جوّعونا في شِعب اليرموك!
م. موفق أبو حمدية
نحن‘ الآنَ جائعون، جائعون بشدة، أجساد أطفالنا دمىً بلاستيكية لا يبرز منها سوى العظم!، الهزال واصفرار الوجوه بادٍ على الجميع، التعب ينهش أجسادنا بفعل طعنات الجوع السكاكينيّة، تلجئك إلى الأرض، تركعك تعباً ثم تهزأ من ضعفك!، ومع هذا الألم برد يجمد أطرافنا، وما الجوع والبرد بجانب الخوف العارم الذي يقتلع القلوب والأرواح من الصدور و الأجساد سوى حلقةٍ قصيرة في مسلسلٍ طويل يدخل عامه الرابع!.
في شِعْبِ اليرموك، رصاصٌ من نوع مختلف يقتلُ ببطء أشد من المعتاد، عن يمينك من يقاتل البرد بالعري، ويواجه الجوع بوجبة جوع أدسم من سابقتها، أنظر لذات الشمال ترى "بلقيس" معشوقة "نزار" ذات العيون البراقة قد خمد نورها، وانتفش بعد الرتابة شعرها، و صكّت من أثر الجوع وجنتها، لو رآها نزار لحذف أول ما حذف من شعره نهديها اللذيْن محتهما قصيدة الحصار الذي جفف لبن صدرها، قيل: ذاب جميعه كما ذابت عضلات الرجال!.
هنا اليرموك، حيث الجوع ضارٌّ للجسم، ضارٌّ للعقل، لكنه مفيدٌ بشكل خاص للذاكرة الجمعيّة؛ قيل: إنّ أبانا الذي في الكتب لم يذكر فلسطينياً مات من الجوع إلا في مواطن ثلاثة : تل الزعتر عام 1956، حرب المخيمات 1985، ومخيم اليرموك 2014، ولعله تزيد دهشتك عندما تعلم أن المحاصر كان دائماً هوَ هوَ، هنا –كما الأمس- يموت أطفالنا جوعاً، ففي اللحظة التي يخرج فيها الطفل من بطن أمه، وحيث يدخل إلى الحياة دون أفكار و انفعالات فإنه لا يشعر إلا بالجوع، كذلك فهو عندما يموت هنا لا يشعر إلا بالجوع أيضاً.
قالوا ماتت "سميّة" من الجوع، أعرفها اليوم كما لم أعرف بنتاً من قبل!، أتصورها فتاة في التاسعة من العمر، وحيدة، فقيرة، فقرات عمودها ملتصق بظهر الأرض قبل خروج روحها، ضفائر شعرها لم تتغير، وجهها ورقةٌ خريفية صفراء سقطت قبل أوانها فلم تستقر إلا على شاهد قبر سبيلٍ في مقبرة الشهداء.
أمّا "بشير" محبوب الكل، فهو الظريف، الرشيق، الذي يلهب الجميع بخفة حركته، كانت أم خالد تعتني به كولدٍ من أولادها، وتتعهده بالرعاية يوماً بيوم!، "بشير" ذُبح وطُبخ لحمه، لحسن الحظ أن عائلة ما صادته أخيراً بسبب الهزال الشديد الذي أصابه، كان قطّاً أطفئ الله بلحمه جوع أسرة وأخّر موتها يوماً أو بعض يوم!، لأنها أصيبت بعد ذلك بالتسمم من لحمه "المر"!.
شبح!، شيءٌ ما مكسو بطبقة جلدية رقيقة اصطلح الناس على تسميتها بالجلد، غائر العينين، يريد أن يبكي، يصرخ، تلعثمت روحه، تذكّر ببراءة كم أن الدنيا ظالمة تمنع الناس من الأكل، نظر إلى الأفق، حدّق إلى أقصى المخيم، لعله لم يرَ الشبيحة تمنع الغذاء والدواء والهواء لو استطاعت، فكّر: أوَ ما شبعت من لحم الأضاحي منثورةً كالدرِّ في ساحة الأمويّ تقرصها لسعاتُ بردٍ يا سرادق اليرموك!، يا وحشُ، يا وحشُ كم من طفلةٍ معي جوّعتْ!. شبع أخيراً هناك في السماء، سمع الملائكة تلعن كل نظام عربيّ ملأ السماء ألعاباً نارية لكنه ضنّ على جوعى الأرض رغيفاً وحبة دواء!.