يدري أم أنه لا يدري, أو "المعتمرون" للعدو!
كان المفكرون القدامى رائعين، إذ كانوا بكلمات قليلة، وغالبا ما تكون شعرا يلخصون موقفا أو يلخصون فكرا ويحيطون بالاحتمالات جميعها أو يكادون .
ومن جميل ما أقرأه وأستشهد به لمن يريدون التنصل من معرفتهم، وبالتالي يهربون من مسؤوليتهم عمّا اقترفه صبيانهم أو غلمانهم أو قيناتهم أو عمالهم أو مريديهم من "أعمال" قول الإمام ابن القيّم رحمه الله:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة // أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
ولقد قفز هذا البيت الشعري الرائع حال صك سمعي نبأ التقاء مدير جهاز المخابرات السوداني المدعو صلاح غوش أو قوش أو gوش مع المدعو يوسي كوهين رئيس الموساد الإسرائيلي على هامش قمة "الأمن" الذي عقد أواسط شباط الفارط في مدينة ميونيخ الألمانية من أعمال أوروبا .
ولقد "دَبَّ" الخبر يوم الأول من أمس وأورده موقع Middle East Eye ولم يجرؤ أيما زول سوداني على نفيه، ولا سيما المدعو صلاح (رئيس الجهاز الاستخباري السوداني ) ويبدو أن ذاك الزول ليس له من اسمه الأول نصيب، والله تعالى أعلم .
وكأنه أمر حتمي أن تتعرف الشعوب العربية على مخازي جل ولاة أمورها من مصادر غير عربية, ابتداء من وعد بلفور اللعين على الأقل وحتى تاريخه!
لا يجرؤ ولاة الأمور غالبا في مصارحة من ولوا أمورهم بطرق شتى وهذا أمر جد مشين وتتبعوا الأنظمة العربية نظاما نظاما.
ومذ وعيت الحياة قبل نصف قرن أو نحوها قليلا, أسمع أو أقرأ أن هذا المسؤول العربي "المحترم" التقى صهيونيا هنا أو هناك أو زارهم في فلسطين المحتلة, ويأتي النفي من صداحيهم باهتا فجا غير مقنع لتدور الأيام ويظهر أن ما قيل كان صحيحا صحيحاً.
ولنعد لقصة السوداني الذي قيل إنه التقى مع رئيس الموساد؛ فقد أشار المصدر أن المدعو صلاح التقى برئيس الموساد يوسي كوهن بتشجيع وترتيب من مصر السيسي والسعودية والإمارات، وذلك لتلميع صلاح وفحص إمكانية استلامه الحكم حال اشتداد المظاهرات الشعبية السودانية واقتلاعها عمر البشير الرابض على صدور السودانيين منذ 30 حزيران 1989!
وسؤالي: إن كانت هذه الدول الثلاث تخطط للموضوع فلم ينبغي "تعميد" زلمتها أو زولها بلقاء موسادي؟ أو لم على كل متطلع للحكم أن "يعتمر" لفلسطين المحتلة، وإن تعذر فتكون "العمرة" في مكان بديل، ولكن بشرط أن يكون الصهاينة في المشهد أو سادة المشهد؟
وتابع المصدر أن محافل مؤتمر "الأمن" في ميونيخ, أكدت اللقاء بين صلاح غوش وبين يوسي كوهين، وأنه تم "سرا" طبعا في الفترة بين 15 و17 شباط، ولكن سرعان ما افتضح الطابق كالمعتاد.
واليوم (2 آذار 2019), ذكرت صحيفة "معاريف " الإسرائيلية أن اللقاء إن تم , فقد بحث سبل إقامة علاقات دبلوماسية بين "إسرائيل" والسودان والسماح للطيران الإسرائيلي التحليق في فضاء السودان.
وأما موقع "24 Eye" الإسرائيلي, فأكد اللقاء، وأنه بحث إمكانية انتزاع السلطة من عمر حسن البشير، ولا أستطيع الجزم أن البشير كان يدري أم لا، وهذا أمر معتاد بهكذا سياقات منتنة. بل أرجح أنه لا يدري. وإن كان لا يدري فهذا أمر مشين ويعكس كيفية إدارة الأنظمة العربية كافة تقريبا لأمورها بالنهج الذي أسميه "الدسدساتي" وليس المؤسساتي. ووفق هذا النهج يتم غالبا تغييب المسؤول الأول بشتى الطرق وتزدهر الوشايات والدسائس والافتراءات والعمالات والخيانات وهلم جرا، أما إن كان البشير يدري فتلك مصيبة فعلا، وإن خففها أن "الدشارة" بلقاء الأعداء عمّت وطمّت. والشعوب إما نائمة أو مغيبة أو مقموعة أو مطبلة وراقصة وإما منهمكة في تأمين كفافها اليومي.
وكالمعتاد, بادر موظفو جهاز الأمن والمخابرات السوداني باتهام "الجزيرة" بفبركة الموضوع. والسؤال الذي أطرحه دائما لكل من يشكك في هذا الخبر أو ذاك إن كان المعني نظيفا ومفترى عليه: "لم لا تقاضي الجهة الناشرة للخبر؟" أم أن الخوف من خسارة القضية يحول دون "المفترى عليه " والتقاضي؟
إلى متى نبقى كشعوب عربية تتلقى أنباء همالات هامليها من المصادر الغربية؟
إلى متى نبقى نسير في نهجنا كشعوب عربية دسدساتيا وليس مؤسساتيا وفي النور؟
إلى متى يبقى المسؤولون العرب يسارعون لاتهام المؤسسات الإعلامية المحترمة بالفبركة دون تجرؤهم على التقاضي مستخفين بعقولنا؟
إلى متى يبقى "الحج" و"العمرة" لإسرائيل أو لموظفيها وإرضاؤهم متطلبا مسبقا لكل من يرغب الوصول ثم البقاء ثم ما يشبه الخلود في الموقع المنشود؟
إلى متى تبقى تصريحاتنا وأداؤنا وإعلامنا كشعوب عربية مسربلة بالغموض ولا تغدو صافية كالماء الصافي كالبلور؟
وللحديث صلات
وسوم: العدد 814