أوكرانيا: العرب يكتشفون المؤامرة!

محمد قواص / جريدة العرب

استنتجت أقلامٌ عربية، وفق الخبرة المتوارثة والحكمة الجينية، أن "مؤامرةً إمبريالية تقودها الولايات المتحدة وقوى الاستكبار / الاستعمار"، تعيثُ كل هذا الفساد في أوكرانيا. وفيما أهلُ البلاد، من موالاة ومعارضة يجادلون فيما هو محليّ، ويسعون لابتكار مخارج بيتيّة لأزمةٍ أوكرانيةٍ صرفةٍ قلباً وقالباً، شكلاً ومضمونا، يُصرُ عتاةُ العرب على وضعِ الحدث في سياق الصراع بين يسارٍ ويمين، بين رأسماليةٍ متوحّشة واشتراكية متقدّمة.

تُشكّل أوكرانيا (حيث يُطل الأسطول الروسي على البحر الأسود) ساحة نزاع محليّ يأخذ أبعاداً غير محليّة. ولا ريب أن التدخلات الدولية جاريةٌ، واضحةٌ، لا لبس فيها. فلبُّ الصراع يكمنُ في الجدلِ حول هويّة البلد وميولِه الدولية، وانفجر بشكلٍ صاعق مؤخراً حين قررت كييف تجميد مفاوضات شراكتها مع الاتحاد الأوروبى. تقوم المبارزة بين فريقٍ حاكم قريب من موسكو (برئاسة المُقال فيكتور يانوكوفيتش ) متأثر بمزاج الكرملين وأجندته، وفريقٌ ينزعُ نحو الاتجاه صوّب الاتحاد الأوروبي، أي صوّب الغرب بعيداً عن ظلال روسيا الثقيلة. فيش جدل الأوكرانيين استدراجٌ آلي لهذا الخارج، علّه يرجّحُ الميزان لصالح أحد الخياريّن.

"لبنان ليس أوكرانيا"، عبارةٌ أطلقها السيّد حسن نصر الله يوم نزل بأنصاره والحلفاء في مسيرة "الوفاء لسوريا" الشهيرة (8 آذار / مارس 2005). وللحقّ هما ليسا كذلك في الشكل، لكنهما متشابهان في المضمون. لا تعاني أوكرانيا من تعددٍ ديني مذهبي قياسي، كما لا تمزّقها ماضويّة تنهلُ الفقه وأصوله من مشارب الأمس، كما لا تقسّمها قضية تحرير أو مسألة ممانعة، كما لا تحددُ حركتُها حكايات صفين وكربلاء وما بعدهما.

هذا في الشكل. لكن المضمون واحدٌ من حيث أن التناتشَ واقعٌ بين المتمسكين بنظام الوصاية الموروث عن الاتحاد السوفياتي وبين التواقين إلى استقلال يحفظُ هوية وسيادة البلد. وفيما تمّ الترويج أن الحراك اللبناني، بعد اغتيال رفيق الحريري، تأثر بالضجيح الأوكراني، فإن التطورات الأخيرة في أوكرانيا تشكّل خاتمة مؤجّلة لم يصلّها اللبنانيون حتى الآن.

لكن اللافت أيضا في الحالة الأوكرانية (بما يميّز دائماً الشعوب الأوروربية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي)، أن من كان موالياً سلَم بالأمر الواقع هاجراً شروط الأمس قافزاً برشاقة إلى أصول الغدّ . راح أكثرهم ينشقّ عن حزب الرئيس المخلوع، بينما أصدر البرلمانُ سلسلة قرارات لإدارة الأزمة وتنظيم المرحلة الانتقالية. وفي ذلك حكمةٌ من قبل المعارضين قبل الموالين باحترام المؤسسات الدستورية ورسم المستقبل من خلالها، ومن خلالها فقط (نموذج ذلك اختيار رئيس جديد للبرلمان، هو اوليكسندر تيرتشينوف المقرّب من رئيسة الوزراء السابقة المفرج عنها يوليا تيموشينكو لقيادة المرحلة الإنتقالية).

في الحالة اللبنانية شُلّ عملُ البرلمان وأُجهضت فعاليته، تارة من خلال الشارع وانفلات مزاجه، وتارة بخصيّ خصوبته ومنعه من الانعقاد وفق أجندة الفريق الممسك بماتيحه. في تغييب المؤسسات الدستورية، جرى جرّ الجدل إلى الزواريب، حيث القوة لمن يمتلك القوة و"فائضها".

شيءً آخر تغيّر في أوكرانيا ولم يتغيّر في لبنان. يتعاملُ الأوكرانيون مع موسكو التي تبدّل نظامُها السياسي منذ أن ولى عهد الشيوعيين في الكرملين. انتقلت روسيا منذ يلستين (وربما غورباتشيف) إلى منظومةٍ سياسية أخرى متصالحة مع المجتمع الدولي برمته، تلعبٰ ضمن شروطه، وتناور وتناكف وتداري ضمن قواعده.

لم يتغيّر أمرٌ كهذا في لبنان. فما برح اللبنانيون يتعاملون مع سوريا التي لم يتزحزح نظامها منذ أن أرسى قواعده حافظ الأسد. يعمل النظام في دمشق وفق قواعده وقواعد حلفائه، مرتاحاً إلى قطيعة منهجية مع العالم تفاقمت منذ اندلاع المواجهات الداخلية الراهنة.

