رحلة غسان بن جدو من أنفاق غزة إلى نفاق النكاح
رحلة غسان بن جدو
من أنفاق غزة إلى نفاق النكاح
طريف يوسف آغا
حين قام الاعلامي السابق في قناة الجزيرة، غسان بن جدو، بزيارة هيوستن في خريف عام 2010، توجهت الجالية إلى المركز الثقافي العربي الأمريكي في المدينة للاستماع لمحاضرته حول (الصحافة في الشرق الأوسط). وقد استقبل الرجل هنا استقبال الأبطال كونه الاعلامي الوحيد الذي تمكن من دخول قطاع غزة عبر أحد الأنفاق، بعد رفض مصر دخوله من معبر رفح، لتغطية العدوان الاسرائيلي على القطاع في شهر كانون الأول عام 2008. ولكن مابين تلك الرحلة البطولية واليوم، فقد قطع بن جدو رحلة اخرى أقل مايقال فيها أنها مخيبة للآمال.
كنت من ضمن الجمهور الذي حضر إلى المركز الثقافي يومها واستمع إلى بن جدو وهو يشرح كيف تمكن من عبور النفق والتواصل مع مقاتلي حماس داخل القطاع وتصوير وحشية العدوان الاسرائيلي. وكنت من الأشخاص الذين تحدثوا معه شخصياً وقاموا بطرح العديد من الأسئلة عليه بعد انتهاء المحاضرة، كما وقدمت له نسخة من قصيدتي (القدس جرح التاريخ) التي كنت قد ألقيتها من نفس القاعة قبل حوالي العام. غسان بن جدو من أب تونسي وأم لبنانية، درس في تونس وعاش في لبنان وبدأ عمله في مجال الاعلام عام 1990 كمراسل لصحيفة الحياة اللبنانية ثم مراسلاً لهيئة الاذاعة البريطانية في ايران عام 1995. بدأ نجمه بالصعود حين انضم إلى قناة الجزيرة القطرية عام 2000 وغطى انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني. كانت غالبية الشعوب العربية عموماً منخدعة حينها بمقولة المقاومة والممانعة التي حمل رايتها حزب الله اللبناني وزعيمه حسن نصر الله. ولماذا لاتنخدع وهي التي رأت كيف تمكن الحزب المذكور من إجبار إسرائيل على الانسحاب من الجنوب بعد احتلال دام 18 سنة. وكنت شخصياً ممن كتبوا مفاخرين بتلك المقاومة وانتصاراتها، ومن منا لم ينخدع بتلك الأحداث ولم يكن مسحوراً بفكرة القومية العربية وانبعاثها من جديد، ليتبين لنا بعد ثورات الربيع العربي بأن كل ذلك ماكان إلا إبرة أفيون لتخدير الشعوب وجعلها تعيش على الأحلام وتصبر على قهر حكامها لها مادامت الأهداف سامية ونبيلة. فهذه الشعارات البراقة جعلت شعوبنا تسلم أمرها لهؤلاء الحكام المجرمين ليفعلوا بها وبالأوطان مايشاؤون من جهة، كما تركت إسرائيل تنعم بالأمن والأمان وتتابع مسيرتها في تحقيق وزيادة تفوقها العلمي وأيضاً العسكري على كافة جيرانها مجتمعين.
إذا نظرنا إلى قرار احتفاظ إسرائيل بالجنوب بعد غزوها للبنان عام 1982، لوجدنا أنها في الواقع ماكانت بحاجة لفعل ذلك لحماية أمنها كما ادعت حينها، والنتيجة الوحيدة لقرارها هذا كان تمهيد الطريق أمام ظهور حزب الله الشيعي وإهداء القرار السياسي اللبناني لايران. بالنسبة لاسرائيل، فان لبنان بهيمنه إيرانية مذهبية متفاهمة معها وتحاربها بالشعارات والتهديدات الكلامية أفضل بكثير من أي شئ آخر، فالعدو الوهمي أحياناً أكثر ضرورة وأهمية الصديق. وقد وضحت في مقال سابق مؤخراً أن التاريخ يروي بوضوح قصة التحالف والمصالح والعدو المشترك بين الطرفين، الاسرائيليين والايرانيين، من أيام الامبرطورية الفارسية مروراً بالدولة الصفوية وعهد الشاه إلى اليوم. وإذا نظرنا إلى عمليات المقاومة التي نفذها حزب الله ضد إسرائيل من الجنوب لوجدنا أنها تتصف بالاجمال بالعمليات المسرحية أكثر مما يمكن وصفها بالمقاومة الجدية. فلو أرادت إسرائيل البقاء في الجنوب وإزالة هذا الحزب كما أزالت المقاومة الفلسطينية من قبله لفعلت ذلك ولما منعها شئ، ولكنها انسحبت من جانب واحد مقدمة لحسن نصر الله انتصاراً مجانياً لتلميع صورته ليس إلا. وهي حركة مسرحية تشبه إلى حد بعيد انسحابها من مدينة القنيطرة بعد حرب تشرين عام 1973 لتلميع صورة الأسد الأب ومنحه الشرعية التي كان بحاجتها لتثبيت قبضته على الحكم، معتبرة ذلك ثمناً رخيصاً مقابل ماقدمه لها من قبل ومن بعد.
