الثورة السورية وربيعها التاسع
سيأفل بعد أيام نجم السنة الثامنة في عُمُر ثورتنا المباركة، ليولد نجم أكبر وأبهج، حاملاً لنا الآمال والبشرى، في الفرحة التي باتَ ينتظرها شعبنا في كل يوم، ولا تغيب عن خياله لحظة، حتى وكأنّها تتجلى له في يقظته، إيماناً منه بالنصر القادم، ويقيناً بزوال الظلم والطغيان، واعتقاداً راسخاً بهزيمة كل ظالمٍ جشعٍ بيد حاكم عادل يمهل ولا يهمل.
فلا تجد سورياً مؤمناً منذ ربيع الخير في عام 2011 إلى يومنا هذا نادماً على حملِ شعلة الثورة، أو آسفاً على بَوحِهِ كلمة الحق، أو متردداً في بقائه على أهدافه التي خرج من أجلها بوجه الاستبداد والاستعباد، أهدافه التي أصبحت نوراً تهتدي به الشعوب المقهورة في كل بقعة من أرضنا، وتستظل به أمّة بعد جَور فرعونها الذي أحرق قلوب رعيته، ليسبّحوا في حمده ويقدسوا عرشه الزائل.
لقد طُفتُ بين الأمم عبر التاريخ، أُقلبُ صفحات أمجادهم وجهادهم، فما وجدتُ شعباً تحمَّل مشقة فاقتْ قدرته وطاقته ما تحمله شعبنا السوري العظيم، وما لمحتُ ظلماً طغى كطغيان ظلم بشار ووالده الذي لم يترك بشراً أو حجراً أو شجراً إلا وترك أثره المقيت شاهداً عليه، وما رأيتُ ثورة أعظم من ثورتنا وبكل خصالها ومراحلها وأهوالها، وما صادفت خيانات وعَمَالات تكالبتْ على شعب مظلوم كتكالب العالم بأسره على الشعب السوري، حتى نال وسام اليُتم، وما عثرتُ على صمود على الحق وعِناد منقطع النظير كصمود الشعب السوري إلى هذه المدة من ثورته، فمثل شعبنا في جهاده وإصراره كمثل الفولاذ الذي يزداد قوة وصلابة كلما اشتدت ناره والتهبت.
أي ثورة سمعنا بها وقرأنا عنها ضحّتْ ما ضحّتهُ ثورة شعبنا الثائر؟! نعم أقولها وبصوت عالٍ: لقد ضحّتْ ثورتنا بالكثير، فخسرتْ البيوت والمعامل، وخسرتْ الأموال والأراضي، وخسرتْ الدماء والأبناء، والكثير منّا خسر حريته فهو يزأر في معتقله الذي لا يعلم مكانه إلا الله، وخسر أرضه التي هَجَّره منها حاكم بلاده الظالم، فأبعده عن وطنه ليزرع مكانه جندياً إيرانياً أو روسياً مُحتلاً.
فأريد منك أيها القارئ الإجابة على هذه التساؤلات: ما هو الشيء النفيس الذي غنمته الثورة السورية مقابل تحملها كل هذه الخسائر؟! لماذا هي صامدة وباقية تناضل وتجاهد رغم كل هذه الخسارات؟!
نعم كل ذلك خسرته ثورتنا الكريمة، فهي خسرت المادة التي لا قيمة لها بدون الجوهر والروح والمعنى، المادة التي تستطيع إيجادها وإبداعها في أي وقت ومكان، وخسرتْ الأبناء وبذلتْ الدماء لأنّها تعلمُ أنّ أبناءها وقود ثورتها، ودماءهم زيت مصباحها وماء أرضها، وخسرتْ المكان الذي ثارتْ فيه وهُجّرتْ منه، لأنّها شاهدت أسراب الطيور تهاجر مضطرة إلى بلاد أشرقت فيه الشمس، ولكنّها حجزت أعشاشها في مكان نشأتها، تنادي أنّها عائدة قريباً جداً مع سطوع شمس حريتنا في بلادنا، فما هجرتهم إلا ضريبة من ضرائب الثورة، وعملاً بـــــــ (ولن تنالَ المجدَ حتى تَلعقَ الصبرا). فخسائرنا ليس لها معنى أمام أهدافنا ومقاصدنا التي خرجنا لأجلها. فهل وجدتَ ثورة وشعباً وصل إلى هذه الدرجة من القوة والصمود والإصرار؟!
