لا تثقوا بالولايات المتحدة 11
لا تثقوا بالولايات المتحدة:
(11) مأساة بنما: تغتال الرئيس الشريف
وتعتبر الرئيس المحتال ديمقراطياً!
كيف تتحكم شركة "بكتل" في السياسة الأمريكية ؟
د. حسين سرمك حسن
نبذة عن جمهورية بنما :
-----------------------
تقع جمهورية بنما في أميركا الوسطى، وهي حلقة الوصل بين أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية. عاصمتها بنما سيتي. يحدها «البحر الكاريبي» شمالاً، و «كوستاريكا» غرباً، و «المحيط الهادىء» جنوباً، و «كولومبيا» شرقاً. مساحتها: 75,517 كلم2. عدد سكانها: 2,735,943. أصبحت باناما، بين 1739م و1819م جزءاً من مستعمرة غرينادا الجديدة الإسبانية K وعندما نالت المستعمرات الإسبانية في أمريكا اللاتينية إستقلالها، نالت باناما استقلالها في 28 تشرين الثاني عام 1821م وانضمت إلى كولومبيا.
كيف استولت الولايات المتحدة على بنما :
---------------------------------------
كانت بنما جزءاً من كولومبيا عندما قرر المهندس الفرنسي "فرديناند دي لسبس" - الذي اشرف على حفر قناة السويس - حفر قناة عبر برزخ امريكا الوسطى ليربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادي . من 1881 إلى 1889 قام الفرنسيون بجهد خارق تعرّضوا خلاله لكوارث كثيرة ، طبيعية (انتشار الأوبئة والأمراض) وهندسيّة (خطأ في الحسابات) ، ومالية ، ولكنهم لم يستطيعوا أكمال العمل حتى النهاية ، فقاموا بـ "بيع !!" حقوق ملكية القناة إلى الولايات المتحدة التي كانت أعينها تترقب الحدث بحذر شديد وتنتظر اللحظات المناسبة لاقتناص الفرصة، فاشترت حقوق الملكية من الشركة الفرنسية ، وبدأت بالتخطيط لانفصال بنما عن دولة كولومبيا التي عرضت عليها في أثناء الأعوام الأولى من القرن العشرين التوقيع على معاهدة تحويل البرزخ لاشراف اتحاد شركات "أمريكا الشمالية" ، لكن كولومبيا رفضت. وقد تحقّق للولايات المتحدة المراد عبر مؤامرة حرّضت فيها العديد من السياسيين البنميين وإغرتهم بالأموال والمناصب في الدولة الجديدة، التي ظهرت معالمها في الخامس من نوفمبر 1903.
كانت الولايات المتحدة قد دفعت لرجالها المنشقين 100 ألف دولار للشخص الواحد وعمدت إلى تزويدهم بوثيقة جاهزة للاستقلال وعَلَما مشابها للعلم الأمريكي ، ودفعت بقواتها العسكرية لحماية الدولة الجديدة ، ومنعت تقدّم الجيش الكولومبي، الذي لم يكن يرغب في الانفصال، قبل أن تضغط بثقلها حتى جاء اعتراف الدول العظمى (الولايات المتحدة، فرنسا وبريطانيا) بالدولة الجديدة بنما، التي سارعت الولايات المتحدة إلى توقيع اتفاقية معها لاستغلال القناة ومنحها السيطرة المطلقة عليها وعلى الأراضي المحيطة بها لمدة 100 عام المقبلة،
في عام 1903 أرسل روزفلت أسطوله البحري حيث هبط الجنود ، وقتلوا الميليشيا المحلية ، وأعلنوا بنما دولة مستقلة ، ونصّبوا حكومة عميلة من الأقلية البيضاء ، وتم التوقيع على معاهدة القناة الأولى التي منحت الولايات المتحدة الشرعية للتواجد العسكري على جانبي القناة ، وحق التدخل العسكري ، والسيطرة على تلك الدولة الحديثة التي يُزعم أنها مستقلة .
احتقار الشعب البنمي :
----------------------
والمفارقة أنّ من وقّع على تلك الاتفاقية هما وزير الخارجية الأمريكي والمهندس الفرنسي "فيليب بونو فاريللا" الذي كان عضو فريق العمل الذي شقّ القناة ، ولم يوقّعها بنمي واحد ، فتصوّر الإستخفاف بإرادة الشعوب واحتقار الشعب البنمي .
خمسين عاماً من البؤس في ظل السيطرة الأمريكية :
---------------------------------------------------
ظلّت بنما - لأكثر من نصف قرن - تحكمها حكومة أقلية ثريّة تخدم واشنطن ، وتساعد شركة بترول استاندرد أويل للبترول التي يملكها روكفلر آنذاك، وشركة الفواكه المتحدة (يونايتد فروت) (التي باعها جورج بوش الأب) والتي تحكمت بحكومات أمريكا اللاتينية طوال القرن العشرين . كان الشعب في فقر ويعمل أغلب أفراده أمّا كعبيد أو كبغايا . وبين اعلان الاستقلال كدولة مستقلة وعام 1968 تدخلت القوات الامريكية عشرات المرّات في الشؤون الداخلية البنميّة .
