شبح 25 يناير والديكتاتور الخائف الحائر

عالم الطغاة عالمٌ مرعبٌ مخيف. يتصور البعض مخطئاً أن مصائر إخوانه السابقين غائبةٌ عن الطاغية، أي طاغية، وإلا فما الذي يبرر عبثه وقمعه ودمويته ولصوصيته، بل تكراره شبه المتطابق لكل الأخطاء التي عُزي لها سقوط سابقيه، والحقيقة عكس ذلك تماماً، فالطاغية في أغلب الأحيان (خاصةً حين يعتلي سدة الحكم على ظهر انقلاب) يذكر جيداً ما أودى بمن أطاح به، أي تلك الجملة من الظروف التي استغلها لتحقيق أطماعه أو الطبقة أو المؤسسة التي يمثل؛ أجل يذكر جيداً لكنه يعتقد أنه الأذكى والأكثر حنكةً، أنه سيتعلم من أخطاء سابقيه وأنه «حابكها» جيداً من كل الأطراف، كما زعم الراحل الجميل نهاد قلعي، المختار في ضيعة تشرين.

حضرتني تلك الخواطر لدى زيارة ماكرون لمصر، التي لم تأت بعيداً عن ذكرى 25 يناير، خاصةً حين عبّر السيسي في حنقٍ لم يفلح في إخفائه (وربما لم يُعن بذلك) عن رأيه في قضية حقوق الإنسان واختلافها بين أوروبا والغرب وبلدانٍ أخرى. أمران يلفتان الانتباه هنا: أولهما ذلك الرأي الذي تعجبت منه بقدر ترحيبي به، لما يمنحه ذلك الضرب من البوح من إطلالةٍ في عقل السيسي ومفاهيمه، فقد كنت في سذاجتي أظن أن حقوق الإنسان والمواطن عالمية، شأنها في ذلك شأن القيم المطلقة من حقٍ إلى خيرٍ إلى جمال إلخ.. وشأن العلوم الحيوية والطبيعية، بيد أن السيسي يخلط خلطاً بيناً ومخلاً جلي الأغراض بين الظرف الاجتماعي الاقتصادي الموضوعي، وسياق التطور التاريخي وما نقر به من تبعة ذلك وتأثيره على مفاهيم الناس وأفكارهم وتوقعاتهم من الدولة والحياة، وبين عالمية القيم والمثل والحقوق التي تتشارك فيها السلالة البشرية (اللهم إلا إذا لم يكن يعدنا منها)، وللأمانة لقد استدعى إلى ذاكرتي الراحل الجميل جميل راتب حين لعب باقتدارٍ ذلك الدور الذي أضحى علامةً في السينما المصرية، دور تاجر المخدرات في فيلم «الكيف» حين صرح بثقةٍ واطمئنان: «صحة هنا غير صحة هناك» قاصداً الغرب الذي تفد منه الأبحاث العلمية.

بدون إدراكٍ منه يكرس السيسي دعاوى التفوق الغربي والعرقي الأبيض، ففي كراهيةٍ وتعالٍ على شعبه الذي لا يراه مستحقاً لحقوق نظيره الغربي، يؤكد على معاني الدونية إزاء الغرب المتفوق، والاختلاف الذي ركز عليه في كلمته، ما هو إلا تعبيرٌ ملتو عن فكرة الإنسان المجبول بالمكان والعرق على نمطٍ معينٍ ومحدودٍ من المعيشة، وحتى الآمال في الحياة، الإنسان معدوم الأفق الذي ينبغي له أن لا يحلم بتخطي واقعه وتحسين ظروفه، وكأنه أراد أن يوصل رسالةً مفادها: هؤلاء الذين أحكم ليسوا كمواطنيكم الشقر ذوي العيون الزرقاء مرهفي الشعور، قوم حقوق الإنسان الخ، هؤلاء ثلمون متبلدو المشاعر مدبوغو الجلد يقبلون بالضيم ولا يرتضون أن يساقوا سوى بالعصي، نوعية أدنى، ولعله هنا يعيد بصيغةٍ أخرى ما قالته أم جوليو ريجيني، عفو الخاطر بدون شك، عذبوه وقتلوه كما لو كان مصرياً.