واذا كان البعضُ يعتبرُ أن مفاصلَ النظام السوري قد اهتزت لأسبابٍ لبنانية بدأت منذ انسحاب القوات السورية من لبنان، فإن هناك من يتبرع في اعتبار الحالة الأوكرانية الراهنة، مفصلا جذرياً سيؤثرُ حكماً على هامش الحركة الدولية التي برع بها بوتين في إدارته للملف السوري.  ينبعُ مبررُ ذلك من حقيقة أنه في حال ابتعاد أوكرانيا (القريبة) عن طاعة موسكو، فكيف ستفسّر العاصمة الروسية انشغالها بابقاء دمشق (البعيدة) ضمن فلكها.

في التفصيل الأوكراني اختراقٌ غربي واضح داخل المجال الحيوي العزيز على قلب موسكو.  أوكرانيا كانت أكبر وأهم جمهورية فى الاتحاد السوفياتي، وفي ذلك قال لينين يوماً "من يفقد أوكرانيا يفقد رأسه". على أن ذلك الاختراق لم يحرك الدباباتِ الروسية (حتى الآن) على ما حصل في جورجيا عام 2008 (رئيس جورجيا السابق ميخائيل ساكاشفيلي يقول للأوكرانيين: لا تدعوا بوتين "يسرق نصركم")، لا بل كان واضحاً ان موسكو تسعى مع واشنطن، من خلال اتصال بوتين - اوباما ("البناء" حسب البيت الأبيض)، إلى إدارة الأزمة ومخارجها بالشراكة مع الغرب، فيما زيارة مسؤولة الدبلوماسية الاوروبية، كما بعض وزراء الخارجية الاوروبيين، إلى كييف، والاشراف الميداني على الحلول والمخارج، يعكس فوقية غربية إملائية سيصعب على موسكو ابتلاعها.

هو ليس اكتساحاً غربيا لأوكرانيا على ما قد يحلو لبعض المتعجّلين استنتاجه. والأمر ليس هزيمة نكراء لموسكو على ما يخرج به بعض الشامتين (يتخوّف المراقبون من استغلال بوتين للأزمة لاستعادة منطقة شبه جزيرة القرم في الجنوب وميناء سيفاستوبل، أمرٌ بدأ الأميركيون يحذرون منه). تعلمُ روسيا أن أوكرانيا، بحكم الجغرافيا أولا، والتاريخ الحديث ثانياً، والاقتصاد ثالثاً ورابعاً، لا يمكنها الابتعاد عن الحضن الروسي. وتعي روسيا، في زمن الأزمات، أن العلاقة بين الكبار والصغار، ليس بالضرورة أن تأخذ، في هذا العصر، اشكالاً بالية متقادمة من التبعية. ربما أدركت موسكو، أيضا، أن الحراك في أوكرانيا محليٌّ صرف، لم تكن أوروربا وواشنطن لتدعمه لو أنها (أي موسكو) مع حلفائها في وكييف استطاعوا أو سيستطيعون إخماده.

على أن تخفيفَ الخسائر وترشيدها لا ينفي حقيقة وجودها. سيطلُ الحدثُ الأوكراني بقوة على تعاملات موسكو مع الغرب. لن تستطيع موسكو أن تخفي خيبتها، وهي التي يتوق زعيمها بوتين الى العودة الى أمجاد الاتحاد السوفياتي. كما أن النكسة الأوكرانية وقبلها الكوسوفية.. الخ، ستضعفُ موقف موسكو المقبل في ملفات النزاع الكبرى، في مقدمها الملف السوري (ربما تمرير روسيا للقرار الأممي الإنساني الأخير حول سوريا نموذج لتراجع ما).

منطقيٌّ أن يهتم السوريون بشكل قريب بالحدث الأوكراني.، فنتائج تلك الأزمة ستنفخُ  رزازاً إيجابياً أو سلبياً على النظام كما على المعارضة (حتى أوباما رأى تشابهاً بين الأزمتين، معتبراً أن الشعبين لا يريدان سوى الحرية). إهتم المعارضون بالحراك، بعضهم تحدّث عن "تنسيقية كييف"، فيما فتحت صفحة فايسبوكية تهكّمية تولى فيها السوريون توجيه النصائح للأوكرانيين. بعضهم لاحظ أن داعش والقاعدة نمتا على ضفاف حراك السوريين، وأن جماعات نازية متطرفة نمت على حراك الأوكرانيين. ربما أن في الاهتمام السوري ما يبرره، لا سيما منذ ظهور تحولّات دولية، أميركية اساساً، على المستويين الدبلوماسي والعسكري، قد يسرّع الحدث الأوكراني من فعاليتها.

قبل أن يُخلع الرئيس الأوكراني، انتقدت الدبلوماسيةُ الروسية بلسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف موقفَ الغرب من الأزمة الأوكرانية، محذراً من حرب أهلية (لا تريدها موسكو على أبوابها كما تمقت احتمالاتها أوروبا)، فيما تحدث مندوب روسيا في الأمم المتحدة عن "انقلاب" يجري في البلد. أما وأن هذا "الانقلاب" قد حصل، فإن موسكو انتهجت مسلكاً مرتبكاً (وربما متفهماً حسب ما صدر عن بعض نواب الدوما)، فيما خرجت أصوات من هناك تتحدث عن مؤامرة غربية للنيل من روسيا من خلال أوكرانيا. لكن ما هو ارتباك في روسيا، بدا يقيناً لدى النوستالجيين العرب الذين رصدوا الحالة وتنبهوا لها بحنكة العارفين. فهنيئا لنا مغاورنا، حيث تتراكمُ بعناية كل الايديولوجيات المنقرضة نحميها بعناية من كل مكروه.

-- -------------

(*) صحافي وكاتب سياسي