وطنية الكَرْعِينْ للأكثرين، ووطنية البطن للأقلين
عثمان أيت مهدي
استوقفتني هذه العبارة الجميلة للأستاذ محمد الهادي الحسني في مقال له بعنوان "رياضة بلا أخلاق" المنشور بجريدة الشروق الجزائرية يوم الاثنين 25/11/2013م. يتناول في هذا المقال ظاهرة انحطاط الأخلاق عند مناصرينا لكرة القدم، الذين تقدمهم وسائل الإعلام المرئية منها والمقروءة على أنهم وطنيون حدّ التخمة، يحيون لوطنهم ويموتون من أجله. هؤلاء الوطنيون الجدد يدفعون الغالي والنفيس من أجل مشاهدة مقابلة في كرة القدم لفريقهم الوطني، ويصيحون بأعلى أصواتهم "وان تو ثري فيفا لالجيري"، يصولون ويجولون في شوارع وأزقة الجزائر حاملين الرايات الوطنية ملتحفين بالأعلام الجزائرية إلى مطلع الفجر، ولا يتوقفون عن صراخهم ولا يدخلون بيوتهم إلا وقد بحت حناجرهم وتعبت أجسادهم.
وطنية الكرعين تجدها عند غالبية الشعب الجزائري، العمال يتركون مواقع عملهم، والتلاميذ والطلبة يفرون من مدارسهم، والكلّ مسلوب القلب والعقل إلى هذه المقابلة التي تجمع بين الفريق الوطني رمز الإخلاص والتضحية والفريق الخصم رمز والعداوة والبغضاء، تقام بينهما مقابلة بأخلاق الكرة، من اقتتال وتدافع، سبّ وشتم، حيل ومراوغات. تنتهي المقابلة بفوز أحدهما وإقامة أفراح في ليال سبع، أمّا ثانيهما المنهزم، ينقلب عليه الجمهور من المناصرين والإعلاميين والساسة والشعب عامة، فيتهمونهم بالخيانة والعمالة للأجنبي، ويحق فيهم العقاب والسجن. وطنية الكرعين أسندت للرعاع من الشعب، أو للرعية الحمقاء، وهي الغالبية، تعيش أيّامها على أحلام اليقظة، ترى من تأهل فريقها نصرا مبينا لها، وفي انهزامه انكسارا وقنوطا. تثور غضبا إذا لم تمنح الجوائز بالملايين من الأورو لفريقها، وهي التي تسكن الصفيح وتلبس الأسمال وتقتات من الفضلات.
أمّا وطنية البطن، فلم تجد لها أرضية خصبة في تربة الرعية الحمقاء، لذا أسندت للأقلية من الساسة والمناضلين والنقابيين الوطنيين، الذين يتعاملون مع وطنهم كأنهم متعاونون أجانب، يعملون جاهدين من أجل ملأ جيوبهم مالا وذهبا، وبعد ذلك تحويل أموالهم إلى بنوك أجنبية، وتنتهي وطنيتهم بافتضاحهم في وسائل الإعلام، حيث يفرون ويتركون أماكنهم لوطنيين آخرين على شاكلتهم. وطنية البطن عشّشت في عقول الطبقة المثقفة الجزائرية، فمعظم مثقفينا انبطحوا للنظام الحاكم، وباعوا ضمائرهم من أجل دراهم معدودات تبعد عنهم شبح الفقر والبطالة، وأصبحوا بحقٍّ أذناب نظام يوزع الوطنية بحسب إمكانات كلّ واحد.
بقيت وطنية القلب والعقل عند الأقلية الساحقة من الشعب الجزائري، الأقلية التي تعمل ثماني ساعات في اليوم، بعيدة عن الأضواء والأبواق، راضية بحظها من العيش، آمنة في بيتها، مستسلمة لقدرها، تلحفت بالوطنية لا بالعلم الوطني، أخلاقها التي لا تقاوم، وعملها جاد ومتقن، وإيمانها عميق بأنّ الجزائر وطنها والإسلام دينها، رفعت راية الشهادة إبّان الاحتلال، وحملت راية التشييد والبناء بعد الاستقلال. هؤلاء رغم قلتهم الساحقة يبقون هم الجزائر، هم أنفاسها بعدما أصبح الجسد طريح الفراش، مستسلما لأمراض مختلفة. هذه الأقلية الساحقة المستنيرة من أبناء وطنية العقل والقلب محكوم عليها أن تعيش بين جهل وطنية الكرعين وغدر وطنية البطن. فاللهم رحماك من جاهل وليتني أمره وغادر وليته أمري.