كان وضع الشعب البنمي يتدهور بصورة مستمرة مع نمو ثروات الشركات الأمريكية خصوصا شركة "بكتل" مالكة القناة . كانت نسبة البطالة بين الشعب 30% ، ودَخْل المواطن في مركز العاصمة أقل من ألف دولار سنوياً !! ، فكيف الحال بالمواطنين الذين يعيشون في أطرافها ؟!
كان الأمريكان يملكون كل شيء في بنما حتى محلات الحلاقة والمطاعم وصالونات التجميل .. ولهذا كان البنميون يسمّونهم "دولة داخل دولة" .
الشعب يتحرّك :
----------------
بدأ التواجد الأمريكي الكثيف في بنما وتحكمها المطلق في كل شيء نتيجة قوانينها العنصرية ضد الشعب يثير حنق الشعب البنمي، الذي بدأ حالة من العصيان في التاسع من يناير 1964، تلتْها مظاهرات واحتجاجات بدأها الطلبة البنميون ضد التواجد العسكري الأمريكي ، وتم بموجبها اختراق السياج الأمني المضروب حول منطقة القناة والأراضي المحيطة بها، وتسارعت وتيرة المواجهات حتى سقط قرابة (20) شهيدا ومئات الجرحى ، وأخذت البلاد تمور بالغضب والثورة حتى وقع الانقلاب العسكري على التواجد الأمريكي عام 1969 ، حيث أطاح برئيس العائلات العميلة ، وهو الأخير في سلسلة متعاقبة من الدكتاتوريين ، وتولّى الجنرال "عمر توريخوس" السلطة في بنما على الرغم من أنّه لم يشارك في الإنقلاب بنفسه بصورة مباشرة .
نهج عمر توريخوس الوطني يغيض الولايات المتحدة :
----------------------------------------------------
كان عمر توريخوس إنساناً بسيطاً مُحباً للفقراء من ابناء شعبه ، فقد نشأ في بيئة ريفية . كان يتجوّل ماشياً في الأحياء الفقيرة ، ويتبرع بأموال قليلة مما يملكه للعائلات المنكوبة بالأمراض والمآسي .
لم يسمّ توريخوس رسميا برئيس الجمهورية، لكنه بدلا من ذلك أطلق على نفسه ألقابا منها "القائد الأعلى لثورة بنما" و"الرئيس الأعلى للحكومة".
وحين تسلم الحكم بدأ بحركة للاصلاح الاجتماعي والإقتصادي حققت نتائج باهرة . جعل بنما ملاذاً لكل المطاردين حتى من كانوا ضد حلفائه مثل كوبا . تدخّل كثيرا للاصلاح بين دول امريكا اللاتينية لإنهاء خلافاتها . لم يستسلم لاغراءات موسكو وبكين للدخول في تحالفات معهما . كان منهجه الأساسي - كما أعلنه هو - التحرّر من الولايات المتحدة دون التحالف مع أعدائها . توريخوس وقف ضد الولايات المتحدة ، لكن - ولأول مرة في أمريكا اللاتينية - لم يكن شيوعياً .
قبل توريخوس سيطرت الصفوة الأوروبية على مقادير بنما ، على الرغم من أنها أقل من 10% من السكان . لكن ذلك تغيّر في عهده حيث سمح للسود والمستيزو (الأجناس المخلّطة) والفقراء بالإشتراك ولو بنصيب متواضع في حكمه .
خبراء البنك الدولي يفشلون .. خبراء الإغتيال يتحضّرون :
--------------------------------------------------------
بدأ "خبراء البنك الدولي / التكنوقراط" بالمجىء إلى بنما يعرضون على توريخوس قروضاً بالمليارات "من أجل تطوير بنما " و"تحقيق معجزة اقتصادية فيها" ، ولكن توريخوس كان يدرك أن هذه خديعة لتكبيل بنما بالديون ، وتسليم عنقها ومستقبلها للولايات المتحدة . أي الآن خطوة التآمر الأولى في المخطط الثلاثي (راجع الحلقة السابقة العاشرة) فشلت . يأتي الآن دور ثعالب وكالة المخابرات االأمريكية كما يسمّونهم عادة . ليدبّروا عمليّة اغتياله .
ورغم أن توريخوس كان يوصف بأنه "دكتاتور يساري !" ، إلّا أنه لم يكن بهذا المعني الصريح ، فهو لم يعلن نفسه زعيما أو امتدادا لخطوات مثل خطوات جيفارا أو كاسترو أو سالفادور الليندي , وهم نماذج يسارية في أمريكا اللاتينية وقفت ضد هيمنة الولايات المتحدة ، بل كان هدفه هو استقلال بلاده من الهيمنة الأمريكية وفرض سيطرة الدولة كاملة على قناة بنما دون إثارة نعرات أو شعارات معادية للولايات المتحدة ، وكان يري أيضاً انه من الأفضل التعامل مع الولايات المتحدة والاستفادة منها دون معاداتها خاصة وأنّه يهمه مصلحة شعب بلاده الفقيرة والتي يجب أن تستفيد من عائدات قناتها ، ولذلك لقي دعم الولايات المتحدة في البداية لكونه معارضا للشيوعية. ولهذا أيضاً وقّعت معه المعاهدة التي أعطت بنما السيادة الكاملة على قناة بنما عام 1979. وجاءت المعاهدة في إطار مجاراة الولايات المتحدة لأهداف توريخوس ، وسعيها في نفس الوقت إلى إعادة سيطرتها علي قناة بنما . وكانت المشكلة تكمن في أن توريخوس - من وجهة النظر الأمريكية - لم يكن فاسداً ، ولم يكن قابلاً للإفساد ، وبالتالي فهو ليس نموذجا للنظام الأمريكي المُفترض والذي يقوم على أساس أنّ من يحتلون المناصب العليا في الدول التي تحيى تحت هيمنتها فاسدون بشكل أو بآخر. حين يأتي شخص ما ويهدم هذه القاعدة فإنه يمثل تهديداً للنظام في باقي الدول الأخرى (تفّاحة فاسدة كما تسمّيها) ، ونموذجاً لكيفية رفض الهيمنة الأمريكية يمكن أن يحتذيه آخرون ، وبالتالي تم تفجير طائرة عمر توريخوس عام 1981 بأيدي (أبناء آوي – جاكالز)، وهو تعبير أمريكي عن رجال الاغتيالات التابعين للـ "سي.أي.ايه".
