الإدارةُ الأمريكيةُ تنقلبُ على إسرائيلَ وتنتقدُهَا
يبدو أنها أضغاثُ أحلامٍ وأماني مستحيلة، وقراءاتٌ خاطئة واستنتاجاتٌ واهية، فهي ضربٌ من الخيال البعيد، أو هي شيءٌ من الوهم المريض، لا يجوز لنا أن نتصورها ولا يحق لنا أن نتخيلها، ومن السفه وقلة العقل أن ننتظرها أو أن نتوقعها، فهذا الأمر يكاد يكون مستحيلاً، بل هو المستحيل بعينه، فهو مخالفٌ للسياسة الأمريكية ومناقضٌ لثوابتها، ولا يتوافق مع تاريخها ولا ينسجم مع موروثاتها، فالولايات المتحدة الأمريكية تتبنى الكيان الصهيوني وتدافع عنه، وتتولى رعايته وتتحالف معه، وهي التي تتعهد قوته وتفوقه، وتحرص على أمنه ومستقبله، وتضمن سلامته وتعمل على حمايته، وتحول دون انتقاده وترفض إدانته، وتمنع مجلس الأمن من التصويت ضده أو التهديد بعقابه.
لكن هذا لا يمنعنا من ملاحظة المتغيرات الأخيرة في الخطاب الأمريكي تجاه الكيان الصهيوني، ومتابعة تصريحات الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن وأركان إدارته، خاصةً بعد معركة سيف القدس والعدوان على قطاع غزة، وممارساته العنيفة والعنصرية ضد المواطنين الفلسطينيين في مدينة القدس، ومحاولات الاعتداء على أحيائهم والتهديد بإخراجهم من بيوتهم، ومخططات طردهم منها والسيطرة عليها، ذلك أنه يوجد متغيراتٌ وإشاراتٌ يصعب إنكارها، ولا يسهل تجاهلها، بل يجب الوقوف عندها ودراستها، وتحليلها ومعرفة حقيقتها، والحكم عليها إن كانت جدية ولها ما بعدها، أو أنها شكلية ووهمية، وليست إلا لذر الرماد في العيون، ولفت الأنظار وحرف المجتمع الدولي عن الاهتمام بالأسباب الحقيقية لتفجر العنف في المنطقة.
فالرئيس الأمريكي الذي لا يخفي غضبه من رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو، وسخطه عليه وسعادته برحيله، كان قد اتصل به مراتٍ عديدةٍ موبخاً ومحذراً، وطالبه بالوقف الفوري لكافة العمليات الحربية ضد قطاع غزة، وكان من قبل قد استنكر إقدام الحكومة الإسرائيلية على تهديد السكان الفلسطينيين في حي الشيخ جراح، ودعاها إلى حُسن معاملتهم واحترام حقوقهم، وعدم الإقدام على إخراجهم من بيوتهم، واعتبر ما قامت به الحكومة الإسرائيلية عملاً غير محترمٍ.
وفي السياق ذاته دعا الحكومة الإسرائيلية إلى الحفاظ على الأوضاع العامة في مدينة القدس، واحترام حقوق الفلسطينيين المشروعة بالصلاة وإقامة الشعائر الدينية في المسجد الأقصى، وعدم استفزازهم والتضييق عليهم، وعدم القيام بأي إجراءاتٍ من طرفٍ واحدٍ، من شأنها المساس بالمسجد الأقصى، وبالوضع التاريخي للقدس الشرقية وسكانها الفلسطينيين.
وكان الرئيس الأمريكي قد أعلن عن نيته افتتاح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، فيما بدا أنه تراجعٌ عملي عما قام به الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وأعلن تسميه سفيرٍ جديدٍ لبلاده في الكيان الصهيوني، يختلف كلياً عن سلفه دافيد فريدمان، ولا يؤمن بأفكاره ولا يتبنى سياسته، ولا يشجع الإسرائيليين على الإمعان في الاعتداء على الفلسطينيين ولا يحرضهم عليهم.
كما سمى هادي عمرو مبعوثاً أمريكياً للسلام في الشرق الأوسط، ومسؤولاً عن الملف الفلسطيني والإسرائيلي في الإدارة الأمريكية، رغم اعتراض الحكومة الإسرائيلية عليه، وعدم رضاها عنه، ومطالبتها بتغييره أو عدم تثبيته كونه عربي الأصل، ويبدي انحيازاً إلى الفلسطينيين واضحاً، ويؤيدهم في حقهم بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب الدولة العبرية، فيما يعرف بحل الدولتين، ويعارض السياسات العنفية الإسرائيلية، ويحملهم مسؤولية التدهور الأخير في المنطقة، في الوقت الذي ينوي فيه الاقتراح على رئيسه بزيادة الدعم الأمريكي للسلطة الفلسطينية، والعمل على تحسين أدائها وتثبيت سلطتها وزيادة ميزانيتها، والتخفيف من المساس بهيبتها وتجاوزها والاعتداء عليها.
ووجه الرئيس الأمريكي انتقاداً شديد اللهجة إلى الحكومة الإسرائيلية لتعمدها تأخير وتعطيل عملية إعادة إعمار قطاع غزة، ودعاها ومصر إلى المباشرة في عملية الإعمار، وتحسين مستوى معيشة سكان قطاع غزة، وتسهيل إدخال مواد البناء والوقود اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء.
وبلغت حدة الانتقادات الأمريكية أوجها في الأيام القليلة الماضية، عندما استنكرت الإدارة الأمريكية إقدام الحكومة الإسرائيلية على هدم بيت المواطن الفلسطيني منتصر الشلبي، الذي يحمل الجنسية الأمريكية، على خلفية قيامه بقتل مستوطنٍ إسرائيلي وإصابة آخرين بجراحٍ مختلفةٍ، واعتبرت الإدارة الأمريكية أن سياسة العقاب الجماعي المتمثلة بهدم البيوت سياسة ظالمة، وهي لا تساعد في تحقيق الأمن وتثبيت السلام في منطقة الشرق الأوسط، بل إن الاستمرار فيها يجلب المزيد من العنف وعدم الاستقرار، ويخلق ردود فعلٍ قاسية وغير محسوبة، وكانت الحكومة الإسرائيلية قد دافعت عن موقفها، ورفضت الاستجابة إلى الرغبة الأمريكية، ونفذت أجهزتها الأمنية عملية الهدم، بحجة أنها تحمي أمنها وسلامة مستوطنيها.
مما لا شك فيه أن هناك خطاباً أمريكياً تجاه الكيان الصهيوني مختلف ظاهرياً، ولا يشبه الخطاب التقليدي الأمريكي المعتاد، وهو لا يقتصر فقط على الديمقراطيين، بل اشترك فيه بعض الجمهوريين من أعضاء مجلسي الكونجرس والشيوخ لأمريكيين، الأمر الذي يشي بأن تغييراً ما قد طرأ، وتطوراً في السياسة الأمريكية قد حدث، فهل هي تغييراتٌ جذريةٌ حقيقيةٌ، تمهدُ لانقلابٍ حقيقي في السياسة التقليدية الأمريكية، أم أنها فقط محاولة لإنقاذ إسرائيل من أزماتها وإخراجها من مآزقها، وانتشالها من غبائها، ومساعدتها على الخروج من ورطتها وتجاوز محنتها.
وسوم: العدد 937