عقيدين على شوية رز وسكر وزيت
من الحياة اليومية لمواطن سوري
هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي حدثت معي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.
كما ذكرت في قصص سابقة، فبعد تخرجي في بداية الثمانينيات من كلية الهندسة الميكانيكية، وقبل سفري إلى أمريكا، عملت في مؤسسة عسكرية تنفذ مشاريعاً هندسية من مبان وطرق ومجمعات وغيرها، وكان قد تم تعييني رئيساً لمستودعات القطع التبديلية المركزية للمؤسسة في معسكر في الغوطة قرب دمشق حيث جرت أحداث قصتنا هذه.
كانت هناك ثلاثة أفرع تخديمية في نفس المعسكر، المستودعات برئاستي، الرحبة المركزية برئاسة مهندس ميكانيك برتبة نقيب وفرع الانتاج برئاسة عقيد متقاعد في الشرطة والذي أيضاً يحمل لقب قائد المعسكر لأنه الأكبر سناً ومن الطائفة الكريمة. وكانت هناك مؤسسة استهلاكية في المعسكر تؤمن المواد من رز وسكر وشاي وزيت وعلب محارم بالبطاقات التموينية. علاقتي مع النقيب والعقيد المتقاعد كانت في البداية لابأس بها إلى أن، وبسبب جديتي في العمل، بدأ يظنان أني أحاول لفت أنظار المدير العام طمعاً بمنصبيهما، على الرغم من أني كنت أتحدث دوماً عن مشروعي للسفر بمجرد إنتهائي من الخدمة قريباً.
دخل أحد مستخدمي المستودعات، وكان رجلاً مسناً، إلى مكتبي أحد الأيام وقال لي بأن المؤسسة الاستهلاكية استلمت كمية محدودة من المواد التموينية وأنه متجه إليها لشراء حاجياته وخاصة من الرز والسكر والزيت قبل نفاذها، وسألني فيما إذا كنت بحاجة لشئ. شكرت الرجل وأجبته بالنفي، فراتب المهندس كان يسمح له بشراء تلك المواد من السوق الحرة وترك المؤسسة الاستهلاكية للموظفين من أصحاب الدخل المحدود. لم تمض دقائق حتى عاد الرجل وعلى وجهه علامات الاحباط، وحين سألته ماذا حصل قال أن المواد قد نفذت قبل وصوله. وبما أن الناس تعيش في سورية على قول المثل (الحيط الحيط ويارب السترة)، فقد اكتفى الرجل بالقول (تركناها لله) وتابع مسيره. كنا نسمع دائماً بأن مدراء المؤسسات الاستهلاكية يبيعون جزءاً ضئيلاً من المواد من فوق الطاولة بالأسعار الرسمية ويبيعون الجزء الأكبر منها من تحتها بأسعار أعلى، أي يتاجرون بأرزاق الناس العاديين. صحيح أني لست محامياً، ولكن وبما أن ذلك المستخدم كان تابعاً لدائرتي وأنا من يوقع على ساعات دوامه واستلامه لراتبه، فقد شعرت بمسؤوليتي عن متابعة هذا الموضوع شخصياً.
رفعت سماعة الهاتف واتصلت بمدير المؤسسة الاستهلاكية وسألته عن سبب نفاذ المواد بهذه السرعة. تلعثم الرجل وشعرت بأنه يحاول التهرب من الجواب، وقد كنت معروفاً عني في المؤسسة بأني لاأقتنع بالأجوبة (الشلف)، فاختصر الموضوع وقال لي: أنا مادخلني، إسأل العقيد قائد المعسكر، فالجواب عنده. طبعاً لم أضيع الوقت وتوجهت فوراً إلى مكتب العقيد فإذا بي أفاجأ بكميات بالجملة من تلك المواد الاستهلاكية المفقودة موضوعة على طاولة الإجتماعات الكبيرة ذات الستة أمتار طول ومترين عرض. بسبب برودة العلاقة بيني وبين الرجل للأسباب التي سبق وذكرتها، فقد سألني مباشرة عما أريد. ولما ذكرت له ماحصل ونفاذ المواد بتلك السرعة، أشار إلى الطاولة وقال بلهجة من يتفضل على الآخر: خذ منها ماتريد، لك ولذلك المستخدم في دائرتك. فأجبته أني لم آت إلى مكتبه للحصول على (مكرمة)، وأن واجب المؤسسة الاستهلاكية بيع هذه المواد للموظفين دون تمييز، وواجبه كرئيس المعسكر الاشراف على ذلك البيع ومنع التجاوزات. وهنا غضب العقيد وقال: مابقي إلا ناخد توجيهات منكم سيدي، على كلٍ هادا الموجود وروح اشتكي إذا ماكان عاجبك. خرجت من مكتب الرجل وغضبي يفوق غضبه، وحتى لاأخيبه، كان أول مافعلته أن اتبعت نصيحته ورفعت كتاباً مفصلاً للمدير العام عن طريق التسلسل مطالباً بفتح تحقيق بموضوع فقدان المواد الغذائية.
