أوهام ادعاء الخلف الطالح مثل ما كان عليه السلف الصالح من أقدار وأحوال والآثار السلبية المترتبة عنها

بالرغم من أن الله تعالى قد خلق الناس مختلفين بحيث لا تتشابه بصمات أصابعهم ،بله تتشابه عقولهم أو مشاعرهم أو أفهامهم أو أقدارهم أو أحوالهم... إلى غير ذلك مما يميز بينهم ، فضلا عن اختلاف عصورهم وبيئاتهم، إلا أن كثيرا منهم يتوهمون بل يدعون الشبه مع غيرهم خصوصا المتميزين من البشر ، وتسكنهم أوهام ادعاء ما كانوا عليه من أقدارهم وأحوالهم لا وجود لصلة بينها وبينهم.

وقد يهون الأمر حينما يكون ادعاء الخلف الواهم ما كان عليه السلف المتميز من  أقدار وأحوال  مجرد أمان تراودهم  سببها الإعجاب بهم ، والرغبة في اقتفاء آثارهم ، والاقتداء بهم علهم يتعلقون بشيء من غبارهم ، لكن الأمر يصير خطيرا حين  ترتبت عن تلك الأوهام مهالك قد تهدد الأغيار في حياتهم وأمنهم وسلامهم .

وإني لأذكر يوما ، جلست فيه  مع جمع من المتدينين لا أعرفهم ، وكان ذلك بطلب من أحد الأصدقاء له صلة بهم ، فدار بينهم حديث عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وصاروا يعددون مناقبه ، وفي نفس الوقت يتحسرون على تقصيرهم في بلوغ شأوه ، وهم يجلدون أنفسهم تقريعا لها  ، وكنت أتباع حديثهم  باستغراب ، ولا أشاركهم فيه إلى أن طلب مني أحدهم أن أدلي بدلوي  بحكم  معرفته بصلتي بالخطابة والوعظ ، فكانت مشاركتي صادمة لهم حين أخبرتهم أنني منشغل بالرقم القياسي الذي حققه يومئذ العداء المغربي هشام الكروج ، وكان ذلك حدث وحديث الساعة ، فرأيت في وجوههم امتعاضا من كلامي ، وبادرني من دعاني إلى الحديث بما يفوق العتاب، ولولا أن الكلفة لم تكن مرفوعة بيننا لقرعني تقريعا ،لأنني ملت بالحديث عن الفاروق إلى الحديث عن الكروج دون وجود ما يربط بينهما زمانا، ومكانا، ومكانة في نظره  ، فطلبت منه أن يتمهل ليسمع مني بقية حديثي ، فسألتهم جميعا : هل فيكم من يستطيع أن يحقق الرقم القياسي الذي حققه هذا العداء ؟ فزادهم سؤالي وجوما ورد أحدهم قائلا : وما علاقة ذلك بحديثنا عن الفاروق ؟ فجاءه جوابي صادما حين قلت : إذا كنتم لا تستطيعون مجاراة  مجرد عداء في عدوه ، فكيف تتجاسرون على مجاراة الفاروق في قدره وأحوالهم ، وأنتم تتحسرون على ذلك ، وكأنه بإمكانكم أن تحذوا حذوه ، وهو ما لا ينبغي لكم ، وما  لا تستطيعون ، وأنتم في غفلة عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعلى  فيه من شأن أصحابه حين قال : " لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " ، فسُقط في أيديهم، وساد  بينهم صمت دل على أنهم فطنوا إلى ركوب أوهامهم غرورا إذ جازوا أقدارهم ،ولم يعرفوا حدودها ، ولا هم جلسوا  دونها كما يفعل العقلاء.

 هذا نموذج من نماذج الأوهام التي تجعل كثيرا من الناس يقعون في قياس خاطئ حين يقيسون أنفسهم بالمتميزين من أصحاب الأقدار العليا والأحوال الخاصة التي لا قبل لغيرهم بها .

