اتفاق المنطقة الآمنة ينزع فتيل الأزمة بين أنقرة وواشنطن
كانت فكرة المنطقة الآمنة قد طرحت لأول مرة من قبل تركيا خلال الزيارة التي قام بها الرئيس أردوغان إلى واشنطن، مايو 2013.
منذ انطلاقة الثورة السورية، ومع بدء موجات نزوح المدنيين السوريين نحو تركيا، رأت أنقرة أن خير طريقة لحمايتهم، تكون بإقامة منطقة آمنة داخل الأراضي السورية.
بدأت أنقرة بمطالبة المجتمع الدولي، وعرضت على إدارة الرئيس أوباما آنذاك تأسيس منطقة عازلة آمنة داخل سورية، بإشراف الأمم المتحدة، يأوي إليها المدنيون السوريون الفارون من جحيم الحرب. لكن الطلب قوبل في كل مرة بالتسويف والمراغة والمماطلة.
وكانت فكرة المنطقة الآمنة قد طرحت لأول مرة من قبل تركيا خلال الزيارة التي قام بها الرئيس أردوغان إلى واشنطن، مايو 2013.
ظاهريا وافقت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما على إقامة المنطقة العازلة، لكنها تراجعت بدعوى أنها يمكن أن تتسبب في سقوط نظام بشار الأسد مبكرا.
بعد سيطرتها الكاملة على الحدود السورية التركية بدعم أمريكي، أعلنت ميليشيات "قسد" الانفصالية، في مارس/آذار عام 2016 إنشاء منطقة فيدرالية خاصة بهم في شمال سورية.
الأمر الذي اعتبرته أنقرة تهديدا لأمنها الاستراتيجي، فقامت بعمليتي «درع الفرات» و «غصن الزيتون» العسكريتين.
الأولى، أغسطس/آب 2016 ضد تنظيم داعش الإرهابي، حررت خلالها مناطق واسعة بريف محافظة حلب بينها مدينتا جرابلس والباب.
والثانية، 24 مارس/ آذار 2018 ضد تنظيم وحدات حماية الشعب (YPG)، ذراع (PKK) الإرهابية، واستطاعت خلالها تحرير منطقة عفرين من إرهاب الميليشيات الانفصالية.
بذلك نجحت أنقرة إلى حد ما في تأمين حدودها مع سورية من العمليات الارهابية التي كانت تشنها ميليشيات (YPG) الارهابية على مدنها الحدودية، محدثة حالة رعب وقلق دائمين بين السكان المدنيين هناك.
بموازاة عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، اتفقت تركيا مع الولايات المتحدة على إنشاء خارطة طريق بخصوص مدينة منبج، تتضمن تسيير دوريات مشتركة يقوم بها الجنود الأتراك برفقة الأمريكيين في المناطق المتاخمة للمدينة. لكن الأمريكيين ماطلوا ولم يتقيدوا بنص الاتفاق، لتظل المليشيات الكردية محافظة على وجودها هناك.
** المنطقة الآمنة مطلب أممي
دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش جميع الأطراف إلى الاتفاق حول المنطقة الآمنة المتوقع إنشاؤها شمالي سورية، قائلا: "نشجع هذا الاتفاق بغية منع أي صراعات جديدة قد تنشأ".
** الانسحاب الأمريكي قلب الموازين
في ديسمبر/كانون الأول 2018، فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الجميع بإعلانه سحب قوات بلاده من سورية، قائلاً إن داعش هزمت ولا داعي لوجودها على الأرض بعد الآن، ليواجه عاصفة نقد قوية في الداخل والخارج.
هذا القرار قلب جميع الموازين في الشمال السوري، فقد شكلت مسألة ملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الأمريكي الشغل الشاغل لجميع القوى الموجودة في الساحة السورية.
الميليشيات الانفصالية الكردية بدأت على الفور، بالاتصال مع روسيا وطلب وساطتها لعقد صفقة مع النظام السوري ودعوته لحمايتهم، بعد أن شعروا بالخيانة من قِبل حلفائهم الأمريكيين.