لقد أيقنَ شعبنا العظيم بأنّهُ منصور بإذن ربه العادل، ويقينه نابع بأحقيّة قضيته العادلة في طلب حريته المشروعة كاملة غير منقوصة، وكرامته كإنسان ومواطن له حقوق أقرتْ بها الشرائع ونادتْ بها القوانين وحثتْ عليها النواميس والأنظمة الدولية، وعليه واجبات لا يغادرها أو يتغافل عنها، في ظل حياة آمنة على أرضه وتحت سمائه، وأن يستظل مع غيره من أبناء شعبه بظل دستور صريح وعادل، يحكمه قانون رباني تهفو إليه قلوب شعب عطشى، على يد ذوي خبرة ورشاد وحكمة ونزاهة وعدالة، فيعطى كل ذي حق حقه، ويحاسب كل واحد على فعله كائناً من كان، وينعم بخيرات بلاده التي سخرها الله لعباده.
وفي هذه الذكرى المباركة أقول لمن يحتمي بوحوش أجنبية اشتراها بأموال وحقوق شعبه ليدمروا البلاد ويقتّلوا العباد: أيها الظالم الفاسد، أتظن أنّك وصلتَ إلى هذه السنة بقوتك وعنفوانك، وبسياستك وعبقريتك؟! لا والله، فالقاصي والداني يعلم أنّك انتهيت من الشهر الثاني من الثورة، ولكن قدّرَ الله أن تبقَ إلى هذا الوقت، بأداة خارجية، وسلاح خارجي، وفكر خارجي، وقوة خارجية، وبسيادة خارجية، حتى بعتَ كل خيرات بلادنا الوافرة، وهرّبتَ كنوزها وآثارها العامرة، حتى غدتْ شامنا خَربة خاوية على عروشها، وقدر ربنا مدَّ لك في حكمك قليلاً لا لعدالة موقفك، ولكن زيادة في حسابك وتسعيراً وتشديداً في عقابك، فقد خلّف طغيانك الآثم مليون شهيد، ومثله جريح ومعاق، ومئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين، ونصف الشعب مشرد ومهجر.
يا أيها الجائر! إنَّ الذين تتفاخر بهم ممن بَقوا تحت سوطك وصولجانك ليسوا باتباعك ولا يؤيدونك، ولكن قبضة جَلادك عصرتْ منهم التأييد والقبول مُكرهين، فاعلم إن لم نأتكَ من بلادنا المحررة ننتزعك من قصرك الوهن؛ فسيَخرج الأحرار لك من بلادنا المحتلة المستعمرة التي تحكمها، فو الله ما عاد يُطيقك حتى أتباع ملتك، الذين أرسلتَ أبنائهم إلى الجحيم دفاعاً عن مزرعة آل الأسد، حتى أضحتْ بلادهم عائمة بالثكالى على أبنائها، فانتظر مَكر الله القائل في تنزيله: (ويكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً).
وأتوجه لأبناء ثورتنا العظيمة، التي نشرت فكر الثورة في الحرية والكرامة في جميع أرجاء الأرض، ليَعمَ خيرها ولينعم بهِ من يتوقون إليه، وأقول لهم: يا أبناء ثورة الحرية! والله ما جَفتْ دماء أبنائنا، فهي دائمة النضارة مديدة العطاء، فخمسون عاماً ما نسينا ظلم والد الظالم واستبداده، فهل تُنسينا ثمان سنوات عجاف ظلماً وقهراً حفلتْ بأنين اليتامى، ودموع الثكالى، وآهات الأرامل، وحشرجة المعتقلين، وزفرات المشردين المهجرين؟!
فو الله ..لا ولن ننسَ، فالإثم لا يُنسى، والديّان لا يموت، وربنا ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويذل ويخذل الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة، فإيماننا بربنا العادل كبير، والنصر آت لا محالة، وصمودنا باق وتزيد صلابته صلابة كلما تأجّل الظفر الإلهي، حتى يأذن الله أن نرفع راية النصر في ساحات أوطاننا.
فالثورة السورية هي ثورة العزة والكرامة، هي قدوةٌ لأي ٍحُرّ في العالم، ونبراسٌ لمن أراد كسر طوق العبودية، ومدرسة لطلاب الحياة الكريمة، بل جامعة لمعاني الشرف والإنسانية، ثورتنا تستحق كل احترام وإكبار واهتمام، ومنصورة بإذن الله، فالله لن يترنا أعمالنا، ولن يهمل ظُلّامنا وطغاتنا فالنصر آت، فاستبشروا أيها الأحرار.
وسوم: العدد 815