المؤسسات التعليمية ودورها في تأثيل الهوية الوطنية
سرف المداد
هذه الكريهة البغيضة الخلق، الشنيعة البشعة، المرتفعة الصياح، لا ترضى بشيء، ولا ترضى عن شيء، غير أن تنشر بأسها وعنفها، ولا تدعنا نعيش تلك الحياة الغضة، السمحة، اليسيرة، التي تعيشها شعوب المنطقة، فالحرب الضروس التي ضربت رواقها على السودان، ولا تريد أن تفارقه، لم يصارحها أحد في الحق بعشق ولا غرام، أزمعت هذه الهيجاء التي تطوف في هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها، أن تنتزع أرواح الناس انتزاعا، وتتركها بين ذراعي الموت، وخصوماتنا المؤلمة التي أحالت شعبنا إلى صفوف متراصة تحت رأيتها، قد اجتمعت عندها طائفة كبيرة من ألوان الضغائن والأحقاد، هذه العداوات والبغضاء، لم تزل بكل أسى وأسف جذعة قوية، لأن سدتنتها يعنون بها أشد العناية، ولا يريدون لنائرتها أن تخمد وتنطفئ.
والحق الذي لا سبيل إلى الشك فيه، أن الوغى سوف تدفع رجاء السودان إلى الفتور، والخمود، والانزواء، ذلك الرجاء الذي ينبغي أن يشغل عقلنا بالتفكير، وقلبنا بالعاطفة، في كيفية إخماد أسباب هذه الحرب، التي لقينا فيها من الشدة، والمشقة، والبلاء، شيئاً عظيما، يمتنع عنا هذا الرجاء، لأن هناك من يعتقد أنه خليقاً أن يسود، إذا طال أمد هذه الحرب، وتبرم من طولها الجيش، ونسي أو تناسى هذا الجامح الطامح، أن الشعب يضيق به أشد الضيق، وينكر غايته وهدفه أعظم الانكار، والجيش السوداني لا يكتفي مثلنا بالانكار والضيق، بل يضيف لهما عزماً صادقاً لا يكاد يرقى إليه ظن، فالجيش تجتمع عنده هذه الضروب، مع الحاح عنيف بمحق المليشيا، قبل أن يبلغ العام، أو يكاد يبلغه دواسه معها.
والسودان حتى ينجو بنفسه من شرور هذه الحوادث الحادة، عليه أن يحلل، ويفند، ويمدح، ويذم، يحلل أسباب هذه النزاعات، ويسعى أن يحصي مسوغاتها، فالسودان يحتاج أن يقف في فصول كل هذه الحروب التي استعرت في أراضيه، وقفت تفكير وتأمل، وأن ينتهج هذه الطريقة الشائعة المألوفة في الكثير من البيئات المتحضرة، التي تعكف على دراسة كل ما يؤرقها بالبحث والاستقصاء، هذه الطريقة الناجعة هي وحدها التي تنتسخ آية الشك، وتبدد ظلمة الشبهة، علينا إذن أن ننثر كنانة هذه الأسباب أيها السادة، ونعمد إلى أشدها اعناتا إلى الذهن، فنتخذها موضوعاً يبعثنا على التفكير، ويحبب إلينا الروية، التي تكفل لنا التخفف من هذا الحمل المنشوء، الذي إذا نزعناه عن رقابنا، لعشنا في لذة ودعة، ولتوثقت صلاتنا بالنهضة، النهضة تلك المفردة العظيمة المعاني، الفينانة الأفرع، والتي لا يتحرك ذكرها إلا عند استرجاع ماضينا السحيق، وحتى نتحفّى بنتاج العقول، وجني الأذهان، علينا أن نقصي العواطف، ونبعد الاحساس، فالمشاعر مكانها العبث والفنون، أما مشاكلنا العويصة المعقدة، فهي تحتاج إلى عقل نابه ومنطق صائب، وتحليل دقيق، نحتاج إلى عقل واعي ومدرك، يأنف من هذه الحياة الوضيعة، ولا يتكلف المعاذير لأصحابها، عقل جائشاً بالحركة والنشاط، يسعى لأن يبحث في الآراء المضطربة، وقضايا الهيجاء المتناقضة، فيقرب أسباب، ويقصي أخرى، ويظهر في خاتمة المطاف وجه الحرب الشاحب، ويبين صفرته ودمامته.