لم تمض أيام على الحادثة إلا وباتت حديث المؤسسة بأكملها وخاصة حين أوصى المدير العام بتشكيل لجنة تحقيق برئاسة عقيد ركن متقاعد يعمل في قسم أمن المؤسسة وأعطاه الصلاحيات للتحقيق مع من يريد لكتابة تقريره. حتى لاينخدع القارئ ويظن أن المدير العام كان جاداً وأراد من تلك اللجنة إعطاء الحق لأصحابه، فأريد التوضيح أن تشكيل هكذا لجان في هكذا بلد إنما يهدف إلى تمييع الموضوع وإغراقه في متاهات الاجتماعات ثم اللجان الفرعية ثم الاجتماعات الاضافية وهكذا.
بعد حوالي الشهر، اتصل بي العقيد رئيس اللجنة وطلب الاجتماع بي في مكتبه في المديرية العامة للاستماع لأقوالي. كان من المفترض أن يحضر معنا خلال الاجتماع شخص ليكتب مايدور، وكأننا في محكمة، إلا أن العقيد أمره بالانصراف وهذا ماجعلني أشعر بأنه يحضر لشئ غير متوقع. وفعلا ما أن أغلق باب مكتبه حتى جلس على كنبة بجانبي وقال بصوت منخفض: هل يمكن أن نتحدث بصراحة؟ ثم تابع قبل أن أجيبه: بالرغم من أني لاأعرفك شخصياً، ولكني سمعت عنك كلاماً جيداً من خصومك قبل أصدقائك. مالم أفهمه هو لماذا أنت (حامل السلم بالعرض)، واتهامك للأشخاص الذين ذكرتهم في تقريرك وتحميلهم مسؤولية اختفاء الرز والسكر والزيت من المؤسسة الاستهلاكية يدل على أنك إما مجنون وإما مدعوم حتى العظم، وأنت في الحالتين لست بحاجة لخلق أعداء لأسباب تافهة كتلك التي ذكرتها. ثم وضع أمامي ورقة وقلم ثم تابع يقول: لاتنسى أننا لانعيش في سويسرا، وبصراحة (العين محمرة عليك) وأنا لاأريدك أن تتعرض للأذى لأسباب تافهة وليس لك فيها ناقة ولاجمل، فما رأيك أن تكتب وتوقع الآن طلباً خطياً بسحب تقريرك وإغلاق الموضوع. في الحقيقة لم أدرك فيما إذا كان هذا العقيد صادقاً في مشاعره أم أنه مدفوع من آخرين لاقناعي بطي الموضوع، وإن كنت أرجح الاحتمال الثاني. شكرت الرجل على نصيحته وقلت له بأني سأتابع الموضوع حتى النهاية، فلست ممن يتراجعون عن أمر أنا مقتنع به، فقال لي مازحاً: سمعت من البعض بأنك تخطط للسفر بعد انتاء خدمتك، وسؤالي الأخير لك هو متى ستنتهي خدمتك؟ انتهت اللجنة من أعمالها بعد أيام وقدمت التقرير للمدير العام الذي، وكما كان متوقعاً، أودعه في أحد الأدراج ولم يسمع به أحد بعد ذلك.
هذه هي سورية الأمس للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، ففي هذه (السورية) كل المسؤولين هم عبارة عن لصوص وشركاء في اللصوصية، بغض النظر إذا كانت المسروقات بالمليارت، أو شوية رز وسكر وزيت من قوت الناس.
وسوم: العدد 916