الحسن جرودي نَعَمْ لمعالجة مظاهر الانحراف ولا للتطبيع معها

إذا كان من خصائص الأفراد والمجتمعات أن تتفاعل وتتلاقح فيما بينها عبر التاريخ بطرق مختلفة تتراوح بين الصدام والوفاق، فإنه بحكم الانفتاح الهائل الذي أتاحته وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على مختلف الأمم والمجتمعات بمختلف مكوناتها المادية والمعنوية من بينها المكون الثقافي الذي يعتبر من أهمها، فإنه مما لا شك فيه أن التفاعلات بين مختلف هذه المكونات ازدادت من حيث الكم والكيف، مما أدى ويؤدي إلى تلاقحات ونواتج جديدة تتمظهر في تغير قناعات الأفراد والجماعات التي تُكوِّن مجتمعا ما بغض النظر عن موافقتها لثوابت وثقافة المجتمع المعني أو تنافرها معه، مع اختلاف جوهري هو أن تفاعلات الأمس كانت مباشرة فيما تفاعلات اليوم في أغلبها غير مباشرة إن لم نقل بأنها افتراضية.

وإذا جاز أن نقوم بمقارنة هذه التفاعلات بالتفاعلات أو التحولات الكيميائية والتي أعتقد أنها صحيحة إلى حد ما، فإني سأقتبس نوعين من التفاعلات، ويتعلق الأمر بالتفاعلات أو التحولات الكلية التي تتحول فيها كل المتفاعلات أو بعضها بشكل كلي إلى نواتج، ثم التفاعلات أو التحولات غير الكلية حيث يكون هناك توازن بين المتفاعلات من جهة والنواتج من جهة أخرى إما بشكل متكافئ أو غير متكافئ حسب قيمة « ثابتة التوازن الكيميائي » التي تتعلق بمجموعة من المتغيرات التي أكتفي بالإشارة إلى وجودها دون الخوض فيها لأنني لا أستهدفها في حد ذاتها.

فلنقم بإسقاط هذين النوعين من التفاعلات الكيميائية على التفاعلات أو التحولات المجتمعية والثقافية. فبالنسبة للصنف الأول نجد أن مجتمعات تُسخِّر كل إمكاناتها لعولمة ثقافتها وفرضها على كوكب الأرض بكامله، وفي المقابل نجد مجتمعات بكاملها أو أجزاء منها تعمل بكل ما أوتيت من قوة للتحول الكلي إلى ثقافة هذه المجتمعات بسبب الاستلاب والإحساس بالدونية أمامها ليكون الناتج مجتمعات هجينة مختلفة كليا عن المجتمعات الأصلية وذلك بالتخلي عن خصائصها ومقوماتها الأصيلة والتي غالبا ما ترتبط بالدين واللغة والقيم والمعتقدات وكل ما يساهم في المحافظة عليها، وهو ما وقع ويقع في مجموعة من البلدان الإفريقية التي تخلت عن لغتها لصالح لغة المستعمر وعلى معتقداتها وعاداتها الأصيلة ما عدى تلك العادات الفلكلورية التي غالبا ما تلعب دورا سلبيا في تحرير المجتمعات، من خلال تغييب دور العقل في تَبيُّن مصلحتها من مضرتها، مع العلم أنها لن تكون صورة للمجتمع أو المجتمعات التي تفاعلت معها والتي ترغب في تقمص شخصيتها، بحكم أن الناتج رغم أنه يتكون من عناصر المتفاعلات إلا أنه يختلف عنها اختلافا جذريا، كما أن هذا هو شأن بعض الأقليات عندنا التي لو كان الأمر لا قدر الله بيدها لتحولنا بشكل كلي على ثوابتنا وهويتنا من دين ولغة وطريقة عيش…إلى وجهة لا يعلمها إلا الله.

