحاملون منهم للجنسية الفرنسية ولجواز سفر فرنسي ، فحدث ولا حرج عما يقولون وهم يصفون نمط العيش الفرنسي حتى بلغ بهم الأمر حد الافتخار بضياع اللغة الأم منهم ومن أبنائهم وضياع ما هو أكبر من اللغة الأم الهوية والدين .
وظل خطاب الانبهار بنمط العيش الفرنسي مسيطرا لعقود ينقله المهاجرون وحتى القاصدون فرنسا لغرض من الأغراض كالعلاج أو غيره إلى من لم تسمح لهم الظروف بالعبور إلى ذلك الفردوس المأمول ، وكان ذلك سببا في ظهور ظاهرة زوارق الموت، وهي اختراع مغربي استهوى كل أبناء القارة الإفريقية التي تعد مصادر تمويل فرنسا المستنزفة لخيراتها في نفس الوقت الكارهة لهجرة أبنائها إليها حتى لا ينغصوا على مواطنيها رفاهيتهم .
ومن فرط الانبهار بنمط العيش الفرنسي صار أبناء القارة السمراء ، ونحن منهم يدوسون بأقدامهم فوق أراضيهم وتحتها كنوز من ذهب وماس ومعادن ثمينة وبترول وفوسفاط تاركين فرنسا وغيرها من دول أوروبا تنهبها نهبا . ومن أجل تأمين الدول الأوروبية الناهبة لخيرات القارة السمراء نهبها وسرقتها الموصوفة وعلى رأسها فرنسا ،لجأت إلى دعم الأنظمة الشمولية فيها والتي تستعملها كسماسرة ، كما لجأت إلى إشعال نيران الحروب الأهلية فيها ، وتسويق الأسلحة لإطالة أمدها وللتغطية بمكر وخبث على عمليات النهب والسلب .
وخلال السنوات الأخيرة، ومع اندلاع ما يسمى بالأزمة الاقتصادية العالمية المفتعلة ،بدأ خطاب الانبهار بنمط العيش الفرنسي يتغير شيئا فشيئا ، وبدأت بعض الأصوات تعبرعن معاناة المهاجرين وحتى المواطنين من أصول فرنسية ، كما بدأت بعض الأصوات تحمد الله عز وجل عن نمط العيش في بلادها ، وتحذر الراغبين في الهجرة إلى الفردوس الفرنسي خصوصا والأوروبي عموما من الإقدام على مغامرة الهجرة، لأنه لم يعد هناك ما يغري بالإقامة والعيش فيها بسبب غلاء المعيشة. وقد يلتبس أحيانا الأمر في خطاب البعض حيث تختلط لديهم الإشادتهم بنمط العيش الفرنسي بالتحذير من التفكير في الهجرة إلى فرنسا ، ولا يدري من يستمع إليهم أي القولين يصدق ؟
واندلع حراك الشعب الفرنسي مؤخرا ، فقيل عنه أول الأمر بأنه حراك أصحاب السترات الصفراء فقط، ثم ما لبث أن كشف النقاب عن حقيقته، فإذا هو حراك أمة برمتها بكل فئاتها وبدلاتها حتى شبه العسكرية منها ، وليست السترات الصفراء فقط الخاصة بالعمال ،لأنها أمة ضاقت ذرعا بغلاء المعيشة ، وكثرة الضرائب ، وزيادة الفروق في العيش بين الأغنياء والفقراء ، وبانتشار البطالة بين شبابها ، وانسداد الآفاق أمامهم.
وانتشرت فيديوهات عديدة على نطاق واسع يحكي أصحابها عما يعانونه من ضيق وشدة في ظروف عيش مزرية ، وسقط قناع الفردوس الفرنسي ، وفجأة حلت به لعنة السترات الصفراء، وتحول إلى جحيم ، وظهرت مشاهد الفوضى والتخريب التي لم تؤلف إلا في دول جنوب المتوسط ، والتي كان الإعلام الفرنسي والغربي يسارع إلى نقلها ليتسلى بها أبناء القارة العجوز ساخرين من تخلف المتظاهرين في القارة السمراء .
إن حراك الشعب الفرنسي عبارة عن صفعة قوية للمنبهرين بنمط العيش الفرنسي خصوصا والأوروبي والغربي عموما الذي يحلمون ، ويشيدون به، و في المقابل يتألمون لعدم بلوغ مستواه بل يتحرقون على ذلك ، ويقارنون بينه وبين نمط عيشهم ساخرين مستهزئين به و بالذين يحمدون الله عز وجل عليه على علاته ،ولو قيضت لهم حكومات تسوسهم السياسة الموفقة لكان عيشهم أرغد .
ومن المؤسف حقا أن المنبهرين بفرنسا لم يخفوا حتى الانبهار بما وقع فيها من فوضى وتخريب بل تحرقوا لبلوغ الشأو الذي بلغه المتظاهرون في ذلك . ومن المؤسف أن يعبر هؤلاء عن انبهارهم باعتذار الرئيس الفرنسي للمتظاهرين مع أنه لم يدخر جهدا في تحريك جيوش من قوات ما يسمى بمكافحة الشغب الذي استخدموا هراواتهم بنفس الطريقة التي تستعمل بها في البلاد التي يعاب عليها ذلك بشدة من طرف فرنسا التي تبيح لنفسها ما لا تبيحه لغيرها من الدول التي كانت تحتلها وكانت وما زالت هي سبب شقاء شعوبها .
وسيبقى المنبهرون عندنا بفرنسا على انبهارهم يشيدون بها حتى فيما لا يشاد به ، وسيقارنون بلادهم بها ساخرين منها وكان الأجدر أن يحمدوا الله عز وجل على العيش فيها ، وأن يعملوا ما في وسعهم للنهوض بها ، وأول خطوة في هذا الاتجاه الذي لا يصح غيره ، هو قطع الصلة مع مسرحيات الانتخابات الهزلية التي تشترى فيها أصوات الناخبين بدراهم معدودات ليصل من يشترونها إلى مراكز صنع القرار، فيفسدون ولا يصلحون ، ويحولون دون نهضة حقيقية على غرار نهضة أمم أخرى كالشعب التركي على سبيل المثال لا الحصر، والذي أثار حفيظة الغرب بسبب نهضته ، وصار هو وقيادته مستهدفا لعرقلة نهضته .
وأخيرا نقول للمنبهرين بنمط العيش الفرنسي إلى حد الهوس ألم تفيقوا بعد من انبهاركم بالرغم مما رأيتم رأي العين ، وليس من رأى كمن سمع ؟ و لا يجب أن يفهم من هذا أننا بخير بل لسنا كذلك ، و لن نكون بخير أبدا ما دامت فرنسا والبلاد الغربية إسوتنا وقدوتنا ، نقلدها حذو النعل بالنعل حتى فيما لا يليق أن يقلد من مساوىء ،وندخل وراءها جحور الضباب فنستطيب نتن بولها.
ونختم هذا المقال بقول أمير الشعراء :
ونقول قياسا عليه :
وسوم: العدد 802