هنا بدت المسألة أكثر تعقيداً مما ظنه ترامب، الذي طلب ضمانات من أردوغان بحماية أصدقائه الأكراد وعدم التعرض لهم وإلا سيتم تدمير الاقتصاد التركي، لكن المياه أعيدت لمجاريها بُعَيد المكالمة الهاتفية بين الرجلين، حيث تم الاتفاق على إقامة مناطق آمنة شرقي الفرات، لم تحدد معالمها بشكل تفصيلي.
** المنطقة الآمنة بين موافقة البيت الأبيض وتسويف البنتاغون
عقب اتصال هاتفي دار بين الرئيسين أردوغان و ترامب، بحثا فيه عددا من القضايا الثنائية والدولية، وخصوصا الملف السوري، أعلن الرئيس التركي، أن بلاده سوف تنشئ على طول حدودها مع سورية منطقة آمنة بعمق 20 ميلا (32 كم).
وكان الرئيس الأمريكي، قد سبقه بيوم في الإعلان بأن بلاده تنوي إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري بعمق 20 ميلا.
ترامب اشترط في البداية، ضمانات بعدم المساس بحلفائه الأكراد، مهددا تركيا «بتدمير اقتصادها» إذا تعرضت للمجموعات الكردية، التي تصنفها انقرة بالإرهابية. لكنه عاد واقترح إنشاء «منطقة آمنة»، لتوافق عليها أنقرة فوراً. ** المنطقة الآمنة بين الرؤية التركية والعرض الأمريكي
وفقا للرؤية التركية، فإن المنطقة الآمنة تشمل المساحة الجغرافية الواقعة شمال الطريق الدولي M4 الاستراتيجي، الذي يربط الشمال السوري بعضه ببعض، وتضم هذه المنطقة مدنا وبلدات من ثلاث محافظات سورية، هي حلب والرقة والحسكة، وتمتد على طول 460 كم، بعمق 32 كم على طول الحدود التركية السورية.
أبرز المناطق المشمولة في المنطقة الآمنة، وفقا للرؤية التركية، المناطق الواقعة شمالي الخط الواصل بين قريتي صرّين (محافظة حلب)، وعين عيسى (محافظة الرقة). \
كما تضم مدينة القامشلي، وبلدات رأس العين، وتل تمر، والدرباسية، وعامودا، ووردية، وتل حميس، والقحطانية، واليعربية، والمالكية (محافظة الحسكة). وكذلك ستضم المنطقة كلا من عين العرب (محافظة حلب)، وتل أبيض (الرقة).
لكن لا يبدو لدى الطرف الأمريكي الرغبة في منح تركيا هذه التفوق الاستراتيجي. إذ عرض على تركيا بعض المناطق المنفصلة عن بعضها البعض، بذريعة أن سكان تلك المناطق عرب وتركمان، مثل مدينة تل أبيض، ومدينة عين العرب، وبعمق 6 كم فقط.
تركيا رفضت العرض الأمريكي جملة وتفصيلا، ليس لأنه لا يلبي حاجتها في حماية أمنها الاستراتيجي وحسب، بل لأن من شأنه إبقاء خطوط الدعم اللوجيستي بين بؤر الإرهاب، في قنديل (العراق) وشرق الفرات (سوريا) ومناطق جنوب شرق تركيا، سالكة مفتوحة.
** الخلاف التركي الأمريكي حول المنطقة الآمنة
أقر المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري، بوجود خلاف بين الولايات المتحدة وتركيا أعاقت تأسيس منطقة آمنة في سورية، مشيرا إلى أن المحادثات مع الجانب التركي لا تزال مستمرة ولكن لم يتم التوصل بعد إلى نتائج واضحة في هذا الصدد.
وأضاف جيفري أن تنظيم "داعش" ما يزال يشن عمليات إرهابية في سوريا والعراق وإفريقيا، وما تزال "القوى الكردية والعربية" (قسد) تعمل على مكافحته.