وحتى ننظر إلى أبعد من أنوفنا، علينا أن نحكم الإبانة، ونحقق الايضاح، ونلائم بين حكمنا على الأشياء وحكمنا على الناس، يجب أن نستيقن أن نظامنا الاجتماعي عامل لا سبيل إلى اغفاله، نظامنا هذا الذي يجب أن نسرف في لومه، وذمه، ولا نقتصد، لأنه ينال الحظ الأوفر من الميل والعاطفة، ولأن منظومته تحتوي على كل رث وفاسد، وحتى نتجنب َشرور هذا النظام، علينا أن نُحْكِم التربية، ونُحْكِم الأخلاق، ونُحْكِم القيم المستوحاة من الدين، حتى لا نخلط الحسن بالقبيح، والجيد بالردئ.
وحتى نفعل هذا كله، علينا أن نتكلف جهوداً، ونتجشم أهوالاً، و نستدعي تلك الملكات القوية التي تعيننا على التخلص من هذه الأزمات، نحن إذاً نفكر في هذه الأزمات على اختلافها، ونسعى في عزم وثاب للتخلص منها، أول خطوة يجب علينا اتخاذها لطي سجل هذه الأزمات، يكمن في التركيز على طائفة بعينها، طائفة لا تستطيع أن تقاوم جهدنا هذا أو تتأبى عليه، الطائفة صاحبة الشعور الجم، والإحساس القوي، علينا أن نوليها اهتمامنا، حتى تستطيع أن تعرف وتنكر، وتحذف وتضمر، في شأن الوطنية، حينها فقط تستطيع الناشئة أن تدفع عن نفسها، وتحسن الدفاع، وتتجاوز هذه المعاظلة والالتواء، التي أغرقنا نحن أنفسنا بين ثنياها، فهي منكبة على الأصول التي حذقتها من طفولتها الباكرة، ومتهاتفة على قيمها، وحريصة على أخلاقها، فالهوية والاعتداد بها، ملكة تحصلت عليها بالدرس والتحصيل، لا بالمعاناة والطلب مثل حالنا نحن، والناشئة حتى تنعم بحدة العاطفة، وصدق الشعور، علينا أن نجنبها كل ما تورطنا فيه، من آثرة، وجهل، وعجز ذهننا الكليل عن التفكير الصحيح، و أن ننأى بها عن التماهي الفج مع سلطان القبلية، وتعزيز الهوية الوطنية حتى يبلغ أقصاه عند الجيل الجديد، يجب أن تنهض به قطاعات ومؤسسات متعددة، أولها قطاع المناهج بكليات التربية، ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن المناهج في كنهها هي الأثر الفني البديع الذي يشذب من غرائز الأطفال الساذجة، ويلهم عواطفهم الطليقة، ليأطرها ويدفعها نحو الخير والجمال، والمناهج التي تحرك الذهن، وتأجج العاطفة، -كما نعلم- يجب أن تخضع للتغيير والتجريب، وأن تكون حافلة بالألفاظ الحرة المترفة، والصور والألحان الباذخة، وبالموسيقى والتصوير، وأن نعطي هذه الأداة الشائعة التي تسمى "الحكاية" حقها، فالأطفال يحبونها ويكلفون بها، لأنها تعبث بانفعالاتهم ونفوسهم، ويبقى أثرها منسوجاً على لوحة صدورهم، ومرتسماً على صفحة أذهانهم، والقصص، والحكايات، وغيرها من الوسائل، ينبغي أن تكون وسيلة لا لأن تدفع المهج البريئة إلى الراحة والفتور، ولكن لأن تؤثل فيهم قيم الوطنية، حتى تحفل بها الخواطر، وتتدفق بها القرائح، ويغتني بها الشعور، والمناهج يجب ألا تكون مذاهب مختلفة، حتى لا يفترق الناس حيالها تفرقاً عظيما، ولكن أن تكون شاملة محيطة، تستثير العواطف، وتهيج الإحساس خاصة فيما يتعلق بالكرامة والأعياد الوطنية، فوقع هذه الملاحم والأعياد، يجب أن يظل خالداً في عقل هذه