أما بالنسبة للصنف الثاني من التفاعلات فيتمثل في تلك التحولات التي يقع فيها توازن بين المتفاعلات والنواتج، بحيث بحسب « ثابتة التفاعل » المتمثلة في مدى اقتناع أفراد المجتمع المعني بثوابته ومقوماته واستعداده للدفاع عنها أو على العكس من ذلك في مدى استخفافه بهذه الثوابت والمقومات والاستعداد الصريح أو الخفي للتنازل عنها، فإن منحى التفاعل سينجذب أكثر نحو هذا الطرف أو ذاك، أي أنه ينحى منحى الأخذ بكل ما هو إيجابي واستثماره في إسناد هذه الثوابت وتقويتها ومن ثم طرح كل ما هو سلبي، أو على العكس من ذلك الاكتفاء بالمنحى السهل المتمثل في اقتباس كل ما يعمل على تقويض الثوابت والمقومات، على شكل ما يقع عند طائفة من أبناء وطننا بحيث يهملون الأخذ بإيجابيات المجتمع الغربي كاحترام الوقت وحب المعرفة والعمل وإتقانهما والاستماتة في الحفاظ على هويته رغم ضحالتها، و يركزون على الأخذ بكل سلبيات الدنيا لأن أصحابها أرادوا لها أن تكون كونية، حتى أصبحوا يدافعون عن المثلية، وحرية التصرف في الجسد، والإجهاض، والعلاقات غير الشرعية والإفطار العلني في رمضان و…ولا يتركون أية مناسبة إلا وبذلوا كل جهودهم للتطبيع مع هذه السلبيات حتى تصبح عادية لدى المواطن البسيط من خلال قتل روح النقد فيه والتساؤل على الأقل عن القيمة الإضافية التي يمكن أن يجنيها من تفشي هذه المظاهر في المجتمع، ولا أدل على ذلك الاستثمار البشع لحالة مثلي مراكش، فعوض البحث عن الأسباب التي أدت إلى هذه الكارثة والعمل على استئصالها حتى لا تتكرر أو على الأقل حتى لا تعاود البروز بهذا الشكل الفظيع، فإننا نجد من يبررها ويُنظِّر لها بناء على أفكار مستوردة، بل نجد هناك ممن يعتبر نفسه خبيرا في التحليل النفسي للمجتمع المغربي والعربي يدافع عن المثليين ويعتبر خروجهم للعلنية « رمزا اجتماعيا هادفا لكونه يبرز درجة المطالبة بالحرية والديموقراطية » في الوقت نفسه الذي يتهم فيه المجتمع المغربي بالمنافق والمعقد نفسيا عندما لا يقر بالمظاهر المخلة بالقيم الإسلامية حيث قام بجرد عدد منها في الواقع اليومي المغربي من مثل وجود الحانات والتعامل بالربا وممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج على حد تعبيره…، مما يخلص معه إلى أنه على المغاربة أن ينسجموا مع واقعهم بالاعتراف به والتعامل معه كما هو، ناسيا أو متناسيا أن جل هذه المظاهر من مخلفات الاستعمار القديم والجديد، الذي أصبح يملي على حكام المجتمعات المغلوبة على أمرها حدود الحركة التي لا ينبغي تجاوزها، من خلال إرغامهم على التوقيع القسري على معاهدات « دولية » لا ناقة ولا جمل للشعوب فيها، مستعينا بالطابور الخامس الذي يعمل جاهدا على التطبيع معها من خلال مجموعة من الحيل والأراجيف في مقدمتها استبدال أسماء ومصطلحات ذات حمولة قدحية بأسماء ومصطلحات سلسة من مثل استبدال اللواط بالمثلية والزنى بالرضائية حتى إذا أدى إلى حمل الزانية سميت أما عازبة، وما إلى ذلك من الأسماء التي أصبحت تُزرع زرعا في المجتمعات المغلوب على أمرها.

خلاصة القول أن التفاعل والتعارف بين الشعوب من الغايات التي خُلق من أجلها الإنسان مصداقا لقوله تعالى: » يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ « (الآية 13 من سورة الحجرات) لكن التفاعل المقصود ليس هو الاستعمار والاستيلاء على مقومات الآخر وخيراته وتجريده من هويته من قبل « متفاعل » معين والاستلاب التام من قبل المتفاعل المقابل بحجة سيادة المبادئ الكونية، وإنما بالتحكم في ثابتة التوازن المتمثلة كما أسلفنا في الاقتناع بثوابت الأمة ومقوماتها والاستعداد للدفاع عنها مما يجعل من المجتمع المنشود الذي هو ناتج التحول أو التفاعل المعني مجتمعا يعض على ثوابته بالنواجد دون أن يحُول ذلك دون الاغتراف من كل معين صاف يزيد هذه القيم والثوابت صلابة وتجدرا بالكيفية التي تجعل الأخر ينجذب إليها ويتبناها عن قناعة واختيار ودون إكراه مادي أو معنوي

وسوم: العدد 807