ربما غُدرت ثورة يناير ولم تحقق المرجو منها، لكن الأكيد أن شبحها ودم الضحايا الساقطين في رابعة وغيرها سيبقى ماثلاً يلاحق السيسي

أما الأمر الثاني الذي يلفت الانتباه فهو ذلك الضيق المتنامي الذي لم يعد يحسن إخفاءه أمام المراسلين الأجانب، كلما أثير موضوع حقوق الإنسان والمعتقلين والحريات السياسية، تلك الأسئلة التي تحمل اتهاماتٍ مبطنة واضحة. لقد سئم السيسي وبات يشعر بالضغط، بالإضافة إلى ذلك يريد أن ينسى وينسى الناس (والعالم إذا أمكن) أن عهده دُشن وعُمِّد بالدم الغزير، يريد أن ينسى وينسى الناس أن ثورةً ضخمةً قامت في هذا البلد، أن تصبح ذكرى بعيدة لا تستدعي سوى مرارة الآمال المحبطة والشعور بالدونية وجلد الذات، أن تُنسى التفاصيل وتختلط الأدوار، تساعدها في ذلك حملة تشويهٍ وتدليسٍ ممنهج، أن يتخلى الناس إلى الأبد عن «وهم» إمكانية التغيير خارج إطار النظام ودولته. السيسي يحاول جاهداً مستميتاً، ربما بدون إدراكٍ واعٍ منه، لا أن يعيد الناس إلى حظيرة الطاعة فقط (وهو الأهون) وإنما أن يخلق إنساناً جديداً ممسوح الذاكرة لا يعرف معنى التمرد ويخشاه كالمرض والموت.

ليس ذلك فحسب، بل يتصادف أيضاً (بدون إرادةٍ أو إدراكٍ منه على الأغلب) أن ينضوي في شبه حلفٍ تقودانه الصين وروسيا باعتراضهما على تسييد النموذج السياسي الغربي الليبرالي الديمقراطي، ولا يخفى أن مفهوم الدولة المركزية القوية التي تقومان عليه والذي لا يقيم وزناً للديمقراطية، ولا يعتبر حقوق الإنسان سوى صداعٍ وورقةٍ كثيراً ما لعبت بها تلك القوى الغربية بقيادة أمريكا حين ارتأت ذلك ملائماً، خاصةً في ظل ما تبدى من أزمة الأنظمة السياسية الغربية التي أفرزت شعبويين كترامب.

ربما غُدرت ثورة يناير ولم تحقق المرجو منها، لكن الأكيد أن شبحها ودم الضحايا الساقطين في رابعة وغيرها سيبقى ماثلاً يلاحق السيسي ويسبب له الإزعاج كلما سئل من قبل أحدٍ عما يمت للموضوع بصلةٍ من قريبٍ أو بعيد، فأنا على ثقةٍ من أنه يذكر جيداً كيف وصل للحكم، لذا سيظل يتسلط عليه الخوف والتوجس من مصيرٍ مشابه، وسيحكم تصرفاته الشك والهاجس الأمني. إن عالم الطغاة ليس مخيفاً فحسب وإنما موحشٌ أيضاً، إذ في خضم كل ذلك الضجيج وتلك المهرجانات، ستجد السيسي رجلاً وحيداً، ولن يني يزداد شكه في المحيطين به. يجأر البعض معترضاً الآن على التغييرات الدستورية المزمعة لمد فترته الرئاسية، ويراهن البعض الآخر ساذجاً على الانفتاح السياسي لتخفيف الاحتقان، وهم بذا يغفلون أن السيسي لم يعد يملك تلك الرفاهية، وكلما كثر ضحاياه قلت فرصه في التغيير، بحيث يصير شبه مجبولٍ على الاستمرار، وحيداً، دائم التخلص من قادته الكبار، لأن البديل هو المحاكمة على أحسن الافتراضات.

ليس السيسي بصاحب فكرٍ ولم يكن يوماً مناضلاً ، لكنه بالتأكيد يصدر عن تصورٍ للعالم وقناعاتٍ صيغت عبر سنين من ممارسة الحياة ومخلفات الأفكار في الثكنات المختلطة بغث الأفكار، من المحيط الاجتماعي التي ترسبت للأسف عبر عقودٍ، بل قرونٍ من التردي والاضمحلال والاحتلال والقمع، وفي ظل السلطوية التي تشربناها يرى أن بقاءه لن يكفله سوى تشديد القبضة الأمنية، يقوي من عزمه على ذلك ما يراه من متنفسات التعبير التي سمح بها مبارك من باب «خليهم يتسلوا» سبباً وراء سقوطه. وفقاً للرؤية نفسها يخبرنا بأن مصر لن تقوم بالمدونين بل بالعمل الخ من الحشو، فالرد هو: أين هي فرص العمل وهل ستقوم مصر بالمشروعات عديمة الجدوى، وبيع الجزر المصرية والتنسيق مع إسرائيل وبضباط أمن الدولة والمعتقلات والقتلى والدماء الغزيرة؟

وسوم: العدد 811