النفوس المريضة والمظاهر الكذابة
د.مصطفى يوسف اللداوي
بعض الناس يحبون المظاهر أكثر من حبهم للحياة، فلا يستطيعون العيش دون مظهرٍ زائفٍ أو حقيقي، وقد يدفعون من جيوبهم ليصدق الناس كذبهم، ويعيشوا معهم وَهْمَ مقامهم، وهالة علو شأنهم، وأهمية أشخاصهم، وسمو مناصبهم، وخطورة وظائفهم.
يحبون الظهور، ويعشقون الإعلام، ويبحثون عن الشهرة، ويسعون للذكر، ويتعمدون الجلوس في الصفوف الأولى، والمقاعد المتقدمة، يلوحون للناس بأيديهم تارةً، أو بابتسامةٍ على شفاههم تارةً أخرى، ولو لم يعرهم الناس اهتماماً، أو لم ينتبهوا لوجودهم، أو يلحظوا غيابهم، فما يهمهم هو البقاء في دائرة الإعلام، وفي مركز الأحداث، وتحت أعين الناس، فقد اعتادوا الشهرة، وعاشوا تحت الأضواء سنيناً، يحترمهم الناس، ويقومون على خدمتهم، والقيام بشؤونهم، وتيسير حاجاتهم، متواضعين أمامهم، محبين لهم، لقداسة ما يحملون من قضايا وأمانات.
إنهم يتعمدون الجلوس في المقاعد الخلفية، ويتأخرون في سياراتهم الفارهة حتى ينزل السائق ويفتح لهم باب السيارة، حاملاً حقيبته، وأحياناً كثيرة خضاراً وفواكه وأغراض المطبخ، ومستلزمات الأطفال، ودوماً ثياب النساء والأولاد، وحاجات البيت المختلفة، ولا يبالون إن ارتفعت أصواتهم غضباً أو سخطاً، على عاملٍ مسكين، أو مساعدٍ بسيط، إذا تأخر في الخدمة، أو قصر في العمل.
بعضهم، وهم كثير، قد فقدوا مسؤولياتهم، وانتهت مهماتهم، وذهبت حقائبهم، وسقطت ملفاتهم، وتراجعت أدوارهم، وأصبحوا ماضٍ قديم، ومسؤولين سابقين، وهم يعرفون أنهم ليسوا فاعلين، وأنهم لم يعودوا مسؤولين، أو مقدمين وبارزين، ولا يستحقون ما يطلبون، ولا يحق لهم ما يتطلعون، ولكنهم يصرون على الصفات القديمة، والمواقع السابقة، بتبجحٍ وكبرياء، وصفاقةٍ وقلة أدبٍ ولباقة.
فهذا مدير عامٌ سابق، يصر على حقيبته التي كانت، ويوزع البطاقة التي تحمل صفته القديمة، ويتعمد تقديم نفسه بها، ويتجنب كلمة سابقٍ، بل لا يحبها، ويغضب في وجه من يذكرها، أو يُذِّكره بها، وهو يعلم أنها لم تعد له، وأن غيره قد استحقها منه، وأصبحت له، بحكم الانتخاب، أو نتيجة الاختيار، وهذه سنة الحياة، ومن طبائع البشر، وعادات الخلق التي اعتاد عليها الناس.
وهذا يدعي أنه عضو مكتبٍ سياسي، أو عضو القيادة المركزية، ويصر على المسمى، وهو يعلم أنه كاذبٌ ومدعي، فبعضهم لم يكونوا يوماً أعضاء مكاتب سياسية، وآخرون كانوا ثم فقدوا مواقعهم، وخسروا مناصبهم وصفاتهم، وجاء من بعدهم غيرهم، ولكنهم يتشبتون ويصرون، ويكابرون ويدعون، ويوهمون من لا يعرف أنهم هنا، بذات الصفة ونفس الموقع.