ما الذي جعل الولايات المتحدة تغتال الرئيس توريخوس ؟
-------------------------------------------------------
اغتيل الرئيس عمر توريخوس عندما انفجرت به طائرته وهي في الجو في عام 1981 ، وكان ذلك بتدبير من وكالة المخابرات الأمريكية ، وذلك لأسباب عديدة في مقدّمتها سببان رئيسيان بالإضافة إلى الأسباب السابقة :
أوّلاً : الإصرار على استعادة قناة بنما إلى السيادة الوطنية :
أعلن عمر توريخوس في أكثر من مناسبة عن عزمه على استعادة القناة إلى السيادة الوطنية . وهدّد بأنه قد يزرع القناة بالألغام في بعض المواضع التي يحتاج تنظيفها إلى سنتين . دخل في مفاوضات شاقة مع الإدارة الأمريكية تكللت – كما قلنا - باتفاقية جديدة تنص على إعادة القناة إلى بنما في بداية عام 1990 . وقد مثّل هذا انتصارا عظيما لتوريخوس ولشعب بنما .
لكن هناك ما هو أكثر استفزازاً للولايات المتحدة في هذا المجال !
ما هو ؟
كان توريخوس يريد لا استعادة القناة فقط ، بل تشييد قناة جديدة لتستوعب سفناً أكثر ومنع التكدس الذي يضر بأكبر مستخدمي القناة وهي اليابان . بدأ بمحاولات للتفاهم مع اليابانيين للقيام بهذا المشروع ، وهذا كقيل بأن يثير جنون الوحش الأمريكي الذي اضمر له الإنتقام لمنع هذه التفاحة الفاسدة من إفساد باقي التفاحات في السلّة .
ثانياً : إلغاء مدرسة الأمريكيتين الحربيّة :
من الظواهر المُلفتة للنظر في تأريخ أمريكا الجنوبية الحديث هو كثرة الإنقلابات العسكرية الموالية للولايات المتحدة ضد الحكومات اليسارية بمجرد تفكيرها في الخروج عن هيمنة الولايات اتلمتحدة وبدءها استعادة ثروات الشعب . حتى بدأ التندّر بأن هذه القارة تشهد انقلاباً عسكرياً بين انقلاب عسكري وآخر . فما هو السبب ؟
إن السبّب الرئيسي هو خطة الولايات المتحدة الجهنمية في تحويل جيوش أمريكا اللاتينية من جيوش للدفاع عن الحدود إلى جيوش لإداء مهمات الأمن الداخلي والقمع .
لقد حوّلت إدارة كنيدي مهمة العسكريين في أميركا اللاتينية من مجال "الدفاع الوطني" إلى مجال "الأمن الداخلي" ، فكان لهذا القرار نتائج مصيرية ، ابتداءً من الانقلاب العسكري الوحشي والإجرامي في البرازيل . كانت واشنطن تنظر إلى العسكريين على أنهم "جزيرة تعقّل" في البرازيل .
بعد عامين من قرار الرئيس الأمريكي كنيدي ، أبلغ وزير الدفاع "روبرت ماكنمارا" العاملين معه بأن : (سياسات الولايات المتحدة تجاه العسكريين في أمريكا اللاتينية كانت فعّالة في مجملها في تحقيق الاهداف المحدّدة لها حيث حسّنت قدرات الأمن الداخلي ، وأوجدت نفوذاً عسكرياً أمريكيا طاغيا ، وأصبح العسكريون في أمريكا اللاتينبة يفهمون مهماتهم ولديهم التجهيزات للقيام بها بفضل برامج كنيدي الخاصة بالمساعدات العسكرية والتدريب. وتشمل مهمات الجيوش الآن الإطاحة بالحكومات المدنية حالما يشعر العسكريون بأن تصرف الزعماء أصبح يضر برفاه الأمة) .
