لقد نثر الشعب المغربي منذ الاستقلال كنانة أحزابه ثم عجم أعوادها فلم يجد فيها ما يصلح للرمي
دار مؤخرا بيني وبين أحد الأصحاب حوار حول أداء الحزب الحاكم ، فتفنن في انتقاده ، ولم تفته مثلبة إلا وصفه بها ، ولا معرة إلا ألبسه إياها ، فلما فرغ من ذلك سألته : أليس هذا الذي قلته ينسحب أيضا على من تقدمه من أحزاب ؟ فراح يجري مقارنة بينه وبينها ليزيد من انتقاده له محاولا تلميع ما لا يمكن تلميعه من صور من تقلد الأمور قبله ، فأردت الوقوف موقفا منصفا من كل الأحزاب التي تولت أمورنا منذ الاستقلال ، فلم أجد التعبيرالمناسب عن ذلك سوى اقتباس عبارة الحجاج بن يوسف الثقفي حين ولي أمر العراق ، فخطب في أهله محذرا ومتوعدا حتى قال : " إن أمير المؤمنين نثر كنانته ،ثم عجم أعوادها ،فوجدني أمرها عودا ، وأصلبها مكسرا ، فرماكم بي ..." فقلت لصاحبي على طريقة الحجاج اقتباسا : " لقد نثر الشعب المغربي منذ الاستقلال كنانة الأحزاب ثم عجم أعوادها فلم يجد فيها ما يصلح للرمي".
وقلت لصاحبي وأنا أحاوره ،قد جربنا من الأحزاب يا صاح اليمين واليسار وما كان بينهما وسطا ، وجربنا منها المصنوع والممنوع ،فكان الأداء واحدا ، والمذاق شبيها وإن تنوعت طرق الطبخ حتى استكملنا عجم كل ما في الكنانة من أعواد ، وسقانا آخر من آلت إليه أمورنا منها بكأس أولها مرارة وخيبة وإحباطا، ولم يبق منها من لم يسقط قناعه ، وقد صارت اليوم كلها تبحث عن أقنعة أخرى لتلدغنا مرة أخرى من نفس الجحر، ولئن لدغنا مرتين من نفس الجحر، تعين علينا أن نراجع إيماننا ،لأنه لا يلدغ مؤمن من نفس الجحر مرتين ، وليس في الجحور سوى ذوات السم الناقع .
لقد مللنا يا صاح عبارة الأحزاب الممجوجة، وهي تسخر منا فى حملاتها الانتخابية بضمير معبر عن تضخم الأنا " نحن في حزبنا سوف ..." وليس بعد التسويف سوى الكذب ، وما زالت الأحزاب تكذب حتى صارت عندنا كذّابة . ولئن أساء وأفسد وسرق حزب اليوم، فقد أساء وأفسد وسرق إخوة له من قبل.
إننا يا صاح في حاجة إلى أحزاب فعّالة لا إلى أحزاب قوّالة ، والمثل العامي عندنا يقول : " الفيش ما يزيد في الرجلة " والفيش كلمة عربية فصيحة تطلق على الضعيف الذي يتباهى بما ليس عنده ، والرجلة ـ بضم الراء ـ أيضا كلمة عربية فصيحة كالرجولة ، وتطلق على من يظهر الرجولة أو الرجلية .
وكثير الفيش يتعدد ضعفه على قدر ما يكون منه من فيش ، وما يكون أبدا الفيّاش فعّالا.
وستطرق يا صاح أبوابنا مرة أخرى ، فنفتحها لنجد وجوه مناضلي الأحزاب ضاحكة مستبشرة تهش في وجوهنا ، وتصافحنا أو تعانقنا بحرارة ، كأن لها سابق معرفة بنا ولمّا نراها من قبل ، وتغمز أكفنا بأوراق حملتها الانتخابية وعليها صور المترشحين وقد نمقت تنميقا ، وعلتها عبارة "حزبكم المخلّص" ولا خلاص وإنما هو نذير إفلاس .
يا صاح لا تعجلن بحكم على حاضر ، فقد يأتيك المستقبل بداهية الدواهي ومعها الشر المستطير ، فتندم على ما قلت في حاضر حتى تقطع إبهامك من ندم ، ولأمر ما يقال : شر أهون من شر ، وشر مضى أهون من شر ينتظر ، ولذا قال الله تعالى : (( والساعة أدهى وأمر )) لأن ما سيسبقها إنما هو أهون منها .
يا صاح لا تثقن في ود ثعلبان وإن صلى وصام وأطعم الطعام . ولا تغرنك مقولته ، ولا يخدعنك منه سمت وورع إنما يخفيان شرا وعهرا .
يا صاح لا تغضبن من حديث : " كما تكونوا يولى عليكم " وإن كان في رواته متهم بالكذب ، فقد يكون فسادنا هو سبب فساد أحزابنا . ومما قاله أبو منصور الثعالبي : " كان الأغلب على عبد الملك بن مروان حب الشعر ، فكان الناس في أيامه يتناشدون الأشعار ، ويتدارسون أخبار الشعراء . وكان الأغلب على الوليد بن عبد الملك حب البناء واتخاذ المصانع ، فكان الناس في أيامه يخوضون في رصف الأبنية ، ويحرصون على التشييد والتأسيبس . وكان الأغلب على سليمان بن عبد الملك حب الطعام والنساء ، فكان الناس في أيامه يصفون ألوان الأطعمة ، ويذكرون أطاييبها ، ويستكثرون الحرص على أحاديث النساء ، ويتساءلون أن تزوج الحرائر والاستمتاع بالسراري ، ويتجاوزون في الباه . وكان الأغلب على عمر بن عبد العزيز حب الصلاة والصوم ، فكان الناس في أيامه يتلاقون ، فيقول الرجل لأخيه ما وردك الليلة ؟ وكم تحفظ من القرآن ؟ وبكم تختمه ؟ وكم صليت البارحة ؟ وهل أنت صائم ؟ وكان يزيد بن عبد الملك يحب الخيل ، وكان الناس في زمانه يتنافسون في اختيارها ، ويتقربون إليها باتخاذ الأجود والأحسن منها . وكان هشام بن عبد الملك يحب الثياب ونفائس اللباس ، وكان الناس في أيامه يتبارون في التجارة فيها ، ويتواصفون أنواعها . وكان الوليد بن يزيد صاحب لهو وشراب وسماع ، فكان الناس في أيامه يتشاغلون في الملاهي ، ويترخصون في النبيذ ، ويقولون بالسماع " .
يا صاح حتى لو لم يصح هذا الحديث عند أهل الحديث ففيه عبرة لمعتبر ، وما يدريك لعل ما أصاب أحزابنا من فساد إنما سببه فساد فينا ، ولن يوجد الصالح من الأحزاب عندنا إلا بشيوع الصلاح فينا .
وبعد سماع صاحبي هذا الكلام صمت ولم يعلق ، وولّى ولم يعقب.
وسوم: العدد 812