علينا أن لاننسى هنا أن حزب الله ليس سوى أداة إيرانية تخضع لأوامر الولي الفقيه في طهران، وهو ينفذها دون سؤال أو اعتراض كونها صادرة عن مرجع ديني معصوم ويمثل الامام المنتظر إلى حين ظهور الأخير. وعلينا أن لاننسى أيضاً أن هذا الولي الفقيه في طهران إنما يرفع راية المذهبية لتوسيع نفوذ بلاده وإعادة أمجاد الامبرطورية الفارسية ليس إلا. وبالتالي فهو يعتمد على تجنيد الملايين من الشيعة حول العالم إما بغسيل أدمغة المؤمنين منهم لخدمة هدفه التوسعي بعد إلباسه قميص الدين والثأر لأهل البيت، وإما بشرائه للباقي كمرتزقة بالمال وغيره ليحاربوا إلى صفه. لاأعرف بالتحديد من أي نوع هو غسان بن جدو، علماً بأنه متشيع ومتزوج من لبنانية شيعية، وإن كنت أرجح بأنه من النوع الثاني. وعلى كل حال فالرجل وقف مع ثورات الربيع العربي الأولى، التونسية والمصرية واليمنية، يبدو لا لأنها طالبت بالحرية لشعوبها، ولكن لأنها قامت ضد أنظمة كانت داخلة في تحالف إقليمي مع دول التعاون الخليجي ضد خطر المد الايراني الشيعي الذي سبق وابتلع العراق ولبنان. والدليل على ذلك بأنه وحين وصلت رياح الثورة إلى سورية وبات نظام الأسد في خطر، غلبت مذهبية الرجل وطائفيتة على عروبته التي طالما تغنى بها، وسارع بالاستقالة من قناة الجزيرة التي قررت البقاء مع الثورة السورية ومازالت. ثم شاهدنا كيف قام باطلاق قناة (الميادين) الفضائية من لبنان عام 2012 بميزانية 40 مليون دولار لدعم نظام الأسد والتسويق للسياسات الايرانية في المنطقة والعالم. وبنظرة سريعة على أسماء ومرجعيات غالبية العاملين فيها يمكننا معرفة خطاب المحطة وأهدافها ومرجعية الدولة الممولة لها.
القنبلة الأخطر التي ألقتها القناة كانت التسويق والترويج للاشاعة التي أطلقتها المخابرات الايرانية والسورية حول انتشار (جهاد النكاح) بين الثوار المجاهدين في سورية. وقد اتهمت قناة بن جدو الشيخ السعودي الموالي للثورة السورية، د. محمد العريفي، باصدار فتوى تجيز منح النساء المسلمات أنفسهن للمجاهدين في سورية بهدف (رفع معنوياتهم) بما يسمى (جهاد النكاح)، مما دفع بالشيخ المذكور إلى نفي تلك الشائعة جملة وتفصيلاً مؤكداً بأنها من فبركة المخابرات ليس إلا. ولكن وبالرغم من نفي صاحب العلاقة للشائعة، فقد استمر بن جدو وعبر محطته ببث الآكاذيب حولها، تساعده في ذلك الأقنية السورية والايرانية وتلك الموالية لهما وتلك التي قبضت من أجل ذلك. وقد قامت الحكومة التونسية وأقنية إخبارية بفتح تحقيقات حول التونسيات اللاتي اتهمن بالسفر إلى سورية من أجل هذا الجهاد، فلم تجد أي دليل للاتهام، وأن الأسماء التي تم تداولها لمجاهدات النكاح ماهي إلا أسماء وهمية. كما تمت العودة إلى تعاليم الشريعة الاسلامية والبحث عن وجود فتوى مشابهة أو فيما إذا كان لها أصل عبر التاريخ الاسلامي، فكانت النتيجة أيضاً سلبية.
ليس هناك مايبرر اصطفاف غسان بن جدو مع سفاح دمشق، الذي قتل مئات الآلاف وشرد الملايين من الشعب السوري، ومع صفووي إيران الذين يهدفون لابتلاع البلاد العربية واحدة تلو الاخرى، إلا المرجعية الطائفية أو المكاسب المالية أو الاثنين معاً. ولكن الرجل الذي خدعنا يوماً ببطولاته الخارقة وبرامجه الوطنية، كشفته الثورة السورية المباركة على حقيقته كما كشفت الكثير غيره، ومن كنا نظنه بطل الأنفاق تبين أنه ليس إلا بطل النفاق.