فكيف استطاعت الولايات المتحدة تحقيق هذا الهدف واين ؟
استطاعت الولايات المتحدة تحقيق ذلك عبر مناهج تدريبية خاصّة وبرامج تسليح مركّزة كانت تجري في مؤسسة عسكرية اسمها (مدرسة الأمريكيتين الحربيّة في بنما) . كانت مدرسة الأمريكيتين تدعو ديكتاتوريي أمريكا اللاتينية ورؤساءها ليرسلوا ابناءهم وقوّادهم العسكريين إلى هذه المؤسسة وهي الأفضل والأكبر خارج أمريكا الشمالية . هناك يتعلمون مهارات التحقيق والعمليات الحربية السرّية وحماية الشركات المتعددة الجنسيات وشركات البترول . كانت هذه المدرسة مثار كراهية شعوب أمريكا اللاتينية فيما عدا القلة الثرية التي تنتفع منها . كان معروفا أن المسؤولين عليها يدرّبون "فرق الموت" المتطرّفة والجلّادين الذين حوّلوا بلاداً كثيرة الى أنظمة دكتاتورية . وكانت المدرسة تدرّب الجنود اللاتينيين على قمع التمرد والعصيان والتحقيق والتعذيب والتجسس والاغتيال ، وقد شمل خريجوها أسوأ الجنرالات والدكتاتوريين سمعة في أمريكا اللاتينية. وقد عرف توريخوس بأهداف هذه المدرسة التدميرية لأنّه كان – ومعاونه لاحقاً "مانويل نوريجا" – من خرّيجيها .
أعلنها توريخوس واضحة : إنّه لا يريد إقامة مراكز تدريب في بنما ، وأمر بنقل المدرسة هذه من بلاده .
إلى أين نُقلت هذه المدرسة ؟ :
------------------------------
نُقلت هذه المدرسة إلى ولاية جورجيا (نورث بيينغ) بالولايات المتحدة ، واستمرت بتدريب الضباط ورجال الشرطة في بلدان أمريكا اللاتينية المتحالفة مع الولايات المتحدة ، وتهدف هذه المدرسة – كما قلنا - إلى تدريب الضباط ورجال الشرطة على استخدام وسائل القمع . وقد اعترفت وزارة الدفاع الامريكية بأن الكتب الدراسية المقرّرة في هذه المدرسة مازالت حتى بين عامي 1982 – 1991 توصي باستخدام التعذيب والإعدامات بدون محاكمة ، واستخدام كل أساليب العنف بغية الحصول على معلومات من المعارضين وأعضاء الميلشيات السياسية أو العاملين في صفوف حرب الغوار . ووفقا للسلطات العسكرية فقد أجري تعديل منذ عام 1992 وبشكل سرّي . وكان على الرأي العام الأمريكي أن ينتظر حتى عام 1996 ليعرف حقيقة المناهج وحقيقة هذه المدرسة ، وذلك بعد تحقيق أجراه الكونغرس عن دور المخابرات المركزية الأمريكية في تدمير غواتيمالا (كما سنرى في حلقة مقبلة عن غواتيمالا) . وقد قامت هذه المدرسة منذ تأسيسها عام 1946 بتريب 46 ألف طالب من 12 بلدا ، وبلغت أوج مجدها في الستينات حيث كانت الولايات المتحدة منغمسة بعمق في دعم الأنظمة الموالية لها في أمريكا اللاتينية وتصفية الأنظمة الديمقراطية واليسارية . وقد أصبح عدد من هؤلاء الضباط بعد أن أصبحوا جلّادين مشهورين ، رؤساء دول ، وقد شكّلوا طبقتهم الخاصة . منهجها يتكون من سبعة كتب بالإسبانية وفصولها تتحدث عن التعذيب ونزع الاعترافات واحتجاز والدي وأقارب المقاوم والتهديد بالسجن والإعدام والتظاهر بتنفيذ الإعدام وغيرها . تم تغيير اسم هذه المدرسة إلى "المعهد العالمي الغربي للتعاون الأمني" لامتصاص النقمة . وارتباطا بحلقتنا السابقة (العاشرة) عن فنزويلا فإن هذه المدرسة وحسب اعترافات أحد ضباطها قد درّبت جيشا من مقاتلي الأدغال ويتكلمون الإسبانية لغزو فنزويلا (المشهورة بأدغالها والناطقة بالإسبانية) في السبعينات .
كان توريخوس يعلم خطورة الشوط الذي قطعه في مواجهة الوحش الأمريكي ولهذا كان يكرّر على سامعيه : "على رجال الوكالة أن يغتالوني بأنفسهم" .
بعد اغتيال توريخوس، الولايات المتحدة تعلن نوريجا كرمز للديمقراطية !:
-----------------------------------------------------------------------
بعد اغتيال توريخوس سيطر الجنرال "نوريجا" على الحكم في عام 1983 ، على الرغم من استمرارا "الإنتخابات" الرئاسية في اللعبة الديمقراطية المزيّفة.
هذا الجنرال "نوريجا" كان مُسجّلاً في قوائم المتعاونين مع وكالة الإستخبارات الأمريكية كعميل لهم ، كان فاسداً ويسمّيه الشعب البنمي "المحتال" كما يقول "نعوم تشومسكي" . لكن هذا النمط من الحكّام هو الذي اعتبرته الولايات المتحدة النموذج الأعلى للديمقراطية في أمريكا الجنوبية . شيء لا يُصدّق ! أليس كذلك ؟ إذن تابعوا السفالة التي تتصرف بها الإدارة الأمريكية :
تعلم حكومة الولايات المتحدة أن "نوريجا" متورّط في تجارة المخدرات منذ عام 1972 إن لم يكن من قبل ذلك ، وقد فكرت إدارة نيكسون في اغتياله ، ولكنه ظل في كشوف مرتبات المخابرات الأمريكية . وفي عام 1983 استخلص تقرير إحدى لجان الكونغرس أن بنما مركز لتجارة المخدرات وغسيل أموالها .