الأجيال وقلبها، هذه المناهج يفترض أن تنتهي بدارسها إلى القوة والخصب، وأن تقود لأن يتحلى طبعه بالرغبة في البر، والنفور من الشر، وألا يُعنى باللفظ الوضيع، أو يحوم حوله، تلك الألفاظ التي تكون ثقيلة على النفس، وممجوجة في الأذن، مثل التعصب، والجمود، والآثرة، والخيانة، والاستبداد، والغرور، والجهوية، وغيرها من الألفاظ التي أقعدتنا عن ملاحقة الركب، ومجاراة التطور،يجب أن تنبو عنها السليقة السليمة، وحتى نجمل القول حول المناهج، نقول أن الغاية التي تسعى إليها المنظومة التعليمية من وراء وضع المناهج، هي أن تبسط اللسان، وتشحذ الخاطر.
والمعلم أيسر سبيل لأن يؤدي مهمته الجليلة على أكمل وجه، علينا أن نجنبه هذه الحياة الغليظة الخشنة التي يعيشها الآن، وأن تخلو حياته من هذا الكد، وهذا الاضطراب، وألا تكون عوالمه كلها تعسة سيئة الحال، فمقام المعلم وقدره أجلّ من أن ينحط إلى هذه المرتبة، علينا أن نبعد معلمي الأجيال عن هذه المنزلة الكريهة، وأن نتعهدهم بالعناية والرعاية، ونصرفهم عن العاديات، لكي يستطيعوا أن يعصموا الأجيال من الإثم، وحتى لا يصيبهم الضعف، أو يدركهم الفتور، في نصرة أوطانهم، وفي الذود عنها، وفي التضحية والموت من أجل أن تبقي هي شامخة أبية، المعلم الذي يقدم ألوان العواطف والشعور لتلاميذه، يجب أن تكون سمات العلم والمعرفة هي السائدة عليه، لذا يجب أن يمضي في وتيرة الصقل والدورات المكثفة حتى نصل به إلى غايتها، وأن تظل نغمة الاستنارة، والمواكبة، ضاخبة، مجلجلة بين خلايا ذهنة المتقد.
دعونا نسأل في دهش، بلغة حانية مستعطفة ولاة أمورنا، حتى متى تبقى مدارسنا على هذه الهيئة الرثة الكئيبة، إن واقع هذه المدارس حتماً يزري من نفسية الطفل المتلقي، ويجعلها ثقيلة سمجة، لا تسعى إلى تحصيل، أو تهفو إلى تفوق، علينا أن نقي رياض الأطفال، والمدارس بكافة مراحلها وتقسيماتها، هذه النكبات المتصلة، وأن نعزز صلتها بالرقي والتطور والسناء، وأن تقترن مبانيها بمعاني المعرفة ورونقها، والمعرفة أكبر الظن أحط وأدنى عند ساستنا، لأجل ذلك لا تلتفت إلى هذه المدارس، إذن لا لوم ولا تثريب على ساستنا الذين يستخفوا بالدور الكبير الذي تقوم به هذه المدارس، ولعل من الثقل والاملال، أن نسهب في تفصيل تغاضيهم عنها على مر العقود والحقب، إن تجافي أرباب الحكم والتشريع عن الموئل الذي يرفد الناشئة بهذه الحياة التي يجب أن تمتزج بنفوسهم، يزري بآمال ومصلحة النوع الإنساني، ويقوض دعائم المجتمع، ويفت في عضد القدرة الشعبية التي شيدتها، فحكوماتنا المشبلة العطوف التي تطيل في الحديث، وتكثر من الثرثرة، وتسرف في الألفاظ الدالة على فضل التعليم، كان أرجى أن تكون أسرع حكومات المنطقة في الأخذ بأسباب التعليم، وأن تمعن في بناء هذه الصروح التي تحتفي بالحياة العقلية للأجيال، ولكنها لم تفعل، أو أنها لا تريد أن تفعل، لأنها تريد أن تحافظ على حياتنا القديمة المتصلة بالجهل وانتشار الأمية اتصالاً وثيقا، وألا نرى لهذا العلم جمالاً مغريا، وحسنا فتانا.
