الاستيطان الإسرائيلي
د.مصطفى يوسف اللداوي
(1)
أصدر مجلس الأمن الدولي في مارس/آذار من العام 1979 القرار 488، اعتبر فيه كافة الأعمال الاستيطانية التي تقوم بها الحكومات الإسرائيلية، فوق الأرض الفلسطينية المحتلة بعد يونيو/حزيران 1967، بما فيها الشطر الشرقي من مدينة القدس، بأنها غير قانونية، وأنها تخالف الشرائع الدولية، وتتعارض كلياً مع الفقرة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة.
ورغم هذا القرار الدولي الواضح، فإن "إسرائيل" ماضية في العمليات الاستيطانية، مصادرةً وبناءً وتوسيعاً، في الوقت الذي تتعامل فيه الكثير من دول العالم مع هذه المستوطنات، وتتبادل معها الخدمات، وتقدم لها المساعدات، وتعترف ببلدياتها ومجالسها المحلية، كما توجه الكثير من المدن والبلديات في العالم، الدعوات لرؤساء مجالس المستوطنات لزيارتها، وإبرام الاتفاقيات معها، في الوقت الذي تقبل فيه بالحصار الإسرائيلي للمدن والقرى الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية.
إلا أن الفلسطينيين لا يفرقون بين الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ومن قبل في قطاع غزة، وبين الاستيطان في باقي الأرض العربية الفلسطينية، التي احتلت في العام 1948، والتي تأسس عليها الكيان الصهيوني، إذ أنها بشطريها تمثل أرض فلسطين التاريخية، حيث لا يقبل الفلسطينيون التنازل عن أرضهم المحتلة، مقابل امتناع الحكومات الإسرائيلية عن المصادرة والبناء في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وإذا كان المجتمع الدولي يقر بأن المستوطنات الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، أنها مستوطناتٌ غير قانونية، ولا يجيزها القانون الدولي، فإن الفلسطينيين يعتبرون أن أرضهم كلها محتلة ومغتصبة، وأنها لن تقبل ولن تسكت على الاحتلال الإسرائيلي لأرضها، ولو جاء العرض وقفاً لكل الأعمال الاستيطانية في شطر فلسطين الثاني المحتل عام 1967.
الاستيطان الإسرائيلي
(2)
تعريف الاستيطان ...
تعتبر كلمة الاستيطان احدى مرادفات كلمة الاستعمار، وهي مصطلح جديد نسبياً، إذ ظهر وشاع استخدامه لأول مرة في بدايات القرن العشرين، في ظل تشكل ظاهرة الاستعمار الأوروبي الجديد لدول الشرق الأدنى والأوسط، وبداية تشكيل أنوية مساكن للوافدين من الدول الاستعمارية، للإقامة في المستعمرات الجديدة، الغنية بالموارد الطبيعية، والأيدي العاملة الرخيصة.
والاستيطان كلمة جامعة لأكثر من فعل، فهي تعني المصادرة والاسكان، والتهجير والطرد ، والتوطين والتمكين باستخدام القوة، والمكوث في الأرض بقصد الدوام، إذ لا يكتمل معنى الاستيطان بدون الأفعال المتعدية المذكورة أعلاه، التي قد يصاحبها أعمالُ قتلٍ وإبادة، وتطهيرٌ عرقي، وقتلٌ على الهوية والعرق والدين.
ولهذا فإن لكلمة "الاستيطان" أكثر من معنى ومدلول، ومنها التالي ...
· لغوياً ...
الاستيطان هي اتخاذ الأرض وطناً وسكناً، ووطَّن الإنسان بمعنى أسكنه الأرض، ولا تعني أنها أكسبته الجنسية، وكلمة استوطن تعنى سكن وأقام، وهي من التوطين والتمكين، والتثبيت والترسيخ، وهي كلها تتم بفعل فاعلٍ، وفي ظل وجود عامل، وهي بمعنى السكن والاقامة في أرضٍ ومكانٍ لا تعود ملكيتها إلى الساكن، وإنما هي أمكنة تم الاستيلاء عليها بالقوة، أو تم وضع اليد عليها أثناء البحث عن أماكن مناسبة للصيد والرعي مثلاً، وهي أشبه ما تكون بالسيطرة غصباً.