استمرت حكومة الولايات المتحدة في تقدير خدمات نوريجا . وفي مايو عام 1986 أشاد مدير وكالة مكافحة المخدرات بسياسة نوريغا الشديدة في محاربة المخدرات !!. وبعد ذلك بسنة أشاد نفس المدير بتعاوننا الوثيق مع "نوريجا" ، بينما أوقف المدّعى العام "إدوين ميسه" تحقيقات وزارة العدل عن نشاطات "نوريجا" الإجرامية . وفي أغسطس عام 1987 عارض "إليوت ابرامز" أحد مسئولي الخارجية الأمريكية (المسئولين عن أمريكا الوسطى وبنما) قرارا للكونجرس يدين نوريجا. هل تصدّقون ذلك أيها السادة القرّاء ؟؟
وبعد ذلك كلّه عندما وُجهت الاتهامات لنوريجا عام 1988 ، رجعت الإتهامات كلّها عدا واحدا منها – إلى فترة ما قبل عام 1984 ، أي إلى الفترة عندما كان رجلنا يخدم مصالحنا بكفاءة واجتهاد كما يقول "تشومسكي" .
القصة معروفة ومتوقعة ومكررة ؛ يتحول الحاكم من الصديق اللطيف الذي يُعتمد عليه – فيستحق التأييد ، ويُكال له المديح والثناء – إلى الطاغية الفاسد المستبد فور ان يبدأ بارتكاب جريمة الاستقلال واتخاذ القرارات بنفسه . الخطيئة الشائعة هي تجاوز سرقة فقراء شعبه – الأمر المقبول في حد ذاته لدينا – إلى البدء في التدخل في ما لا يعنيه من أمور الصفوة ومصالح رجال الأعمال والشركات الكبرى (الأمريكية بالطبع) .
لماذا أسقطت واشنطن الجنرال نوريجا رمز الديمقراطية :
-----------------------------------------------------
مجموعة من الأمور جعلت واشنطن تقرّر إسقاط نوريجا . منها أنه رفض أيضاً عودة مدرسة الأمريكيتين الإرهابية إلى بنما ؛ المدرسة التي أخرجها توريخوس من البلاد . كذلك فإنه – من بين تهمٍ أخرى – تردّد في مساعدة منظمة "الكونترا" التي تدعمها الولايات المتحدة لإسقاط النظام اليساري في نيكاراغوا (راجع الحلقة السادسة). وبالطبع فإن استقلال نوريجا يهدّد مصالح الولايات المتحدة في قناة بنما . بدءا من 1 يناير عام 1990 تسترد بنما معظم قناتها ، وتعود إليها القناة كاملة بحلول عام 2000 ، لذا وجب على واشنطن التأكد من أن بنما كلّها ستصبح في أيديها قبل أن تعود إليها قناتها .
ولكن بما أنها لم تعد تثق في نوريجا فيجب أن يذهب ، تبدأ القصة المكرّرة بأن تفرض الولايات حظرا اقتصاديا لتدمير الاقتصاد البنمي ، وبالطبع يقع العبء الأكبر على الفقراء – ومن ثم يُكرِه البنميون نوريجا (ولديهم أسباب كثيرة أخرى) وسيتمنون هم أيضا ذهابه .
أشياء لا تصدّق عن دعم الولايات المتحدة لنوريجا الديمقراطي
إعلام الوايات المتحدة الحرّ يساند رجل الديمقراطية نوريجا !! :
------------------------------------------------------------
يقول تشومسكي :
(اتبع الإعلام الامريكي خط الحكومة طوال العملية واختار الأبطال والأشرار بدقة . وما كنا نصفح عنه صرنا نعتبره جريمة . فعلى سبيل المثال ، فاز بانتخابات الرئاسة في بنما عام 1984 "أرنولف أرياس" ، ولكن نوريجا تدخل وزوّر وسرق الانتخابات لمرشّح آخر عن طريق العنف والنصب .
في ذلك الوقت كان نوريجا رجلنا المطيع في بنما بينما كان أرياس يحمل في فكره وفكر حزبه جراثيم الوطنية الزائدة كما تقول الصحف الأمريكية.
إذن كان لابد على إدارة ريجان أن تصفّق لانتصار نوريجا وترسل وزير الخارجية "جورج شولتز" بتهنئة خاصة للديمقراطية الجديدة الخاصة في بنما.
لقد ترفّع الاعلام الأمريكي عن الخوض في نقد انتخابات بنما .
الإعلام الأمريكي الحرّ ينقلب على نوريجا بعد تأييده :
----------------------------------------------------
وفي عام 1989 سرق نوريجا انتخابات أخرى بعنفٍ أقل ، لكنّه أثار غضب واشنطن وآلتها الإعلامية . لقد ارتكب نوريجا خطيئة الاستقلال عن تبعية واشنطن كما قلنا ، وأظهر تخاذلا في عدم تقديم الدعم لسادته في واشنطن الذين كانوا يقومون بحرب إرهابية ضد نيكاراغوا ويحتاجون فيها إلى مساعدته . فورا صار نوريجا في الصحف الأمريكية :
- "من أعضاء الجمعية الدولية للزعماء السذج الذين يكرههم الأمريكيون"
- "واحدا من أكثر المخلوقات التي عرفناها كراهية"
- "رأس قائمة حثالة تجار المخدرات في العالم"
أغرب رسالة تهنئة في التاريخ :
-------------------------------
كانت الانتخابات عام 1984 بمثابة النموذج الثابث الذي تم فيه استخدام أشكال مختلفة من الاحتيال والعنف لصالح السفاح نوريجا ، وكان وقتها صديقا لواشنطن ولهذا باركت جهوده "الديمقراطية" . قدّمت ادارة ريجان التهنئة لذلك السفاح بعد أن كانت قد موّلت حملته للفوز ، وكانت رسالة التهنئة قد وصلته قبل سبع ساعات من التصديق على نتيجة (انتخابه) !!!