وتابع "نحن ملتزمون بحماية من يقاتلون إلى جانبنا وألا يتعرضوا للأذى أو لهجوم من طرف ثالث. الرئيس (دونالد ترامب) أوضح ذلك أيضًا. وهذا يشمل مخاوفنا بشأن الأتراك".
ونوه جيفري إلى أن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، يتبنى مواقف حاسمة، وأن تركيا تطلب بإبعاد جميع الأسلحة الثقيلة مسافة من 5 إلى 14 كيلومترًا عن حدودها باتجاه الداخل السوري.
** اتفاق ينزع فتيل أزمة حقيقية
ازدادت وتيرة تصريحات المسؤولين الأتراك بخصوص المنطقة الآمنة، في الآونة الأخيرة، فلا يكاد يخلو خطاب للرئيس أردوغان من الإشارة إلى عزم تركيا تأسيسها شمال سورية.
وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، قال إن بلاده ستضطر لإنشاء منطقة آمنة في سورية بمفردها، حال عدم التوصل لتفاهم مشترك مع الولايات المتحدة.
المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية، حامي أقصوي، أكد إن بلاده ستضطر لإنشاء منطقة آمنة بمفردها في سورية في حال عدم التوصل لاتفاق مع الولايات المتحدة في هذا الشأن.
الناطق الرسمي باسم حزب العدالة والتنمية عمر جليك، أشار إلى أن لدى تركيا القدرة بمفردها على فرض المنطقة الآمنة بالقوة، إذا تعذر التوصل إلى اتفاق مع الأطراف الدولية.
بات جليا للأمريكان بأن صبر أنقرة بدأ ينفذ، وأنه لا عصا واشنطن ولا جزرتها، تثنيا عزيمة أنقرة على إنشاء المنطقة الآمنة، مهما كلف ذلك من ثمن.
بعد ثلاثة أيام من المفاوضات المتوترة الصعبة، تم الإعلان الاتفاق بين أنقرة وواشنطن على إقامة مركز عمليات مشترك لإدارة «المنطقة الأمنية» في شمال شرقي سورية.
بيان وزارة الدفاع التركية أفاد بأن أنقرة اتفقت مع مسؤولين أميركيين على «تطبيق أولى الإجراءات الهادفة إلى تبديد المخاوف التركية من دون تأخير. وفي هذا الإطار إنشاء مركز عمليات مشترك في تركيا، على وجه السرعة، لتنسيق وإدارة تطبيق منطقة أمنية بالاشتراك مع الولايات المتحدة».
وأضاف أن الهدف النهائي هو إقامة «ممر سلمي يضمن أن يتمكن أشقاؤنا السوريون من العودة إلى بلادهم».
أكار صرح قائلا: «رأينا بارتياح أن شركاءنا اقتربوا أكثر من موقفنا. الاجتماعات كانت إيجابية وبناءة». بينما أعلنت السفارة الأميركية في أنقرة التوصل إلى اتفاق مع تركيا على إنشاء مركز عمليات مشتركة «في أقرب وقت ممكن» من أجل تنسيق وإدارة المنطقة الأمنية شمال سورية.
تردد أنقرة دائما أنها لن تخدع هذه المرة بالوعود والمماطلة، وأنها وصلت إلى نهاية الصبر حيال الوضع شرق الفرات. مقابل ذلك تسير واشطن بخطى ثابتة نحو وضع حجر الأساس للكونفدرالية في سورية، الأمر الذي تعده أنقرة تهديدا مباشرا لأمنها الاستراتيجي.
صحيح أن الاتفاق الأخير نجح مؤقتا، في نزع فتيل أزمة حقيقية بين البلدين، لكن يد أنقرة ستبقى قابضة على الزناد، ولن تتراجع حشودها العسكرية، بانتظار خطوات واشنطن على الأرض السورية، فهي التي ستحدد طبيعة المرحلة القادمة.
وسوم: العدد 837