رائحة الموت ..
إذ تقصفك الطائرة
لا تحاول مشاهدة مقاطع الفيديو، هي لن تفيدك بشيء، والأشلاء التي تراها فيها لا معنى لها، والصيحات التي تسمعها فيها هي محض هراء.
عليك أن تكون هناك.
إن لم تكن، فلن تفهم أبداً!
عليك أن تكون وسط السوق، وسط صراخ الباعة والضحكات والشتائم. فجأة سيسود الصمت، ستتبخر كل الضحكات والشتائم وسيتلاشى الصراخ. وحده الصمت التام سيعلن بدء المرحلة التالية؛ الهرب!
لا تفكر، إياك أن تفعل، اهرب فقط. لا يهم إلى أين، فأنت أصلاً لا تعرف أين الطائرة ولا تعرف أين ستقصف، ولكنك تعرف أنها آتية لا ريب فيها، ولذلك يجب أن تهرب.
تذكّر: ربما تهرب من مكانك الآمن لتختبئ حيث ستقصف تماماً. حينها سيكون ذلك هو قدرك فلا تحزن.
أما إذا نجوت وكانت تلك تجربتك الأولى، فسيكون سؤالك الأول هو: وسط كل تلك الجلبة كيف سمعوا صوتها؟
هي الخبرة يا صديقي. لا تقلق، أنت أيضاً ستصبح مثلهم، وطفلك سيصبح مثلهم أيضاً، وسينفجر باكياً مرتعداً متبولاً عندما يستشعر وصولها.
سيتطور سمعك، وسيكون قادراً على تمييز صوتها من مسافات بعيدة حتى وأنت نائم، وسيضحك عليك أهلك عندما تستيقظ هلعاً راكضاً من صوت ظننته صوتها وكان في الحقيقة صوت دراجة نارية بغيضة. أهلك أيضاً ارتعدوا هلعاً وظنوها طائرة.
ستزداد خبرتك، وستعرف كيف تجدها في السماء. وستغدو قادراً على تمييز نوعها من صوتها، وستعرف إن كانت طائرة سيخوي روسية أقلعت من حميميم، أم طائرة تحالف أقلعت من إنجيرليك، أم طائرة ميغ أقلعت من مطار حماه. تلك الأخيرة هي أحقرهن. تلك لن تتوانى عن قصف السوق التي كنت بها منذ قليل. أما إذا كانت طائرة سيخوي من مطار السين فتلك جاءت بمهمة واحدة فقط: قصف السوق وقتلك.
ستلتقي عيناك بعيني الطيار وهو ينقض عليك ليقصفك. تلك اللحظة التي تطول لتصبح دهراً دون أن تتمكن من فعل شيء فيها، سيقطعها في نهاية المطاف ضغط الطيار برفق على زر الإطلاق ليرتفع بعد ذلك مباشرة، معلناً بدء القيامة.
في قلب المجزرة لن تسمع شيئاً، أناس تصرخ، أبنية تنهار، سيارات تحترق... لن تسمع كل ذلك، سيكون في أذنيك طنين يحول بينك وبين تلك الأصوات. بعد لحظات سيصل المسعفون، سيسألك أحدهم إن كنت بخير، لن تسمعه ولكنك ستهز رأسك. سيتركك لآخر، ستحمل معهم المصابين والقتلى، وستطلب من سيارة تنطلق التريّثَ لأنها نسيت قدماً مبتورة أو قطعة لحم؛ ماعدت متأكداً من ماهيتها، ستحملها دون وجل وتضعها بجانب صاحبها وكأنك تحمل قطعة نقدية سقطت من جيب صاحبها دون انتباه.
وشيئاً فشيئاً ستسمع الصراخ والبكاء، وستتسرب رائحة اللحم البشري المحترق إلى أنفك. وستعرف حينها أن للموت رائحة لن تنساها ما حييت.
إذا رأيت الصاروخ فاعلم أنك نجوت، أما إذا لم تره فتلك مشكلة، فالصاروخ مخادع دائماً، مخاتل، يقتلك بغدر.
وعندما ستسمع صوت الانفجار ستكون الأرواح أزهقت والأشلاء تطايرت والمجزرة انتهت، لذلك لا تخف من الصوت، فالصوت قاصر. نحن السوريين نعرف ذلك عزّ المعرفة.
مع تكرار التجربة ستصدّق أستاذك في الفيزياء عندما كان يحدثك عن سرعة الضوء التي تفوق سرعة الصوت. ستشاهد انفجار الضوء ينبثق من مكان انفجار الصاروخ، قبل أن تسمع عويله. ذلك جيد بالمناسبة، إذ يمنحك بضع ثوانٍ لتسد أذنيك أو أذني طفلك!
ومع التجربة ستتعزز معرفتك بأنواع الصواريخ، فهي ليست نوعاً واحداً. فإذا كان الانفجار متتابعاً كألف انفجار مما تعدون فالصاروخ عنقودي، هو لا يقلق غالباً طالما أنت في الداخل، ولكن إذا كنت في الخارج فعليك القلق حقاً.
أما إذا قُلبت الأرض عاليها سافلها فذلك صاروخ ارتجاجي، وفي هذا، وجودك في الخارج هو أفضل من وجودك في الداخل!
أما إذا تولّدت عن الصاروخ كتلة نارية ضخمة أحرقت الأخضر واليابس فذلك فوسفور أبيض، والأفضل لك أن تبقى في الداخل، فلو أمسك بك لن يتركك حتى يصل عظامك.
وإذا مزق الصاروخ الهواء من حولك ودفعك جانباً فهو فراغي، هذا بصراحة لن تجدي معه نصيحة. فعليك أن تسلم أمرك لله.
تذكّر: لا تغلق نوافذك قط، حتى لو في زمهرير الشتاء. اتركها مفتوحة ولو قليلاً، فذلك أفضل من تحوّل زجاجها إلى شظايا تأكل وجوه أطفالك.
لا تحاول الاقتراب من مكان القصف، فالطائرة ستعود. ستقصف مجدداً ومجدداً، ولن ترجع للمطار وفي جعبتها صاروخ واحد. بعض الطيارين يحب المغامرة، فيلقي بحمولته كلها دفعة واحدة، راغباً بدفع المجزرة إلى حدها الأقصى.
لن تعتاد الطائرة قط، ولو بعد ألف غارة، هي شيء لا يعرف الألفة، هي مخيفة في كل مرة، وقلبك سينقبض في كل مرة ستسمعها، وسيستمر هلعك منها حتى بعد هروبك من البلاد. وسيستمر ابنك بالبكاء لسنوات كلما سمع صوتها. وستلعن فيروز إذ غنت: طيري يا طيارة طيري، وستتمنى لو لم يُخلق الأخوان رايت!
تذكر: لا تقصص رؤياك على إخوتك في الوطن أو شركائك في الإنسانية، لن يصدقوا كيف لطائرة حربية بكل جبروتها أن تنقض عليك بكل هزالك.
عليهم أن يكونوا هناك.
إن لم يكونوا، فلن يفهموا أبداً!
.
منقول من مواطن سوري2017
وسوم: العدد 863