ولعل من الطبيعي أن ينتهي بنا الحديث إلي اللغة العربية التي تعتبر خلاصة كل شيء وجوهره في هذه الديار، شاء من شاء، وأبى من أبى، اللغة العربية التي تضحك من هذه الدعوات الفارغة البلهاء، التي تسهب وتطيل في ضرورة أن تتوقع في دائرة المعتقد والمذهب الديني، ولا تحظى بمثل هذا الانتشار، ونسيت هذه الدعوات أن وحدة السودان واتساقه لم تكن إلا بها، لقد صمم بعض السذج على مناهضة هذا الوعاء المترف، وشرعوا في امضاء هذا العزم، التماساً لرضى الغرب وتقرباً إليه، ولكن هذا التصميم، وهذا العزم، طرحه الزمان، وداس عليه بكلكله، ولم يبقى إلا على عنوانه، فنحن ما زلنا نسمع في اكبار وتثاؤب خفيف، مذيعي الأخبار في سوداننا يتداولون في أجهزة الراديو والتلفاز هذه اللغة في اسراف وجموح، ولم يبدلوها بعد بلغة أجنبية كانت أو محلية، ولعل الشيء الغريب أن أنصار هذه اللغة وخصومها يتحدثون بها، ويتشدقون بألفاظها الرنانة في حوارتهم الضحلة والعميقة، هم خاضعين لسلطانها إذن، ورغم ذلك يلومونها، ويعنفوها، ويستهجنون سطوتها التي لا تقتصر على أدب ودين، فنظامهم السياسي نسجت أحرفه من هذه اللغة العصية على الهدم والاضمحلال أيضا. ومن السخف الذي لا يعادله سخف، أن نعادي هذه اللغة ونسرف في عدائها، لأن موطنها الأصلي هو جزيرة العرب، ولأن أسمال العروبة هنا في سوداننا واسعة الخروق كما يرى البعض، علينا أن ننتحل لغة مغايرة لهذه اللغة، ونتخذها أداة للتخاطب عوضا عنها، ستظل هذه اللغة الشامخة تحتفظ بحقها في الحياة، وستظل هي الرائدة والمهيمنة على رصيفاتها، وسنظل نكبرها ونكبر دينها وأدبها، ولن تنقطع صلاتنا بقوتها وجذالة ألفاظها، ستظل أشجار هذه اللغة السامية مغروسة في ثرى هذه البلاد، ولن تتصدع جذورها، أو تتهاوى فروعها، أو تتقصف أوراقها، مهما تعددت تيارات الريح أو تضاربت، إذن لغة السودان الأولى لا تبتغي التأييد، ولكنها تبتغي أن نجاهد في سبيلها، وأن نحتفظ بطارفها وتليدها في حنايا هذه المهج الغضة البريئة، وألا يتعرض جيدها الأتلع النضير إلى الغواشي وسوء التقدير.
وسوم: العدد 1073