وعليه فإن الاستيطان تخص الوافد الدخيل، الذي يسكن في أرض وموطن الأصيل، حيث يقوم الوافد الدخيل باستخدام القوة، في الحلول مكان الأصيل، والإقامة بمحل سكنه، أو السيطرة على مكان عمله وعيشه، وتشكيل مكوناته الاجتماعية والاقتصادية فوق الأرض المغتصبة، مع المحيط الذي شاركه عملية الاستيطان، وكان طرفاً فيها.
ويبقى فعل الاستيطان قائماً بالغصب والاستيلاء، ولو كانت الأرض محل الاستيطان مشتراةً، ومدفوعةَ الثمن، إذا تبين أن البيع والشراع تم بالغصب أو الإكراه، أو بقوة السلاح والتهديد به، أو تم بموجب قوانين جائرة، وشرائع ممنوعة، وطرق احتيالٍ وخدعٍ مقصودة.
والاستيطان لا يكون في أرضٍ مملوكةٍ لساكنها، إذ شرط الاستيطان أن يكون فاعله دخيلاً، وأن يكون استيطانه في أرضٍ مغتصبة، لم يكن يملكها، ولا شبة ملكيةٍ له فيها، ولذا فهو لا يكون إلا في الأراضي المحتلة، ولا يقوم به إلا الغزاة المحتلون الغاصبون، وهم غرباء وافدون، وأجانب دخلاء.
والاستيطانُ فعلٌ يلزمه زمن، فلا تكون الإقامة المؤقتة استيطاناً، ولا يسمى المرور بأرضٍ والمبيت فيها استيطاناً، إنما الاستيطان هو ما ارتبط بدوام الزمن، وثبات الإقامة، ورسوخ العمران، ومكوث الانسان، وإنشاء لوازم العيش، وتوفير مستلزمات الحياة، عمارةً وبناءً.
· سياسياً ...
الاستيطان عمليةٌ قديمة مصاحبة وملازمة للاستعمار، بدأت معه، ونشأت وتطورت في ظله، وهي ما كان لها أن تقوى وتشتد لولا سياسة النظم الاحتلالية، التي عملت على تشجيع العمليات الاستيطانية، التي كان من شأنها مساعدتهم في السيطرة على حكم وإدارة سكان البلاد المحتلة.
ولم تكتفِ الأنظمة الاستعمارية بتشجيع العمليات الاستيطانية، بل قامت بسن قوانين تشرعه، وفرضت رساميل تموله، وأفردت لها حاميات عسكرية تحميها وتدافع عنها، وبرز الاستيطان في أكثره أمريكياً واسترالياً، ثم غدا انجليزياً وفرنسياً، قبل أن تتفرد به العصابات الصهيونية وحدها.
غالباً يكون الاستيطان بمعناه السياسي لجماعاتٍ منسجمة مع بعضها، تنقل بالقوة إلى أرضٍ أخرى، تستولي عليها، وتطرد منها ساكنيها وملاكها، ثم تتكيف فيها بطباعها وتقاليدها الأصيلة، وتعتبر الأرض التي تقيم عليها هي موطنها البديل.
· قانونياً ...
الاستيطان قانوناً يعني توطين الغرباء في أرضٍ تعود ملكيتها للآخرين، وهو فعلٌ تقوم به سلطات الاحتلال، عندما تنقل سكاناً من مكانٍ وتوطنهم في آخر، وإن كان هذا يسمى ترحيلاً، إلا أنه ينطبق أكثر على توطين الغرباء، من رعايا دول الاحتلال، في الأراضي المحتلة، وهو فعلٌ ممنوع قانوناً، ومخالفٌ للشرائع الدولية، ومثاله ما تقوم به حكومات الكيان الصهيوني، التي تصادر أراضٍ تعود ملكيتها للعرب الفلسطينيين، وتطردهم منها بأوامر عسكرية، أو بقوانين جبرية، وتوطن مكانهم يهوداً وافدين، أو يهوداً مقيمين، ممن يرغبون في الإقامة في المستوطنات، كما كان مثاله قديماً في الولايات المتحدة الأمريكية حيث استوطن المهاجرون الجدد مكان أصحاب الأرض من الهنود الحمر، وكذا الحال في أستراليا.
يطلق الفلسطينيون على المستوطنات اسم المغتصبات، وهي أكثر ملائمةً للاستيطان المقصود بالمعنيين السياسي والقانوني، إذ أنها جميعها بنيت فوق أراضٍ مصادرة، أُغتصبت من أصحابها بفعل القوة، أو بأثر جبروت السلطان.