وذاك يدعي أنه يحمل ملفاً، ويدير مكتباً، وعنده لجنة، ولديه فريقاً، مسؤولاً عن علاقاتٍ، أو إدارة إعلامٍ، أو تشغيل مؤسسة، وغير ذلك مما يوهم به نفسه، أو يرضي به غروره، معتقداً أنه يخدع غيره، وينجح في تمرير نفسه، عله يجلب لنفسه الاحترام، ويدفع الآخرين لتقديمه أو إبراز مكانه، والحديث معه أو عنه.
وكلهم يستغل ما هو متاحٌ بين يديه من وسائل وآلياتٍ، إعلامية ومالية وخدمية، قد لا تكون له، بل تتبع وظيفته السابقة، وتتعلق بمنصبه القديم، ولكنه استبقاها لخدمته، واحتفظ بها لحاجته، وسخرها لأغراضه ومصالحه، واستخدمها ليوهم الآخرين، ويرضي بها غرور نفسه، ويعمق فساد خلقه، واعوجاج طبعه.
بل إن منهم من يحرص على إفشال اللاحقين، وإظهار عجز التالين، ممن جاؤوا بعدهم، وخلفوهم في أدوارهم، فيضعون في طريقهم العقبات، ويخلقون لهم المشاكل والتحديات، ويسحبون ما يستطيعون من أصحاب المواهب والقدرات، ومن حملة الشهادات والكفاءات، ليفشلوا الخلف، ويظهروا عجزه، بل إنهم يتعمدون إحراجهم، ولفت أنظار الآخرين إلى غيابهم، أو بيان عدم قدرتهم، ولسان حالهم يقول، نحن الأكفأ والأفضل، نحن الأقوى والأكثر قدرة، والأجدر بالصفة والوظيفة والمكانة.
يظن هؤلاء الناس الذين يعشقون المظاهر، ويحبون المناصب، أن الناس أغبياء لا يفهمون، وأنهم دهماء لا يعقلون، وأنهم لا يميزون بين السابق واللاحق، وبين الصادق والكاذب، وبين المدعي والأصيل، وبين الغث والسمين، فيصرون على استغباء العقول، واستعلاء الظهور، وخداع الناس، وجلد الضعفاء المصدقين.
بعضُ الناس لا قيمة لهم إلا بمناصبهم، ولا احترام لهم إلا من أجل مواقعهم، ولا تبجيل لهم إلا في وظائفهم، فهم من الصنف الذين يكبرون بمناصبهم، ويستغلون مواقعهم، ويأخذون منها أكثر مما يعطونها، ويستفيدون منها أكثر مما يفيدونها، ويسخرونها لأنفسهم دون العامة، ويشغلونها لأشخاصهم والخاصة، مستغلين القدرات والامتيازات والعطاءات التي يتيحها المنصب والمركز، وهم يعلمون أنهم لا شئ خارج الوظيفة، ودون الصفة، ولا قدرات لديهم أو عندهم تميزهم، أو تؤهلهم وتقدمهم، وكل الذي كان لهم وعندهم، ليس إلا التزلف والكذب، والنفاق والدجل، فما أحسنوا صنعةً غير التصفيق للمسؤول، والتطبيل لصاحب السلطة والسطوة، والتسبيح بحمده، وتعداد صفاته وتمجيد قدراته، في الوقت الذي تنعدم فيه قدراتهم، وتضمحل مواهبهم، وتظهر سطحية مؤهلاتهم، وحقيقة ادعاءاتهم.
نسي الباحثون عن الأضواء، المتمسكون بالمناصب والأهواء، المحبون للشهرة والأضواء، أن القيمة في الذات، والاحترام للجوهر، وأن الإنسان الصادق مقدمٌ ومحترم، بالأفكار التي يؤمن بها، والمهام التي يحملها، والقضايا التي يناضل من أجلها، والأهداف التي يسعى لتحقيقها، وقيمته تكبر بمدى تضحيته وتجرده، وبصدق عطائه وبذله، وبحقيقة زهده وعفافه، وأن الله يبارك في عمل الأخفياء الأنقياء، الأجلاء الأتقياء، الذين لا تهمهم الجعجعات، ولا تعطل قدراتهم المظاهر والهيئات، ما أخلصوا لله عملاً ونية.