كما سافر وزير الخارجية "جورج شولتز" بنفسه ليشرعن عملية الإحتيال وليقدم الثناء لـ "عملية الديمقراطية الرائدة" – كما وصفها - التي وقفت بالمرصاد للساندنستيين ، لتضاهي معايير بنما الراقية في العملية الديمقراطية . هكذا حالت الولايات المتحدة بدعمها نوريجا دون فوز "أرنولفو أرياس" الذي اعتبرته وزارة الخارجية "قوميا متعصبا غير مرغوب فيه " ، بينما كان نوريجا – وهو تلميذ سابق لجورج شولتز – "حسن السلوك" حتى لو عُرف في بلده بنما باسم "المحتال" كما يقول تشومسكي.
لكن لماذا كان جورج شولتز فرحا بالسفاح نوريجا ؟ :
----------------------------------------------------
كيف يسافر وزير حارجية الولايات المتحدة بجلالة قدره ، ليهنّىء سفّاحا هو نوريجا على التزوير ويعتبره رائداً للديمقراطية ، وهو يعلم بأنه عميل لمخابراتهم ويتاجر بالمخدرات ؟
يجب علينا الإشارة إلى ظاهرة مخيفة في الحياة السياسية الأمريكية – سنقف عندها في حلقات مقبلة – وتتمثل في خضوع السياسة للإقتصاد وتحديداً لنشاط الشركات الأمريكية الكبرى .
لنأخذ أمثلة محدّدة :
من مدير شركة فورد للسيارات إلى وزير دفاع ثم مديرا للبنك الدولي !!!! :
--------------------------------------------------------------------
وزير الدفاع الأمريكي "روبرت مكنمارا" صعد مثل الشهاب من مجرد مدير تخطيط الى محلل مالي في شركة فورد للسيارات عام 1949 ، ثم الى منصب رئيس الشركة شخصيا عام 1960 ، وهو أول رئيس للشركة يختارونه من خارج عائلة فورد ، ليصبح بعد وقت قصير وزيرا لدفاع كنيدي . ثم رئيسا للبنك الدولي . وقَبِل الوظيفة بسرعة بعد ترك منصب وزير الدفاع ويرمز إلى ارتباط الجيش بالصناعة ، فاحتال على البنك الدولي وجعله وسيلة الامبراطورية العالمية الأكثر شرا في التاريخ . وأرسى الأساس للتنقل بين السلطات المختلفة في مجموعة (الكوربوقراطية - Corporatocracy) .
الآن أرجو أن يركّز معي السادة القراء على هذه المعلومات العجيبة فهي المفتاح لفهم السبب الذي جعل الولايات المتحدة تطيح بعميلها في بنما ، وتغتال الرئيس توريخوس قبله ، مثلما تظهر السبب الحقيقي للبرقية المستعجلة ولسفر شولتز المستعجل :
المال يتحكّم في السياسة :
-------------------------
"جورج شولتز" كان وزيراً للحزانة ورئيس مجلس السياسة الاقتصادية في عهد نيكسون ، ثم عمل رئيسا لشركة "بكتل" – لا تنسوا أن شركة بكتل مالكة قناة بنما - ثم صار وزير خارجية في ادارة ريغان . "كاسبر واينبرجر" نائب رئيس شركة "بكتل" والمجلس العام ثم وزيرا للدفاع في عهد ريغان . ريتشارد هيلمز قائد وكالة المخابرات في عهد جونسون ثم سفيرا للولايات المتحدة في ايران في عهد نيكسون عمل مستساراً فيها . أما "ريشارد تشيني" وزير دفاع عهد بوش الأب ، ثم رئيساً لشركة هالبيرتون ، ثم نائباً للرئيس في عهد جورج بوش الإبن ، بدأ حياته مؤسساً لمجموعة شركات زاباتا للبترول (هل تتذكرون من هو مالك شركات زاباتا ؟) ، وعُيّن سفيرا للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في عهد نيكسون وفورد ، وكذلك رئيسا لوكالة المخابرات في عهد فورد .
شركة الفواكه المتحدة التي تتحكم بالحكومات في أمريكا اللاتينية تملكها شركة زاباتا للبترول ، وجورج بوش ، وهم من مالكي شركة "بكتل" المالكة للقناة (ها رجعنا إلى "بكتل" ) .
الآن تحضّروا للصدمة الكبرى :
بعد احتلال العراق قام الرئيس جورج بوش الكحولي بمنح امتيازات إعادة إعمار العراق إلى شركة أمريكية ....
فأي شركة تعتقدون ؟؟؟؟
إنّها شركة "بكتل" !!!!
