ذاكرة تجربة (6) فساد وعشوائيات ثم تهجير واغتصاب للملكيات (الجزء الأول)
بدأت الحكاية عام بين عامي 1976 و1979 بشكل تقريبي عندما صدر المخطط التنظيمي لمدينة حلب مع تعديلاته، ومن المعلوم، كما سيأتي في سياق هذه الحلقة، أن صدور المخطط التنظيمي المُصدَّق للمدينة يتبعه إعداد وإصدار المخططات التفصيلية ونظام ضابطة البناء. وهذه العمليات تستغرق زمنًا طويلاً بسبب الأنظمة البالية المتعلقة بإجراءات الإعداد والتصديق، ويتخللها فساد وإفساد بمئات ملايين الليرات السورية.
على مجلس مدينة حلب التعاقد مع شركة الدراسات والاستشارات الفنية في المدينة لتنفيذ المخططات التفصيلية للمخطط التنظيمي العام وفق رؤية مجلس المدينة، وهذه الرؤية الفاسدة في أوائل الثمانينات أدت إلى موبقات وكوارث مستقبلية تُسمَّى: (مناطق السكن العشوائي في المدينة).
بطل القصة، حسب الروايات التي تواترت، أن رئيس مجلس المدينة آنذاك اتفق مع شركائه، وهم مجموعة من المهندسين، على التلاعب في بورصة الأراضي في حلب، فانطلقوا لشراء ملايين الأمتار المربعة غرب المدينة، وهذه الأراضي تعد رئة مدينة حلب، كانت قيمتها ليرات قليلة؛ لأنها غير مُعدَّة للبناء، أي ليس لها مخططات تفصيلية ونظام ضابطة بناء، وبالتالي لا تُرخَّص.
وبعد امتلاكهم لهذه الأراضي، تم الإيعاز لشركة الدراسات والاستشارات الفنية بالشروع بدراسة المخططات التفصيلية لهذه المناطق، وإهمال مناطق شرق المدينة وجنوبها وشمالها.
بعد ذلك تم إعداد نظام ضابطة البناء لهذه المناطق، وأصبحت تُسمَّى أراضي مُعدَّة للبناء، أي قابلة للترخيص، فتضاعف ثمنها عشرات الأضعاف، ولا يوجد حلبي لا يعرف ما هي (حلب الجديدة) المجاورة لحي (الفرقان)، وكم كان ثمن السُّكنى فيها باهظًا!.
يتنعم الصناعيون والتجار ورجال الأعمال بمساكن فاخرة غرب المدينة وبأسعار خيالية، ويبقى أصحاب الدخل المحدود والمهاجرين من الريف إلى المدينة حيارى أمام واقع مرير، فأبناؤهم يكبرون ويتزوجون، ويزداد عدد العائلات ولا مساكن معقولة الثمن متوفرة، فالأراضي شمال المدينة وشرقها وجنوبها كما في المخطط القادم ليست جاهزة حتى الآن، فلا مخططات تفصيلية، ولا نظام ضابطة، ولا رُخص.
لكن الحلول لأحوال الفقراء دائمًا جاهزة لدى الفاسدين من أجل تعميق جراحهم وتأزيم حياتهم، لِمَ لا ومدينة حلب يحكمها منذ الثمانين منظمة أمنية بعثية تتجلى (وهنا سأذكر أسماء صريحة) بـ (مصطفى التاجر) رئيس فرع الأمن العسكري، و(محمود نوري كلو) أمين فرع الحزب، ومن تلاهما في هذه المناصب.
وبالتواطؤ الاختياري أو القهري مع رؤساء مجلس المدينة المتوالين خلال السنوات العشرين، وبرعاية أبنائهم، وبمشاركة ما يُسمَّى تجار المخالفات، بدأت تنشأ مناطق السكن العشوائي، وتحولت أزمة المدينة من مخالفات فردية بسيطة إلى مناطق شاسعة تُسمَّى (مناطق السكن العشوائي)، وزيادة عليها مناطق (المعامل العشوائية) نذكر منها منطقة (الشقيف) الشهيرة.
وبات ما يقارب نصف سكان مدينة حلب يعيشون في مناطق عشوائية نعيش اليوم آلامها وآثارها على مجتمعنا المغلوب على أمره بأبشع صور الألم التي سنذكرها لاحقًا.
كل ذلك كي ينعم مجرم وشركاؤه بما جنوه من أموال طائلة جراء التوسع غرب المدينة، وإهمال باقي الجهات، وللمعلومة فقد صدر مخطط تنظيمي سنة 2004 ، ولا يزال 25% من مخطط 1979 غير منفذ!!
تعاريف لابد منها:
البرنامج التخطيطي: هو البرنامج الذي يحدد الاحتياجات الآنية والمستقبلية لتجمع سكاني وفق أسس التخطيط العمراني استنادًا إلى واقع هذا التجمع، ويحدد البرنامج عدد السكان والكثافات السكانية ونوع الخدمات وتعدادها، والمشيدات العامة اللازمة له.
المخطط التنظيمي العام: هو المخطط الذي يوضح الرؤية المستقبلية للتجمع السكاني وتوسعه، ويتم ذلك عن طريق تحديد الحدود العمرانية وشبكة الطريق الرئيسة، واستعمالات كافة الأراضي الواقعة ضمنه، ومنهاج ونظام بناء كل منها بما لا يتعارض مع أسس التخطيط العمراني والبرنامج التخطيطي.
المخطط التنظيمي التفصيلي: هو المخطط الذي يحدد كافة التفاصيل التخطيطية لشبكة الطرق الرئيسة والفرعية، وممرات المشاة، والفراغات العامة، وكافة التفاصيل العمرانية للأراضي حسب الاستعمال المرسوم لها، كل ذلك بما لا يتعارض مع المخطط التنظيمي العام ونظام البناء.
نظام ضابطة البناء: هو النظام الذي يحدد ارتفاع البناء وعدد الطوابق والوجائب التي حوله، ونسبة المساحة المبنية إلى مساحة الأرض، وكافة التفصيلات الداخلية الأخرى، ويعبِّر عن ذلك بمناطق سكن أول وسكن ثانٍ… إلخ لكافة المناطق التي نفذ مخططها التفصيلي.
نتوقف هنا، والحلقة القادمة ستكون تكملة حول السكن العشوائي بتفصيل نصل فيه إلى أكبر أزمة ملكيات مرت بسورية جرَّاء التهجير والقوانين الجائرة.
حياكم الله..
وسوم: العدد 890