وأما أخطر الأوهام ، فحين يتجاسر البعض على توهم إدراك أقدار وأحوال حتى الأنبياء أوالصديقين أومن على شاكلتهم صلاحا  ، قيقيسون أنفسهم عليهم مثل ، وينزلون أنفسهم منازلهم كما يحدث على سبيل المثال  ما يقع للشيعة الذين يتشبهون بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة وقدرا ، في حين ينزلون أهل السنة كلهم منزلة أعدائهم،  ويحملونهم مسؤولية ما يسمونه اعتداء بالخلافة  على الولاية  بعد النبوة،كما أنهم يحملونهم جميعا  مسؤولية دم الحسين رضي الله عنه .  ومن  أمثلة ذلك ما صرح به مؤخرا أحدهم  وهو يخاطب الصهيوني نتنياهو حيث  نزل نفسه منزلة السيدة سكينة رضي الله عنها حين خاطبت يزيد بن معاوية وقد نزله منزلة يتنياهو، والجمهور المتابع له قد وقر في اعتقادهم  أن الأمر كما قال ، وخطابه المهيج للمشاعر يقدح شرارة الحقد على أهل السنة جميعا الذين يحسب عليهم يزيد بن معاوية ، ويتحملون معه مسؤولية دم سبط النبي صلى الله عليه وسلم  ، دون أن يردعهم عن ذلك قول الله تعالى : (( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيئا ولو كان ذا قربى ))، ولا وقر في أذهانهم أن السلف أمة قد خلت ،وصار أمرها إلى الله عز وجل صالحهم وطالحهم، ظالمهم ومظلومهم  ،كما سيصير أمر الخلف إليه صالحهم وطالحهم ، ظالمهم ومظلومهم ، وهو الحاكم بينهم بالعدل يوم الوقوف بين يديه . ولا يحضرهم  قوله تعالى  : (( ونزعنا ما في قلوبهم من غل تجري من تحتهم الأنهار )) إشارة إلى ما كان بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن فيهم آل بيته من خلاف في أمور السياسة  ترتب عنها غل بينهم. فأنى للخلف المتاجر والمرتزق بأحوالهم  هؤلاء  أن ينزعوا ما راكموه من غل ثقيل في صدورهم طيلة قرون ،ولا زلوا على ذلك  بالرغم مما نتج من غلهم من سفك لدماء أبرياء نُزّلوهم  ظلما وسفها منزلة قوم آخرين ،وهم لا نوق لهم ولا جمال في أحداث تاريخية قد مضت في فترة خلت .    

وهنا مكمن الخطورة في أوهام  سخيفة  يدعي فيها خلف مغرضون لهم مصالح ، وهم يريدون عرض الدنيا الزائل، ويقايضونه بآخرتهم، وأحوالهم مختلفة  أيما اختلاف عن أحوال السلف ، وليس من حقهم أن يرتزقوا أو يتاجروا بأحوال غيرهم ، وهم بذلك يتعمدون حشر الدين في صراعاتهم الدنيوية والسياسية  مع من يختلفون معهم في توجههم المحسوب على المعتقد أو في أهوائهم  .

و كأوهام الشيعة أوهام اليهود الذين يتوهمون  في أنفسهم أنهم بمنازل أنبياء الله موسى وداود وسليمان عليهم السلام  ، أوبمنازل الصالحين أمثال طالوت، بينما يعتبرون أهل فلسطين والمسلمين عموما بمثابة العماليق أوبمثابة جالوت ، وبهذا الوهم  ألحقوا الأذى الكبير بأبرياء أكثر من سبعة عقود ، ولا زلوا يبيدونهم إبادة جماعية مع أنهم ليسوا عماليق ، ولاهم جالوت ، بل مسلمون موحدون أبرياء ظلموا ظلما كبيرا. وتشبه اليهود بالأنبياء والصاحين إنما هو متاجرة وارتزاق بأحوالهم  من أجل تبرير اغتصابهم لأرض لا حق لهم فيها  ، وتبرير سفك دماء أهلها وإزهاق أرواحهم بكل وحشية وهمجية.

 والصليبيون كاليهود في أوهامهم  السخيفة  أيضا، وفي المتاجرة والارتزاق بها دون أن نخوض في أمثلة ، فهي معروفة ، وكفى بتاريخ الحروب الصليبية شاهدا على ذلك ماضيا وحاضرا .