دعم أمريكي آخر شهير للديمقراطي نوريجا :
------------------------------------------
ومن الاحداث التي حذفتها واشنطن من سجلها التاريخي قرار 30 مارس 1980 لمجموعة الثماني (الدول الديمقراطية في أمريكا اللاتينية) والذي تم من خلاله طرد بنما ، وهو قرار قامت واشنطن بتعليقه خلال حكم نوريجا بذريعة أن (عملية التشريع الديمقراطي في بنما تتطلب رأي الشعب دون تدخل قوة أجنبية بما يضمن حرية كاملة للشعب لاختيار حكومته) ، وهو بالطبع تخريج انتهازي لأنه أمر مستحيل في ظل نظام صوري وضعته واشنطن.
كرّر نوريجا احتياله في انتخابات عام 1989 ، وفي هذه المرة سرق الإنتخابات من "جاميليو اندارا" ممثل رجال الأعمال . مارس نوريجا عنفا أقل ، ولكن إدارة ريجان أعطت إشارة التحوّل ، فانفجر بركان الإعلام على تجاوزات نوريجا ضد الديمقراطية .
ثم ارتفعت نغمة انتهاك حقوق الإنسان . وعندما غزت الولايات المتحدة بنما في ديسمبر 1989 كان الإعلام قد طبع صورة نوريجا الشيطان في رؤوس الشعب .
نشرت منظمة "أمريكا تراقب – America Watch" في عام 1988 تقريرا عن انتهاكات نوريجا لحقوق الانسان ، اوضح ان تلك الفترة أفضل من قبلها عندما كان نوريجا رجلنا بل افضل من انتهاكات أشد يقوم بها آخرون من رجالنا في المنطقة مثل تروجيليو ديكتاتور الدومنيكان ، وسوموزا نيكاراغوا ، وماركوس الفلبين ، ودوفالييه هاييتي وأخرين من طائفة الرؤساء المجرمين في ثمانينات امريكا الوسطى . كانوا كلهم أكثر وحشية من نوريجا ولكن ساندتهم واشنطن بثقل وحماسة طوال عهودهم المليئة بالفظائع والإرهاب ، مادامت الأرباح تتدفق من بلادهم إلى الولايات المتحدة) كما يقول تشومسكي.
الزعيق بحقوق الإنسان وسحقها في نفس الوقت !!:
------------------------------------------------
في اللحظة نفسها التي غزت فيها الولايات المتحدة بنما ، أعلنت ادارة بوش عن صفقة تكنولوجيا عالية للصين ، وتحت ضغط رجال الأعمال ، وكان ذلك بعد مذبحة ميدان "تيانانمن" الشهيرة في بكين .
كذلك - في نفس يوم غزو بنما - أعلن البيت الأبيض (ونفّذ بعد ذلك) رفع الحظر عن العراق ، وبررت الخارجية ذلك بوقاحة ان الهدف من وراء زيادة صادراتنا هو تأهيلنا لوضع يسمح لنا بطريقة أفضل أن تجعل العراق يحترم حقوق الإنسان .
استمرت الادارة الأمريكية في مساندة "صدام حسين " ضد معارضيه ، وأجهضت مجهودات الكونجرس لإدانة جرائمه الفظيعة . مقارنة فظائع نوريجا بفظائع بغداد وبكين تجعله يبدو كالأم تريزا كما يقول روجيه غارودي.
هل كانت التسجيلات الشاذة لبوش الإبن سبباً في تدمير بنما والإطاحة بنوريجا ؟
------------------------------------------------------------------
يقول "جون بيركنس" صاحب كتاب "اعترافات سفاح اقتصادي مأجور" إن المستشار الأعلى للرئيس البرازيلي "لولا دا سيلفا" قال له في عام 2005 :
(كان نوريجا يضع كاميرات في جزيرة "كونتادورا" ، وهي منتجع سيّء الصيت على الشاطىء البنمي يُستخدم كملاذ حيث رجال الأعمال في الولايات المتحدة يستضيفون السياسيين ليمارسوا كل رذيلة بالإمكان تخيّلها . وانتشرت إشاعات إنّ من وقع في شرك هذه الكاميرات هو "جورج دبليو بوش" حيث صُوّر وهو يتعاطى الكوكايين ويمارس شذوذا جنسيا خلال رئاسة والده ، وأن نورييجا استعمل صورا تجرّم بوش الإبن وأصدقاء مقربين له ، لكي يقنع الرئيس بوش الأب ليقف إلى جانب الحكومة البنمية في قضايا مفتاحية) .
شنّت الولايات المتحدة هجوماً ساحقاً لا يُصدّق على بنما وكان بإمكانها احتلالها والقبض على نوريجا ببساطة دون تدميرها .
البناء الذي احتوى على ملفات نوريجا السرية دُمر بالقنابل وتحوّل إلى رماد ، واحترق حتى الموت 2000 إنسان من المدنيين الأبرياء في المناطق المدنية المحيطة بالمقر !!
وتقدير الكنيسة أن هناك (650) ضحية في منظقة تشوريللو الفقيرة في العاصمة ماتوا في المستشفيات .
هل قضى الهجوم الأمريكي على تجارة المخدرات التي اتهمت واشنطن نوريجا برعايتها ؟
------------------------------------------------------------------
لقد زادت تجارة المخدرات بعد العدوان وفي ظل الأمريكان إلى 400% !!! ويقول السكرتير التنفيذي لمركز دراسات أمريكا اللاتينية إن الوحدات الأمريكة المناط بها مكافحة المخدرات تمثل سوقاً غنية للمخدرات مما يساهم في زيادة الأزمة .
