عندما يتبادل الناس الكراسي ويداول الله الأيام بين الناس
الحاج علي بن عوض بن جريبيع النعيمي من بلدة بسطة احدى قرى النعيم في محافظة معان جنوب الأردن: هذا الرجل كان معروفاً لدى الناس بالطيب والتقوى والورع والكرم والسماحة والرجولة، في يوم من الأيام وبينما كان الحاج علي يتجول في مدينة الزرقاء من اجل شراء بعض الحاجات في أواخر خمسينات القرن الماضي وأثناء مروره في سوق الصباغه، اصابه عطش شديد، فرأى امام احد المحلات زيرا ما (بُرْمة أو حِبْ ) فأراد ان يشرب منه ويروي عطشه، وعندما تناول الوعاء الموضوع على الزير وهم بغرف الماء، جاء صاحب المحل فسحب الوعاء من يده بعصبية وقال له: “شايفني فاتحها سبيل لك ولأشكالك؟ روح مع السلامة ما في عندي ماء لك”، فترك الحاج علي الوعاء وقال: “جزاك الله خير”، وانصرف من دون ان يبلّ ريقه بجغمة ماء.
وتمرّ الايام والسنوات، عشرون عاماً من تلك الحادثة، وبينما كان الحاج علي نفسه يتجول في سوق البدو في مدينة معان استوقفه رجل غريب وقال له: لو سمحت انا رجل صبّاغ من مناطق الشمال وابحث عن اصحاب الاغنام والذين يريدون صبغ الصوف ولكني لا اعرف احدا في هذه المنطقة، وعندما دقق الحاج علي في وجه الرجل واذا به الرجل نفسه الذي منعه من شرب الماء قبل 20عاما، فقال له: “تعال معي لبيتي في بلدة بسطة، وسأدلك على اصحاب الاغنام”، فذهب الرجل معه الى بيته، وبعد ان قام بواجبه واكرامه قال له:” انت ضيفي حتى تنتهي من كامل عملك في هذه المنطقة”، فوافق الصباغ، وبقي عند الحاج علي 25 يوماً، يذهب في النهار ويصبغ عند الناس ويعود ليلاً يأكل ويشرب وينام في بيت الحاج علي.
وعندما انهى الصباغ عمله واراد ان يعود إلى مدينة الزرقاء قال للحاج علي. يا أبا عبدالله، لقد استضفتني واكرمتني في بيتك طول هذه المدة وسهلت مهمتي لذلك لن اتحرك من هنا الا بعد ان تعاهدني بالله ان تزورني في اقرب وقت انت واولادك لأنّ ما قمت به انت من خدمة لي ومعروف لا ينسى وهو ديْن في رقبتي ورقبة اولادي واحفادي الى يوم القيامة، فقال له الحاج علي: توكل على الله يابن الحلال، لم نفعل شيء! وما قمنا به هو حق الضيافة فقط، فأصر الرجل والحّ على الحاج علي ان يأخذ عنوان محله، وان يزوره في القريب العاجل. فقال الحاج علي: “انا اعرف محلك جيدا”! فوصف للصباغ محله، فقال الصباغ: نعم هذا هو وصف محلي ! ولكن كيف عرفته ووصفته؟
حينها تبسم الحاج علي وقال له: لقد جئتك في محلك وقمت معي انت بالواجب.
فقال الرجل اين ومتى، فانا لا اذكر انك جئتني او التقيت بك من قبل؟
فقال الحاج علي: “بل التقينا، الا تذكر ذاك البدوي الذي منعته من شرب الماء وسحبت الوعاء من يده وقلت له: ماني فاتحها سبيل لك ولأشكالك، وشححت عليه بشربة ماء؟ فذاك هو انا ذاك البدوي بشحمه ولحمه”.
عند ذلك صعق الرجل وضرب بكلتا بديه على رأسه وجثا على ركبتيه امام الحاج علي وصاح: “يا الهي ياالهي”، امعقول هذا؟ مستحيل يا رجل، اتستضيف في بيتك رجلا بخل عليك بجغمةماء وتبقيه عندك لمدة 25 يوما “من دون كلل و ملل منك وبكل رحابة صدر “؟.
فقال الحاج علي:: توكل على الله يا بن أخي، فنحن لم نتعود ان نقابل الاساءه بالاساءة، فجعل الصباغ يبكي ويقبل يد الحاج علي ويقول له: “سامحني ياعم” فقال له الحاج علي: انا مسامحك بس اعلم يا بن أخي ان الدنيا دوّارة، يوم لك ويوم عليك، وانه لا بد للانسان ان يحتاج إلى أخيه الانسان ولو بعد حين، الناس للناس والكل بالله.
قال تعالى: ” وتلك الأيام نداولها بين الناس”الأغنياء يصبحون فقراء، والفقراء يصبحون أغنياء، وضعفاء الأمس أقوياء اليوم، وحكّام الأمس مشرّدو اليوم، والغالبون مغلوبون، والفلك دوار، والحياة لاتقف، والحوادث لاتكف عن الجريان، والناس يتبادلون الكراسي، ولاحزن يستمر ولا فرح يدوم، ولله در أبي الفتح البستي رحمه الله حين قال :
لا تحسبن سرورا دائما أبدا
من سرّه زمن ساءته أزمان
وسوم: العدد 925