و مثل هذه الأوهام أيضا أوهام بعض أصحاب الطرق المحسوبة على التصوف في زماننا هذا والذين ينزلون أنفسهم  منازل السلف  الصالح من أهل التصوف ممن  يذكرون بالاستقامة، وبالورع ، والزهد من دون شطحات ، و لا ادعاء للخوارق والكرامات ، ولا هم قايضوا ورعهم بعرض الدنيا  الزائل أو طمعا فيما في أيدي أتباعهم أو مريديهم . ولقد صرنا نرى اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي  صورا حية  نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر ما يعبر بكل جلاء عن المتاجرة والارتزاق الصارخين بأوهام  بعض من يدعون التصوف والزهد والصلاح حيث يخصص وقت من جلسات شطحاتهم  وترنم سماعهم لابتزاز الأتباع أو المريدين، وجمع الريع لفائدة من ينزلون أنفسهم منازل الذين طلقوا الدنيا  من السلف ، وكان لباسهم الخشن عبارة عن مرقعات حقيقية، لا تناسق بينها  بسبب فقرهم وزهدهم ، بينما صار اليوم عند المتشبهين بهم يطلب من معامل خاصة تنسج  لهم أغلى الأثواب، وتخرج بعضها في شكل مرقعات لا علاقة بالرقع على وجه الحقيقة ، بل متناسقة  الأشكال لا تدل على فقر أو مسكنة أوحرمان أو زهد ، بل تدل على رفه ورغد ، وشتان بين من افتقر حقيقة ،وبين من تفاقر عن غنى .

وبالتصوير الحي تعرض مشاهد تعكس بذخ هؤلاء المتشبهين بالزهاد وهم يركبون البحر على ظهر يُخوت فاخرة ، ويحجزون الدرجات الأولى المعروفة باسم الجناح حين يطيرون في الجو ، ويركبون العربات الفاخرة برا ... وقد يصورون وهم يمارسون من الرياضات ما يمارسه أهل الثراء ... إلى غير من المشاهد الدالة بكل وضوح على أنهم  مجرد طلاب الدنيا، وأنهم لم يطلقوها كما طلقها العارفون بالله الذين كانوا يعرفون أقدارهم ويجلسون دونها .

ومثل هذه الأوهام أوهام المتشبهين بأهل العلم والمعرفة من السلف العالم ،  الذين لا يتشبهون بباعهم الطويل في العلم والمعرفة، ولا بتواضعهم  مع ما كان لهم من صيت ذائع ، بل من هؤلاء المتشبهين بهم  تطاولا وتطفلا من صاروا بقدرة قادر ، و بين عشية وضحاها لا يرضون بدون صفة العلامة التي تطربهم  كثيرا حين يوصفون بها من  طرف من يفسدون بالإطراء الكاذب طباع المغرورين من هذا الصنف  . ومقابل تواضع السلف العالم يظهر المتشبهون بهم  للناس غلظة وفظاظة ، واستعلاء عليهم ،وازدراء لهم مع أنهم في أحاديثهم عن تواضع السلف العالم يأتون  بغريب وعجيب الأخبار ، يصوغونها في بليغ الكلام منثورا ومنظوما ، لكنهم لا حظ لهم من ذلك في سلوكهم ، وعليهم ينطبق المثل العامي القائل : " عالم وظالم "أي عالم دون سلوك  أو قوّال بلا أفعال. ومن المتشبهين  بالسلف العالم من  يطلبون عرض الدنيا الزائل بعلمهم ، ويراكمون الثروات ، ويعيشون الرفه ،والرغد، والبذخ ، مع أنهم ينصحون غيرهم بالرضا بكفاف لا يرضون به . ولا داعي لعرض ما يملكون ، وما يسكنون ، وما يركبون ، وما يطعمون ويشربون ... وما يحظون به من حظوات ، وامتيازات وأرياع متاجرة وارتزاقا بالعلم تشبها بأهله  وادّعاء .

وخلاصة القول أن كل  هذه الأصناف التي استعرضناها في هذا المقال تجمع بينهم أوهام ادعاء ما ليس لهم من أقدار وأحوال من يتشبهون بهم ، وكلهم في نهاية المطاف أصحاب مصالح مكشوفة .

وسوم: العدد 1091