أعادت الولايات المتحدة القوة لرجال البنوك واستأنفوا أعمالهم في غسيل أموال المخدرات، حتى أن نشاط نوريجا السابق في تجارة المخدرات يعد تافها بالنسبة لما وصل إليه الحال .
أشارت منظمة الدول الأمريكية واللجنة الأمريكية لحقوق الانسان إلى مسؤولية الولايات المتحدة عن آلاف القتلى والجرحى ، وعن كلفة التدمير التي بلغت بليون دولار . تقوم قوات الاحتلال والجيش الأمريكي بتصفية الصحفيين والتعدي على المواطنين . تزايد الفقر . تدهور مستوى الدخل الفردي إلى أقل مما كان عليه عام 1985 مع تفاوت صارخ في دخول الأفراد . صار نصف سكان بنما يعيشون تحت خط الفقر (والمُعبّر عنه بنصف الدخل المطلوب لتحقيق الضروريات الإنسانية يوميا) ، بينما يعيش ثلث السكان في فقر مدقع (أقل من 50% مما يحصل عليه أصحاب خط الفقر) .
بصفة عامة عادت الأمور في بنما لما كانت عليه ، مع فارق واحد ، أن البلد أصبحت في يد خادم يُعتمد عليه .
بعض النتائج السياسيّة لتدمير بنما :
عدوانية النظام الدولي الجديد واحتقار الأمم المتحدة :
------------------------------------------------------------------
لقد افتتحت الولايات المتحدة عصر "النظام الدولي الجديد" الذي بشّرت به بعد الحرب الباردة باحتلال بنما عام 1989 في عملية سمّتها : (القضية العادلة – just cause) لاحظ التسمية المخادعة التي يضحكون بها على عقول الشعب الأمريكي وشعوب العالم . ووضعت نظام من العرائس المتحركة يخضع لأمرتها في بنما ، وكان حواريوه رجال الاعمال والبنوك وتجار المخدرات .
رفضت واشنطن قرارين لمجلس الأمن يدينان غزو بنما وساعدتها بريطانيا (الكلب الهجومي كما يسمّيها تشومسكي) في الفيتو ، كما اعترضت واشنطن أيضاً على قرار الجمعية العامة الذي اعتبر غزوها بنما (انتهاكا فاضحا للقانون الدولي ولاستقلالية وسيادة ووحدة أراضي بنما) ودعت إلى (انسحاب القوات الامريكية الغازية) .
قال مساعد وزير الخارجية "آبرامز" : (صارت الولايات المتحدة أكثر حرّية في الغزو دون قلق من أن أحدا ما - كالروس مثلاً - يمكن أن يرد في مكان ما في العالم) .
بعد الغزو قام "توماس بيكرنج" السفير الامريكي الى الأمم المتحدة باعلام مجلس الأمن ان المادة (51) (تخوّلنا حق استخدام القوة لحماية بلادنا ومصالحنا) . كما أعلنت وزارة العدل ان اللجوء الى القوة لغزو بنما استنادا إلى المادة (51) ، كان بهدف إلى (الحيلولة دون استخدام اراضي هذه الدولة كقاعدة لترويج المخدرات الى الولايات المتحدة) .
سياسة الكذب والعهر :
----------------------
بعد سنوات أعلنت "واشنطن بوست" عن البيت الابيض (أن بنما ذات الديمقراطية الجديدة قد صارت المركز الاكثر نشاطا لغسيل الأموال من تجارة الكوكايين في نصف العالم الغربي) ، وهي حقيقة قلّلت واشنطن من أهميتها بهدف دعم القادة الديمقراطيين الجدد الذين أوصلتهم لحكم بنما . وحسب "الإيكونومست" زادت تجارة المخدرات عن عهد الجنرال نوريجا ، وكان من بين الذين أُلقي القبض عليهم مسؤول رفيع في الحكومة البنمية الجديدة بتهمة غسيل أموال تجارة الكوكايين الآتية من كولومبيا الى السوق البنمي ، وهذا هو النجاح الذي حققته واشنطن بغزو بنما حين أصبح مثل هؤلاء المسؤولين الفاسدين منتشرين في البنوك البنمية ليضمنوا سيطرة واشنطن على المؤسسات المالية .
سؤال أخير :
-------------
قصف الأحياء السكنية وازهاق أرواح آلاف البناميين فقط لإخراج شخص واحد هو مانويل نوريجا من مخبئه أليس ارهاب دولة ؟
ملاحظة عن هذه الحلقات :
-------------------------
هذه الحلقات تحمل بعض الآراء والتحليلات الشخصية ، لكن أغلب ما فيها من معلومات تاريخية واقتصادية وسياسية مُعدّ عن عشرات المصادر من مواقع إنترنت ومقالات ودراسات وصحف وكتب خصوصاً الكتب التالية : ثلاثة عشر كتاباً للمفكّر نعوم تشومسكي، كتاب أمريكا المُستبدة لمايكل موردانت ، التاريخ السري للامبراطورية الأمريكية لجاك بركنس ، أمريكا والعالم د. رأفت الشيخ، تاريخ الولايات المتحدة د. محمود النيرب، الولايات المتحدة طليعة الإنحطاط لروجيه غارودي، الفردوس الأرضي د. عبد الوهاب المسيري، وغيرها الكثير.